س546: ما الذي دفع لوقا لكتابة إنجيله بعد أن كتب مرقس ومتى إنجيليهما؟ وأين هيَ الكتابات التي أشار إليها لوقا (لو 1: 1)؟ وهل كان كل واحد يكتب كما يحلو له وبحسب رؤيته الشخصية؟ وهل المقصود بالكلمة (لو 1: 2) كلمة الإنجيل؟ وهل المقصود بقوله "على التوالي" (لو 1: 3) الترتيب الزمني؟ ومن هو ثاؤفيلس، هل هو شخصية حقيقية أم أنه كناية عن كل إنسان مُحب لله؟
ج: 1- ما هو الدافع الذي دفع لوقا لكتابة إنجيله بعد أن كتب مرقس ومتى إنجيليهما؟
أ– لأن خدمة الآخرين لا تُلغي خدمتنا، ولا سيما أن اللَّه قد حبىَ القديس لوقا موهبة الكتابة، وحُسن الأسلوب، وسلاسة التفكير، ومنطق الأديب الماهر، ودقة الطبيب... إلخ هذه وزنات كان لا بد للقديس لوقا أن يُتاجر بها ويستثمرها ولا يطمرها في الأرض.
ب- كان في جعبة القديس لوقا الكثير مما لم يكتبه القديسين مرقس ومتى، وهيَ الانفرادات التي انفرد بها في إنجيله (يُرجى الرجوع إلى س541)، وأيضًا كانت له إضافات لما كتبه مارمرقس ولوقا الإنجيلي... لقد حاز كنزًا عظيمًا نتيجة لقاءاته مع السيدة العذراء مريم والآباء الرسل وبولس الرسول، ومئات خدام الكلمة الذين عاينوا السيد المسيح وتتبعوا خطواته، فجاءت شهادتهم شهادة العيون والأذان، ويقول القديس لوقا: "رَأَيتُ أَنَا أَيْضًا إِذْ قَدْ تَتَبَّعتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيق" (لو 1: 3).
ومن المفروغ منه أن القديس لوقا تعرَّف على مارمرقس، لأن كليهما اجتمعا في روما مع بولس الرسول كاروز الأمم (كو 4: 10، 14، فل 24) وأنه اطلع على ما كتبه القديس مرقس بدليل أنه اقتبس منه (350) آية من إجمالي (660) آية، وأيضًا اتبع نفس منهج إنجيل مرقس في تسلسل الأحداث، دون أن يحاكيه محاكاة ساذجة، إنما طبع بصمته على كل حدث واختار منه ما يحقق هدفه.
2- أين الكتابات التي أشار إليها القديس لوقا: "إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّة" (لو 1: 1)؟ وهل كل واحد كان يكتب كما يحلو له وبحسب رؤيته الشخصية..؟ هذه الكتابات كانت مجرد عمل بشري محض لم يُوحى به من الروح القدس، لذلك لم تحافظ عليه الكنيسة فاندثرت وانتهت، من جهة الحق الذي فيها نجده كاملًا من الأناجيل المقدَّسة، وإن كانت حملت هفوات وهنَّات فقد اختفت مع الزمن. ويقول "ماك نيكل": "إذ كان كثيرون قد أخذوا بتأليف قصة". هذه الكلمات هيَ الخبر اليقين الوحيد الذي بحوزتنا عن وجود سجلات مكتوبة قبل الشروع في تدوين الأناجيل الثلاثة الأولى. لكن تلك المؤلفات اندثرت جميعها. في الأمور المتيقنة عندنا... أي حقائق الإنجيل الثابتة" (58).
3- هل المقصود بالكلمة "خُدَّامًا لِلْكَلِمَةِ" (لو 1: 2) كلمة الإنجيل..؟ المقصود بالكلمة هنا، بحسب تفسيرات الآباء، أقنوم الكلمة، مثلما قال يوحنا الحبيب: "وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ" (يو 1: 14)، فيقول "القديس كيرلس الكبير": "فالكلمة أصبح من الممكن رؤيته بسبب الجسد الذي هو منظور وملموس وصُلب، بينما الكلمة ذاته غير منظور. ويوحنا أيضًا يقول في رسالته: "اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا الَّذِي شَاهَدْنَاهُ، وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ. فَإِنَّ الْحَيَاةَ أُظْهِرَتْ" (1 يو: 1، 2). ألا تسمعونه يتحدث عن الحياة على أساس أنها يمكن أن تُلمس؟ وهل يقول هذا لكي يفهموا أن الابن صار إنسانًا وصار منظورًا من جهة الجسد، ولكنه غير منظور من جهة لاهوته" (59).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
4- هل قصد القديس لوقا من قوله: "أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي" (لو 1: 3) الترتيب الزمني..؟ لقد جمع القديس لوقا مادته ورتبها وصنفها، فربما قصد من قوله: "أَنْ أَكْتُبَ عَلَى التَّوَالِي" أي أكتب من البداية للنهاية بدون توقف، فلم يقصد الترتيب الزمني، بدليل أنه في عدة مواضع جمع الأحداث المتشابهة معًا بغض النظر عن أوقات حدوثها، ويرى "جيلدنهايز" Geldenhys أن عبارة: "عَلَى التَّوَالِي" Kathexes تعني أيضًا الترتيب المنطقي (راجع القس ليون موريس - التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - العهد الجديد إنجيل لوقا، ص62) فجاء ترتيب القديس لوقا للأحداث أحيانًا على أساس موضوعي وأحيانًا على أساس روحي، وليس بالضرورة على أساس زمني.
