س547: كيف يقول لوقا الإنجيلي عن "هيرودس" أنه ملك اليهودية (لو 1: 5) مع أنه كان يملك على أرض فلسطين بما فيها السامرة والجليل وشرق الأردن؟ وإن كان الإنسان يستطيع أن يكون بارًا وبلا لوم (لو 1: 6) فما الداعي للتجسد الإلهي والفداء؟ وما الداعي لإلقاء قرعة (لو 1: 9) لاختيار من يقوم بالخدمة عوضًا عن الاختيار بحسب السن ومدة الخدمة؟
ج: 1- فعلًا كان "هيرودس الكبير" ملكًا على كل أرض فلسطين، ولكن لأن القديس لوقا كان مزمعًا أن يتكلم عن بشارة الملاك لزكريا الكاهن في هيكل أورشليم الكائن في اليهودية، لذلك ركز الأضواء على كون هيرودس ملك اليهودية، وهو لم ينفي أنه كان ملكًا أيضًا على السامرة والجليل وشرق الأردن. قال أنه "ملك اليهودية" وهو يقصد كل أرض اليهود، كما جاء نفس التعبير في مواضع أخرى راجع (لو 6: 17، 23: 5، أع 10: 37) وجاء في هامش الطبعة اليسوعية ص214: "في إنجيل لوقا، كثيرًا ما تدل "اليهودية" على كل أرض اليهود وتشمل الجليل الذي تنتمي إليه نائين". وفي (لو 3: 1، 5: 17) استخدم القديس لوقا تعبير "اليهودية" للدلالة على منطقة اليهودية فقط الكائنة في جنوب فلسطين. إذًا القديس لوقا كمؤرخ مدقّق يعي جيدًا ويدرك ما يكتبه، وأنه يقصد تمامًا ما يكتبه.
2- كان زكريا كاهنًا مسنًا في فرقة أبيا، وزوجته أليصابات كانت من نسل هارون رئيس الكهنة المختار من اللَّه، ومعنى اسمها "أليشابع" مثل زوجة هرون (خر 6: 23) وهو اسم عبري يعني "اللَّه يُقسم" أو "اللَّه أقسم". أما في "ويكيبيديا الموسوعة الحرة" فقد جاء أن اسم "أليشابع" يتكون من جزئين، الجزء الأول "إيلي" إشارة إلى اللَّه، والثاني "شبع" أي "الوفرة" أو "البركة"، فيمكن ترجمته إلى "بركة اللَّه". وقد يكون اسم "اليزابيث" الإنجليزي مشتق من اسم أليشابع العبري. وزكريا وزوجته: "وَكَانَا كِلاَهُمَا بَارَّيْنِ أَمَامَ الله سَالِكَيْنِ فِي جَمِيعِ وَصَايَا الرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ بِلاَ لَوْمٍ" (لو 1: 6) أي أنهما سلكا في طريق الرب باستقامة وأمانة على قدر طاقتهما. وحفظا وصايا اللَّه بدقة، فحفظهما للوصايا حُسِب لهما برًا كقول الكتاب: "وَإِنَّهُ يَكُونُ لَنَا بِرٌّ إِذَا حَفِظْنَا جَمِيعَ هذِهِ الْوَصَايَا لِنَعْمَلَهَا أَمَامَ الرَّبِّ إِلهِنَا كَمَا أَوْصَانَا" (تث 6: 25)، واختار اللَّه هذا البيت المقدَّس ليتربى فيه وينشأ أعظم مواليد النساء في جو الهدوء والروحانية والقداسة... كان زكريا وأليصابات بارين بلا لوم مثلما قيل عن نوح: "لأَنِّي إِيَّاكَ رَأَيْتُ بَارًّا لَدَيَّ فِي هذَا الْجِيلِ" (تك 7: 1) مع أنه سكر وتعرى، ومثلما قال الكتاب عن أيوب: "وَكَانَ هذَا الرَّجُلُ كَامِلًا وَمُسْتَقِيمًا، يَتَّقِي الله وَيَحِيدُ عَنِ الشَّرِّ" (أي 1: 1) مع أنه كان مضروبًا بالبر الذاتي، وهكذا زكريا البار كان يعوزه الإيمان ليصدق قول رئيس الملائكة الجليل جبرائيل، مما أوقعه تحت طائلة اللوم والعقوبة...
