س545: إذا كان لوقا نفسه يقول أنه ألفَ قصة أو رواية مثل بقية المؤلفين، أي أنه وضع أشخاص الرواية بحسب رؤيته الشخصية، وأنطقهم بما يُريد، ليصل للهدف الذي ينشده... فأين الوحي الإلهي من هذا؟!! وإذا كان لوقا ذاته لم يدّعي أنه كتب بوحي من الروح القدس، فلماذا قبلت الكنيسة إنجيله؟ وهل الروح القدس يوحي لشخص لكي يكتب رسالة إلى صديق له؟ ولو كان ما كتبه لوقا كلامًا مُوحى به فما الداعي أن يُدقّق فيما يكتبه؟ وهل هو يفهم ويُدرك أكثر من الروح القدس؟
ج: 1- واضح كم المغالطات التي ارتكبها الناقد، ومن أمثلة هذه المغالطات:
أ– قوله بأن: "لوقا نفسه يقول أنه ألّف قصة أو رواية".. لم يقل الإنجيل هذه المعلومة المغلوطة، إنما قال: "إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ" (لو 1: 1).
أولًا: الذين ألَّفوا هم الذين سبقوا القديس لوقا في الكتابة.
ثانيًا: أن المقصود بالتأليف هنا ليس الاختراع والتخيل، لأنه قال: "فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا" (لو 1: 1).
ثالثًا: قال القديس لوقا: "رَأَيتُ أَنَا أَيضًا... أَنْ أَكْتُبَ".
ب- من أين جاء الناقد بأن القديس لوقا وضع أشخاص الرواية بحسب رؤيته الشخصية، وأنطقهم بما يُريد، ليصل للهدف الذي ينشده؟!.! لم يذكر القديس لوقا أي شخصية في إنجيله من وحي الخيال، فجميع الشخصيات التي ظهرت في إنجيله هيَ شخصيات حقيقية تاريخية (باستثناء بعض الشخصيات التي ظهرت في الأمثال، وهيَ أيضًا من واقع الحياة، نطق بها السيد المسيح، وهكذا سجلها الإنجيلي بكل دقة). وما نطقت به هذه الشخصيات الحقيقية هو ما سجله القديس لوقا، دون أن يضع كلمة واحدة على أفواههم لم ينطقوا بها وتغير المعنى.
2- ما كتبه القديس لوقا ليس قصة من وحي الخيال، فلم يُطلق العنان لخياله ليؤلف ويخترع رواية بعيدة عن أرض الواقع، من بنات أفكاره، بل تحرى الدقة فيما وصل إليه من خدام الكلمة الذين كانوا من البدء معاينين ومتابعين الأحداث، مثل بطرس الرسول الذي يقول: "أَنَا الشَّيْخَ رَفِيقَهُمْ وَالشَّاهِدَ لآلاَمِ الْمَسِيحِ" (1 بط 5: 1) فهو شاهد لآلام المسيح سواء في بستان جثسيماني، أو دار رئيس الكهنة، ومثل يوحنا الحبيب الذي يقول: "الَّذِي سَمِعْنَاهُ، الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا الَّذِي شَاهَدْنَاهُ وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَا مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاة" (1 يو 1: 1) وغيرهما من الذين قال عنهم السيد المسيح: "وَتَشْهَدُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا لأَنَّكُمْ مَعِي مِنَ الابْتِدَاءِ" (يو 15: 27).. لقد كتب القديس لوقا كما تسلّم من أيدي أمينة مصدر ثقة: "كَمَا سَلَّمَهَا إِلَيْنَا.." (لو 1: 2) مثل قول بولس الرسول: "فَإِنَّنِي سَلَّمْتُ إِلَيْكُمْ فِي الأَوَّلِ مَا قَبِلْتُهُ أَنَا أَيْضًا أَنَّ الْمَسِيحَ مَاتَ مِنْ أَجْل خَطَايَانَا" (1 كو 15: 3).. " خَلاَصًا هذَا مِقْدَارُهُ. قَدِ ابْتَدَأَ الرَّبُّ بِالتَّكَلُّمِ بِهِ ثُمَّ تَثَبَّتَ لَنَا مِنَ الَّذِينَ سَمِعُوا" (عب 2: 3). فالذين سمعوا والذين شاهدوا، شهود الأذن والعين، هم الذين أوصلوا الأخبار لبولس الرسول والقديس لوقا. ويقول "العلامة أوريجانوس": "الأمور المتيقنة عندنا". لقد عرف القصة بكل يقين الإيمان والعقل فلم يتردد في تصديقها، وهذا حال المؤمن لقد بلغ قمة الإيمان كقول النبي: "خَبَأْتُ كَلاَمَكَ فِي قَلْبِي" (مز 119). لذلك يقول الرسول عن المؤمنين الأقويا الأشداء أنهم متأصًلون ومتأسسون في الإيمان (أف 3: 18)" (54).
