س 53 : مَن يضمن لنا أن ما تم تدوينه بعد ربع قرن من الزمان كان صحيحًا رغم ضعف الذاكرة البشرية؟
ج : نحن نثق ثقة تامة أن ما دوّن في الأناجيل هو ما كُرز به بواسطة الإنجيل الشفاهي، واستقر في ذاكرة ووجدان الكنيسة، دون أي تشويه أو تحريف، وذلك للأسباب الآتية:
1ــ عندما كُتبت الأناجيل كان هناك كثيرون من الذين عاصروا السيد المسيح وشاهدوا معجزاته وسمعوا عظاته، ما زالوا على قيد الحياة، وكثيرون من الذين شاهدوا السيد المسيح بعد قيامته ما زالوا باقين: " وَبَعْدَ ذلِكَ ظَهَرَ دَفْعَةً وَاحِدَةً لأَكْثَرَ مِنْ خَمْسِمِئَةِ أَخٍ أَكْثَرُهُمْ بَاق إِلَى الآنَ. وَلكِنَّ بَعْضَهُمْ قَدْ رَقَدُوا" (1كو 15 : 6)، فلم يكن الأمر إذًا متعلق بشهادة إنسان واحد، أو عدد قليل، بل الموضوع متعلق بشهادة شعب كامل في أرض فلسطين من اليهودية للجليل مرورًا بالسامرة، فقد كان السيد المسيح لا يكف عن التجوال من مكان إلى آخر يكرز ببشارة الملكوت ويشفي المتسلط عليهم إبليس والأمراض المستعصية، يشهد بهذا التلاميذ الاثنى عشر، وأيضًا السبعون رسولًا، وكل الجموع التي أكلت من معجزتي الخبز والسمك، إذًا الأمر يتعلق بالشعب كله بمختلف طبقاته وفئاته، فعندما كُتبت الأناجيل تلقفتها الأيدي وفرحت بها القلوب ولم يعترض عليها إنسان واحد، ولو كان هناك شبهة تحريف ما صمتت هذه الحشود.
2ـــ جاءت كرازة وتعاليم الرسل علانية مثلما كرز معلمهم، ولم تكن كرازتهم قاصرة على قرية ولا مدينة ولا منطقة، بل عمَّت الآفاق في فلسطين وخارجها إلـى أقاصي الأرض، وحفظت تعاليمهم المستقاة من تعاليم معلمهم الصَّالح في القلوب. واتخذ بولس الرسول خط كرازي منفصل عن كرازة الرسل، وكان معه فريق كبير للكرازة، وقام برحلاته التبشيرية، وعندما صعد إلى أورشليم بعد أربعة عشر عامًا ليعرض إنجيله على أعمدة الكنيسة بطرس ويعقوب ويوحنا، وجدوا تعاليمه وكرازته هيَ ذات تعاليمهـم وكرازتهم، فسرُّوا به وأعطوه مع برنابا يمين الشركة (غل 2 : 9).. ولو كان هؤلاء الكارزون بالإنجيل الشفاهي أو الكارزون بالإنجيل المكتوب، قد غيَّروا شيئًا من الحقيقة، فكيف نجحوا في كرازتهم؟! وكيف أيدهم الله بالمعجزات الباهرات..؟! قال بولس الرسول عن الإنجيل: "قَدِ ابْتَدَأَ الرَّبُّ بِالتَّكَلُّمِ بِهِ ثُمَّ تَثَبَّتَ لَنَا مِنَ الَّذِينَ سَمِعُوا. شَاهِدًا اللهُ مَعَهُمْ بِآيَاتٍ وَعَجَائِبَ وَقُوَّاتٍ مُتَنَوِّعَةٍ وَمَوَاهِبِ الرُّوحِ الْقُدُسِ حَسَبَ إِرَادَتِهِ" (عب 2 : 3، 4) هكذا كان الإنجيل، وهكذا كانت الكرازة، وهكذا عاشت الكنيسة... من مجد إلى مجد.