سلك زكريا وأليصابات في الفضيلة بالرغم من أن أليصابات كانت عاقرًا وكان اليهود يعتقدون أن العُقم يُعلن عن الغضب الإلهي، ويُعد مبرّرًا للطلاق، وكان معلمو اليهود "الرابيُّون" يُعلّمون أن هناك سبعة أشخاص محرومين من البركات الإلهيَّة، أولهم غير المتزوج أو المتزوج وليس له نسل، بالرغم من هذه فإن زكريا وأليصابات كان كلاهما بارين أمام اللَّه وبلا لوم، وكم من عاقرات عشن حياة البر والقداسة مثل سارة (تك 11: 30) ورفقة (تك 25: 21) وراحيل (تك 29: 31) وأم شمشون (قض 13: 2) وحنة أم صموئيل النبي (1صم 1: 5) وهكذا عاشت أليصابات حياة البر. وأيضًا زكريا الكاهن كان رجلًا بارًا، فبالرغم من أن زوجته كانت عاقرًا إلاَّ أنه لم يذكر هذا أمام الملاك بل قال: "لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ وَامْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا" (لو 1: 18) فنسب عدم إمكانية الإنجاب لنفسه أولًا ثم لزوجته المتقدمة في أيامها دون أن يذكر عقرها.
وعندما قال الكتاب عن زكريا وأليصابات أنهما بارين، فالبر هنا هو بر نسبي، بمعنى أن دوافعهما كانت بارة، مُدققين في تصرفاتهما بحسب طاقتهما، ومثال على ذلك لو سأل المُدرس سؤالًا ولم يفلح أحد في الإجابة عليه، بينما حاول طالب أن يُجيب، فلم يحقق نسبة نجاح سوى 10% فينال استحسان الجميع. فكون زكريا وزوجته بارين لا يعني أنهما بلا خطية، لأنه ليس مولود إمرأة بلا خطية كقول الكتاب " لَيْسَ بَارٌّ وَلاَ وَاحِدٌ" (رو 3: 10).. " الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعًا. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلاَحًا لَيْسَ وَلاَ وَاحِدٌ" (رو 3: 12) وزكريا الكاهن كان محتاجًا للخلاص الإلهي، وأعلن ابتهاجه بالخلاص الإلهي (لو 1: 69-71). ويقول "بوب أتلي": "تأتي كلمة "بار" هنا في هذا السياق... ليس بحسب ما ورد معناها عند بولس (رو 4). وهذه الكلمة لا تعني الخلو من الخطيئة، بل البار هو شخص يتجاوب بأمانة مع فهمه لإرادة وطرق اللَّه (تث 6: 25)" (63).
كان زكريا وأليصابات بارين بر الناموس كما كان شاول الطرسوسي الذي قال عن نفسه: "مِنْ جِهَةِ الْبِرِّ الَّذِي فِي النَّامُوسِ بِلاَ لَوْمٍ" (في 3: 6)، ولكن بر الناموس عجز عن أن يُخلّص أحدًا: "لأَنَّهُ إِنْ كَانَ بِالنَّامُوسِ بِرٌّ فَالْمَسِيح إِذًا مَاتَ بِلاَ سَبَبٍ" (غل 2: 21).. " وَلكِنْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَتَبَرَّرُ بِالنَّامُوسِ عِنْدَ الله فَظَاهِرٌ لأَنَّ الْبَارَّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا" (غل 3: 11) وقد سبق مناقشة هذا الموضوع بالتفصيل فيُرجى الرجوع إلى كتابنا: "تفسير رسالة غلاطية".
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
3- كان إلقاء القرعة أمر مُتعارف عليه، يعبّر عن الاختيار الإلهي، وكان الشعب كله يقبل حُكم القرعة، وقد تم تقسيم الأرض إلى أسباط إسرائيل عن طريق القرعة (عد 26: 55) وتم تحديد من خان العهد في أريحا عن طريق القرعة (يش 7: 16-18) وأُختير أول ملك في إسرائيل بالقرعة أيضًا (1 صم 10: 20، 21)، وقال سليمان الحكيم: "الْقُرْعَةُ تُلْقَى فِي الْحِضْنِ وَمِنَ الرَّبِّ كُلُّ حُكْمِهَا" (أم 16: 33). وفي العهد الجديد تم اختيار متياس الرسول بالقرعة (أع 1: 26). وقد نظم داود النبي خدمة الكهنة في الهيكل (1 أي 24: 10) نظرًا لكثرة عددهم، فقسَّمهم إلى (24) فرقة، وكانت فرقة أبيا هيَ الفرقة الثامنة في الترتيب، وكانت كل فرقة تخدم لمدة أسبوع، فتستغرق هذه الفرق ستة أشهر، ثم تُعاد الدورة ثانية، وحيث أنه عدد كل فرقة في أيام زكريا كان نحو ألف كاهن، لذلك لا مناص من إلقاء القرعة على من سيقوم بالخدمة صباحًا، ومن سيقوم بالخدمة مساءً، ونوع الخدمة التي يؤدونها طوال الأسبوع، فيتم تقديم حملًا ابن سنة ذبيحة مُحرقة في الخدمة الصباحية وكذلك في الخدمة المسائية، كما يُقدمون تقدمة دقيق وزيت وخمر سكيب على الذبيحة، كما يرفع الكاهن بخورًا أمام مذبح البخور في الساعة الثالثة (9 صباحًا) والتاسعة (3 ظهرًا)، وسعيد هو الكاهن الذي تقع عليه القرعة ولو لمرة واحدة طوال عمره، فتقديم الكاهن البخور أمام مذبح البخور أشرف عمل يقوم به في حياته، ربما مرة واحدة لا تتكرَّر.