3- أكد القديس لوقا أن ما يكتبه حقائق يقينية، بدليل:
أ– قوله: "قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا" (لو 1: 1).
ب- مصدر ما يكتبه شهود عيان موثوق فيهم: "كَانُوا مُنْذُ الْبَدْءِ مُعَايِنِينَ وَخُدَّامًا لِلْكَلِمَةِ" (لو 1: 2)، وهذا يعكس تواضع القديس لوقا الذي يصرح بأنه ليس هو مصدر هذه المعرفة، إنما يُرجِع الفضل لذويه.
جـ- تحرى القديس لوقا الدقة: "إِذْ قَدْ تَتَبَّعْتُ كُلَّ شَيْءٍ مِنَ الأَوَّلِ بِتَدْقِيق... لِتَعْرِفَ صِحَّةَ الْكَلاَمِ الَّذِي عُلِّمْتَ بِه" (لو 1: 3، 4).
أما الذين ينفون الوحي، الرسائل الشخصية قول مردود عليه لأن الكنيسة قبلت رسائل بولس الرسول إلى تيموثاوس، وتيطس، ورسالتي يوحنا الثانية والثالثة، فما دامت هذه الرسائل تتناول شئون المؤمن بصفة عامة يستفيد منها الجميع، فمثلها مثل بقية الأسفار القانونية.
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
4- الذين يقولون لو كان ما كتبه لوقا كلامًا موحى به، فما الداعي أن يدقّق فيما يكتبه؟ وهل هو يفهم ويدرك أكثر من الروح القدس..؟ في الحقيقة أن مثل هؤلاء النُقَّاد لا يدركون مفهوم الوحي في المسيحية، وأن الوحي الإلهي لا يُلغي الجانب البشري في تسجيل كلمة اللَّه، فالوحي لا يُلغي شخصية الكاتب وأسلوبه وثقافته وعلمه ومعرفته، فالأسفار المقدَّسة كما قلنا مرارًا وتكرارًا هيَ نتاج عمل مزدوج، عمل إلهي كامل وعمل بشري كامل... من جهة القديس لوقا فإنه بحث وتقصى الحقائق ودقَّق واجتهد وتحرى عن كل معلومة واستوضح ما غمض عليه بعناية شديدة، ومن جهة أخرى الوحي الإلهي فإنه أنار ذهنه وأرشده وساقه إلى ما يُكتب وعصمه من أي خطأ وساعده على انتقاء الألفاظ، دون أن يقيد حريته في الأسلوب والتعبير، ولأن البصمة البشرية واضحة في الأسفار المقدَّسة لذلك يسهل عليك أن تميّز بين أسلوب هذا وأسلوب ذاك. وفي هذه المقدمة الرائعة (لو 1: 1-4) التي بدأ بها القديس لوقا إنجيله يظهر الجهد البشري في تسجيل الأسفار المقدَّسة. حقًا أن هؤلاء الكتبة لم يكونوا آلات جامدة، تكتب ما يُملى عليها، إنما كانوا خلائق عاقلة يُسخرون كل إمكاناتهم البشرية وذكائهم ومشاعرهم ويعملون عقولهم، وفي نفس الوقت يُساقون ويحملون من روح اللَّه القدوس. ويقول "وليم ماكدونالد": "الوحي لا يعني أن اللَّه يأسر عقول الناس وقدراتهم، بل أنه يعبر عن مشيئته باستخدام عقول الناس وقدراتهم، والوحي أيضًا لا يعطل شخصية الكاتب القديس ليجعلها مجرد آلة بيد اللَّه، بل يدعم شخصيته ليجعل منه شاهدًا حيًّا للَّه" (55).