5- من هو ثاوُفيلُس (لو 1: 3) هل هو شخصية حقيقية، أم أنه كناية عن كل إنسان مُحب لله..؟ لا يوجد خبر أكيد عن شخصية ثاوفيلس وموطنه، فقالوا عنه:
أ– أنه أحد أشراف الإسكندرية من أصل أنطاكي مثل القديس لوقا.
ب- أنه حاكم أخائية.
جـ- أنه رجل شريف عاش في إيطاليا.
د– أنه لا يعبر عن شخصية حقيقية تاريخية، إنما هو كناية عن كل اليونانيين.
ونكاد أن نُجزم أنه بالرغم من أن اسم "ثاوُفيلُس" Theophilos يعني "المُحب لله"، فإنه كان يمثل شخصية حقيقية تاريخية تعلَّم الإيمان المسيحي، ولذلك يقول له القديس لوقا: "لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِهِ" (لو 1: 4)، وأنه كان ذو مركز مرموق، ولذلك دعاه " الْعَزِيزُ" مثلما وصف فيلكس الوالي: "الْعَزِيزِ فِيلِكْسَ الْوَالِي" (أع 23: 26) وفستوس " الْعَزِيزُ فَسْتُوسُ" (أع 26: 25)، وجاءت في بعض الترجمات "يا صاحب العزة ثاوُفيلُس" (راجع التفسير المسيحي القديم - الإنجيل كما دوَّنه لوقا ص30). ومن المؤكد أن القديس لوقا عندما كتب إنجيله وسفر الأعمال لثاوُفيلُس فإنه كان يضع في الحسبان أن قراءة هذين السفرين لم يكونا قاصرين على ثاوُفيلُس، إنما هو كمؤرخ مُدقَّق يكتب للتاريخ قصة السيد المسيح وقصة نشأة المسيحية.
وجاء في "الكتاب المقدَّس الدراسي": "الإنجيل موجه بصفة خاصة إلى ثاوفيلس" (لو 1: 3)، ويعني اسمه "الذي يحب الله" ونكاد نُجزم بأنه يشير إلى شخص مُحدَّد أكثر مما يشير إلى من يحبون اللَّه بصفة عامة. كما يشير الربط بين "صاحب السمو" والاسم إلى شخص بعينه، كما يؤكد الفكرة القائلة بأنه كان زعيمًا رومانيًا أو على الأقل يتمتع بمنصب رفيع أن ثروة كبيرة، لعله كان راعي لوقا، والمسئول عن تدوين كتاباته وتوزيعها. كان مثل هذا الإهداء الموجه للناشر أمرًا شائعًا آنذاك. غير أن ثاوفيلس لم يكن مجرد ناشر فحسب، فرسالة هذا الإنجيل تهدف إلى تعليمه (لو 1: 3) وكذلك تعليم أولئك الذين يصل إليهم" (60).
ويقول "أغسطينوس جورج": "يُهدي لوقا كتابه إلى ثاوفيلس" (أع 1: 2) جاريًا بذلك على عادة المؤلفات الهلنستية. ومن الواضح أن الشخص الذي يوجَّه إليه الكتاب ليس هو المُرسَل إليه الوحيد، فإن لوقا يقصد في الواقع جمهورًا كبيرًا. ولكن لا بد أن يكون للمؤلف كفيل رسمي، لا بل ربما مشجع يساعده على انتشاره" (61).
ويقول "الخوري بولس الفغالي": "فلوقا مثل أي مؤرخ مدقّق وكاتب عظيم يضع في مقدمة كتابه الأهداف فمثلًا في مقالة كتبها "ديوسكوريوس" الطبيب اليوناني في القرن الأول الميلادي، استهل مقالته بقوله: "مع أن كثيرين من القدماء كما من المحدثين جمعوا معطيات عن الأدوية، عن مفعولها ونتائجها، سأحاول أيها العزيز (فيلتاتي) أريس أن أبيّن لك أنني لم أقم بهذا الدرس باطلًا وعبثًا. ونجد نفس الأمر عند يوسيفوس أشهر مؤرخ يهودي في القرن الأول الميلادي"(62).
_____
(58) مركز المطبوعات المسيحية - تفسير الكتاب المقدَّس، جـ 5 ص171.
(59) ترجمة د. نصحي عبد الشهيد - تفسير إنجيل لوقا للقديس كيرلس الإسكندري، ص26.
(60) الكتاب المقدَّس الدراسي، ص2407.
(61) ترجمة الأب صبحي حموي اليسوعي - دراسة في الإنجيل كما رواه لوقا، ص7.
(62) إنجيل لوقا جـ 1 - ظهور الكلمة والرسالة في الجليل، ص88.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/546.html
تقصير الرابط:
tak.la/jscm8b4