ويقول "القس ليون موريس": "وتقديم البخور كان يُعتبر امتيازًا عظيمًا، وما كان يُسمح للكاهن أن يُقدم البخور أكثر من مرة واحدة طوال حياته، ولهذا فالبعض لم يكن يحظَ بهذا الامتياز. ومن ثم كانت أسعد لحظات زكريا هيَ تلك التي قدم فيها البخور، ولم يبين لوقا هل قدم زكريا البخور في تقدمة الصباح أم المساء. وفي كلتا الحالتين، كان عليه أن يدخل إلى المذبح مع كهنة آخرين، إلاَّ أنه كان عليهم أن ينسحبوا ويتركوه وحده. وعند إعطاء الإشارة كان عليه أن يقدم البخور، وكان المصلون ينتظرون خارجًا حتى يفرغ الكاهن من أداء مهمته" (64). وليس معنى وقوع القرعة على عدد من الكهنة أن بقية الكهنة ينصرفون إلى بيوتهم، إنما كانت فرقة الكهنة الموكلة بالخدمة تُقيم في أورشليم طوال أسبوع خدمتها، مرتين في العام: "وَلَمَّا كَمِلَتْ أَيَّامُ خِدْمَتِهِ مَضَى إِلَى بَيْتِهِ" (لو 1: 23).. لقد أكمل البار زكريا الكاهن خدمته في موضع البخور رغم خرسه وصممه حتى أكمل خدمته وانتهى أسبوع الخدمة ومضى إلى بيته.
4- بينما كان يرفع زكريا الكاهن البخور المكوَّن من أربعة عطور متساوية المقادير (خر 30: 34-36) على مذبح البخور في القدس بمفرده وحدث فجأة أمر عجيب غير متوقع، إذ نزل ملاك الرب من السماء ووقف على يمين مذبح البخور: "فَلَمَّا رَآهُ زَكَرِيَّا اضْطَرَبَ وَوَقَعَ عَلَيْهِ خَوْفٌ" (لو 1: 12) فواضح أن سبب اضطراب زكريا وخوفه:
أ– الظهور المفاجئ لرئيس الملائكة جبرائيل بمجد عظيم.
ب- منذ أربعة قرون صمت الوحي الإلهي وانقطعت الرؤى والأحلام وتوقف صوت النبوءات والإعلانات، فظهور ملاك من السماء بعد كل هذه السنين كان أمر مفاجئ.
جـ- تشوهت معرفة اللَّه لدي البشر، فاستقر في ذهن الكثيرين أن اللَّه منتقم مُرعب ومُخيف، فربما زكريا ظنَّ أنه ارتكب خطأ بدون قصد، فجاء ملاك الرب لينتقم منه.
د– خوف زكريا أمر عادي يتوافق مع الطبيعة البشرية، وهذا ما حدث مع جدعون فعندما رأى ملاك الرب قال: "آهِ يَا سَيِّدِي الرَّبَّ لأَنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَلاَكَ الرَّبِّ وَجْهًا لِوَجْهٍ. فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ السَّلاَمُ لَكَ. لاَ تَخَفْ. لاَ تَمُوتُ" (قض 6: 22، 23) وهكذا حدث مع منوح وزوجته (قض 13: 20-23)، ودانيال الرجل المحبوب عندما ظهر له رئيس الملائكة جبرائيل يقول: "وَلَمَّا جَاءَ خِفْتُ وَخَرَرْتُ عَلَى وَجْهِي" (دا 8: 17) [راجع أيضًا (دا 10: 7-10)].. ظهر ملاك الرب بمجد عظيم للرعاة الساهرين: "فَخَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا" (لو 2: 9). وعندما رأى يوحنا الرائي شبه ابن إنسان يقول: "فَلَمَّا رَأَيْتُهُ سَقَطْتُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ كَمَيِّتٍ" (رؤ 1: 17).. لقد إضطرب زكريا فقال له الملاك: "لاَ تَخَفْ يَا زَكَرِيَّا" (لو 1: 13)، ومن المُلاحظ أن رسالة الطمأنينة وردت في إنجيل لوقا عدة مرات في عدة مواقف، مما يؤكد أن عقلية هذا الكاتب عقلية مرتبة منظمة (لو 1: 13، 30، 2: 10، 5: 10، 8: 50، 12: 7، 32).
_____
(63) لوقا المؤرخ - إنجيل لوقا، ص34.
(64) ترجمة نيكلس نسيم - التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - العهد الجديد إنجيل لوقا، ص64، 65.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/547.html
تقصير الرابط:
tak.la/wzssds2