5- كتب القديس لوقا إنجيله في حياة الرسولين العظيمين بطرس وبولس، وبقية الآباء الرسل، فلو كان هناك شططًا عن الحقيقة، تُرى هل كانت الكنيسة الأولى تقبله؟!! وهل كان يجمع جميع الآباء الأولين القديسين على قانونيته؟!.! ولو كان هناك شكًا في هذا الإنجيل، أي شك بأي نوع، فلماذا لم تستبعده الكنيسة كما استبعدت عشرات الأناجيل أبوكريفا؟!! فالمبدأ الذي اتخذته الكنيسة في تقرير قانونية الأسفار هو: "إذا خامرك الشك في سفر ما فالقه جانبًا".
وجاء في "كتاب الهداية": "أجمع جميع أئمة المسيحيين القدماء والمتأخرين على أن إنجيل لوقا نزل (كُتب) بوحي إلهي مثل إنجيل متى ومرقس ويوحنا، ولم يشك أحد في صحته، فلو كان بدون وحي إلهي لنبذه أئمة الدين لأنهم كانوا أحرص الناس على ديانتهم ولأنهم كانوا من العلماء المتضلعين.
(ثانيًا) أن الحواريين (الرسل) بطرس وبولس ويوحنا اعتبروا هذا الإنجيل من الكتب الموحى بها لأنه كان متداولًا في عصرهم، فلو كان غير إلهامي لما صادقوا على التعبد به وهم أعمدة الدين وأركانه وقولهم الفصل.
(ثالثًا) أجمع أئمة الدين القدماء على أن بولس نظره وصدَّق عليه واعتبره فذلكة بشارته وخلاصتها، فهو كرسائله.
(رابعًا) أن عليهِ مسحة الوحي الإلهي كغيره من الكتب المقدَّسة، فمع بساطته ونزاهته فهو سام فوق الطاقة البشرية.
(خامسًا) موافقته لباقي الأناجيل وعدم مناقضته لها في شيء مما يدل على أن مصدرها واحد وهو اللَّه" (56).
ويقول "وليم باركلي" عن مقدمة إنجيل لوقا (لو 1: 1-4): "أنها أحسن ما كُتب في اليونانية في العهد الجديد، إذ استخدم لوقا صيغة المقدمات التي استعملها مشاهير مؤرخي اليونان أمثال هيرودتس كاتب التاريخ اليوناني الشهير، الذي استهل بحوثه بالقول: "هذه هيَ بحوث هيرودتس من هاليكارنثوس"، وعلى منواله نسج ديونيسيوس المؤرخ الكبير... إذ قال في بدء تاريخه: "قبل أن أبدأ في الكتابة جمعت معلومات بعضها من أفواه المتعلمين الأقويا الذي عاشرتهم... " على هذا النمط بدأ لوقا قصة إنجيله في لغة يونانية رائعة وبأسلوب جَذِل رصين متبعًا بل مستخدمًا أجمل التعبيرات وأفضل الأساليب التي عرفها... لا يستطيع أحد أن يُنكر أن إنجيل لوقا "موحى به" وهو يذكر في بدء كلامه أن كتاباته جاءت في بحث تاريخي دقيق، ومن ذلك نتعلم أن وحي اللَّه لا يأتي لرجل مكتوف اليدين، خامل الذهن، بل للعقل المفكّر الباحث والمنقَّب"(57).
6- في "ترجمة لجنة قداسة البابا كيرلس السادس" جاءت: "إذ كان كثيرون قد أخذوا يُدوّنون قصة تلك الأحداث التي جرت يقينًا بيننا".. وفي ترجمة "كتاب الحياة": "لما كان كثيرون قد أقدموا على تدوين قصة في الأحداث التي تمت بيننا".. (لو 1: 1)..إذًا الكلمة اليونانية التي تُرجمت "تأليف" تحتمل أيضًا معنى "تدوين"، فإن كان فاندايك ترجمها إلى "تأليف" فإن هناك ترجمات أخرى ترجمتها "تدوين".
_____
(54) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب لوقا، ص18.
(55) الإنجيل بحسب لوقا ص248.
(56) الهداية جـ 3 ط 1900م، ص94، 95.
(57) ترجمة القس مكرم نجيب - تفسير العهد الجديد - إنجيل لوقا، ص19-21.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/545.html
تقصير الرابط:
tak.la/n52knbc