3ـــ نحن نؤمن أن البشيرين رجال الله القديسين كتبوا مسوقين ومحمولين بالـروح القدس، فالروح القدس كان يرافق الكاتب منذ اللحظة التي بدأ فيه الكتابة إلى أن كفَّ عن الكتابة، يرشده وينير ذهنه وينشط ذاكرته ويعصمه ويساعده على انتقاء الألفاظ، فالناتج النهائي هو عمل كامل إلهيًّا وبشريًّا، ويقول "القمص عبد المسيح بسيط": " وقد ساعدت أساليب الحفظ والوثائق (المحفوظات والمذكرات) المكتوبة على حفظ الإنجيل الشفوي ووصوله إلى درجة كبيرة من الثبات قبل تدوين الإنجيل المكتوب بفترة طويلة، فقد كان التسليم الشفوي المحفوظ بعمل الروح القدس دقيق جدًا والاعتناء بحفظه يفوق الوصف، وكان للمذكرات المكتوبة قيمة عظمى سواء قبل تدوين الإنجيل أو عند التدوين" (306).
وقد استطاعت الكنيسة بسهولة الفصل بين الأناجيل الصحيحة والأناجيل المنحولة المزورة أبو كريفا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فقبلت الأناجيل الصحيحة وأقرت قانونيتها، ورفضت عشرات الأناجيل أبو كريفا.
4ـــ كانت تعاليم السيد المسيح سهلة وسلسة وجذابة، يسهل حفظها، فكان يكلّمهـم بأمثال، وكل مَثَل ربما يمثل قصة قصيرة من واقع الحياة مثل مَثَل الزارع ومَثَل السامري الصَّالح، والوزنات، والخميرة، والوكيل... إلخ: " هذَا كُلُّهُ كَلَّمَ بِهِ يَسُوعُ الْجُمُوعَ بِأَمْثَال وَبِدُونِ مَثَل لَمْ يَكُنْ يُكَلِّمُهُمْ" (مت 13 : 34)، كما كانت مقولات السيد المسيح قصيرة ومأثورة، من واقع الحياة اليومية، مثل: " اطْلُبُوا أَوَّلًا مَلَكُوتَ اللهِ وَبِرَّهُ وَهـذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ" (مت 6 : 33).. " لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ بَلِ الْمَرْضَـى" (مر 2 : 17).. " السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ" (مر 2 : 27).. " بِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ" (مر 4 : 24).. " فَإِنْ كَانَ النُّورُ الَّذِي فِيكَ ظَلاَمًا فَالظَّلاَمُ كَمْ يَكُونُ" (مت 6 : 23).. " أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا ِللهِ للهِ" (مر 12 : 17).. " لأَنَّهُ حَيْثُمَا تَكُنِ الْجُثَّةُ فَهُنَاكَ تَجْتَمِعُ النُّسُورُ" (مت 24 : 28)، وإن كانت بعض أمثاله أو أقواله حملت أسرارًا، كان يكشفها لتلاميذه، قائلًا لهم: " لَكُمْ قَدْ أُعْطِيَ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ اللهِ وَأَمَّا لِلْبَاقِينَ فَبِأَمْثَال" (لو 8 : 10). وأيضًا كان السيد المسيح يعلم من خلال الحوار، فكان يُنهِض العقل للتفكُّر والتذكُّر، وكان يتكلم كلام مؤثر للغاية وليس كالكتبة والفريسيين، فقد: " فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّ كَلاَمَهُ كَانَ بِسُلْطَانٍ" (لو4 : 32).. " فَبُهِتُوا مِنْ تَعْلِيمِهِ لأَنَّهُ كَانَ يُعَلِّمُهُمْ كَمَنْ لَهُ سُلْطَانٌ وَلَيْسَ كَالْكَتَبَةِ" (مر1 : 22).
ويتأمل "عباس محمود العقاد" في تلك اللغة الرائعة السهلة والسلسة التي استخدمها السيد المسيح، وغلب عليها أسلوب التكرار والترديد، فيقول: " لقد كانت اللغة التي حملت بشائر الدعوة الأولى لغة صاحبها بغير مشابهة ولا مناظرة في القوة والنفاذ. كانت لغة فذة في تركيب كلماتها ومفرداتها، فذة في بلاغتها وتصريف معانيها، فذة في طابعها الذي لا يشبهه طابع آخر في الكلام المسموع أو المكتوب، ولولا ذلك لما أخذ السامعون بها، ذلك المأخذ المحبوب، مع غلبته القوية على الأذهان والقلوب.
كانت في تركيبها نمطًا بين النثر المُرسل والشعر المنظوم، فكانت فنًا خاصًا ملائمًا لدروس التعليم والتشويق وحفز الذاكرة والخيال، هو نمط من النظم لا يشبه نظم الأعاريض والتفعيلات التي نعرفها في اللغة العربية، لأن هذا النمط من النظم غير معروف في اللغة الآرامية ولا في اللغة العبرية، ولكنه أشبه ما يكون بأسلوب الفواصل المتقابلة والترصيعات المردَّدة التي ينتظرها السامع انتظاره للقافية، وإن كانت لا تتكرَّر بلفظها المعاد.
كان أسلوبه في إيقاع الكلام أسلوبًا يكثر فيه التريد والتقرير... كما في هذا المثال:
"أسألوا تعطوا... أطلبوا تجدوا... أقرعوا يُفتح لكم... لأن من يسأل يأخذ، ومن يطلب يجد، ومن يقرع يُفتح له الباب... من منكم يسأله ابنه خبزًا فيعطيه حجرًا... أو يسأله سمكة فيعطيه حيَّة... أو يسأله بيضة فيعطيه عقربًا... فإن كنتم وأنتم أشرار تحسنون العطاء للأبناء، فكيف بالآب الذي في السماء يعطي الروح القدس لمَن يسألونه".
أو كما في هذا المثال:
"كما في أيام نوح كذلك يكون في أيام ابن الإنسان... كانوا يأكلون ويشربون ويزوجون ويتزوجون، إلى اليوم الذي دخل الفلك وجاء الطوفان وأهلك الجميع... كذلك في أيام لوط كانوا يأكلون ويشربون ويبيعون ويغرسون ويبنون، ولكن اليوم الذي خرج فيه لوط من سدوم أمطرت نارًا وكبريتًا من السماء فأهلك الجميع... هكذا يكون في اليوم الذي يظهر فيه ابن الإنسان... في ذلك اليوم من كان على السقف وأمتعته في البيت فلا يهبط إليها ليأخذها... ومن كان في الحقل فلا يرجع إلى الوراء. ألا تذكرون امرأة لوط؟
من طلب الخلاص لنفسه يهلكها، ومن أهلكها يحييها... أقول لكم فاستمعوا: في تلك الليلة يكون اثنان على فراش واحد فيؤخذ أحدهما ويُترك صاحبه... وتكون اثنتان تطحنان، تؤخذ أحدهما وتُترك الأخرى... ويكون اثنان في الحقل فيؤخذ هذا ويُترك ذاك... حيث تكون الجثة هناك تجتمع النسور".
وقريب من هذين المثالين نذيره لأورشليم:
"يا أورشليم، يا أورشليم! يا قاتلة الأنبياء، وراجمة المُرسلين. كم مرة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا هوذا بيتكم رهين بالخراب ".
وقريب منه نذيره لبنات أورشليم:
"يا بنات أورشليم لا تبكين عليَّ، و (وأما) على أنفسكن وأولادكن فابكين أيام يقولون طوبى للعواقر والبطون التي لم تلد والثدي التي لم تُرضِع أيام ينادون الجبال أن تسقط عليهم، والآكام أن تكون غطاء لهم" (307).
_____
(306) الكتاب المقدَّس يتحدى نقاده والقائلين بتحريفه ص 120.
(307) حياة المسيح في التاريخ وكشوف العصر الحديث ص 170 - 172.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/53.html
تقصير الرابط:
tak.la/m572gvf