س512: لماذا جاء الفريسيون والكتبة من أورشليم للجليل (مر 7: 1)؟ وهل فعل "غَسْلِ" المستخدم في "غَسْلِ كُؤُوسٍ وَأَبَارِيقَ وَآنِيَةِ" (مر 7: 4) هو عين اللفظ المعبَّر عنه في المعمودية، وبذلك يمكن إجراء المعمودية بدون تغطيس؟ وهل عبارة "غَسْلَ الأَبَارِيقِ وَالْكُؤُوسِ وَأُمُورًا أُخَرَ كَثِيرَةً مِثْلَ هذِهِ تَفْعَلُونَ " (مر 7: 8) ليست أصيلة لأنها لم ترد لا في المخطوطة السينائية ولا في المخطوطة الفاتيكانية؟
يقول "وليم إدي": " أن اللفظة اليونانية المعبَّر بها عن غسل الكؤوس والآنية النحاسية والأسرة هيَ عين اللفظة المعبَّر عنها في المعمودية. فليس لأحد حق أن يحصر التعميد بالتغطيس لأنه لا يقرب من العقل أنهم كانوا يغطسون أسرتهم وموائدهم. فيصدق معنى تلك الكلمة على كل من الرش والصب والتغطيس، والمسيح لم يعيّن أحد هذه الطرق في المعمودية. ولنا من ذلك أن كيفية استعمال الماء في العماد ليس من جوهريات الدين" (353).
ج: 1- لماذا جاء الفريسيون والكتبة من أورشليم للجليل (مر 7: 1)؟.. ليس هذه هيَ المرة الأولى التي يأتي فيها مندوبون عن القيادات الدينية في أورشليم، ولم يأتوا لأنهم استهوتهم تعاليمه أو أعجبوا بمعجزاته، ولكن إذ امتلأت تلك القيادات غيرة وحسدًا منه، جاء هؤلاء المندوبون ليتتبعوا نشاطه ويفحصوا أقواله وأفعاله محاولين أن يصطادوه بكلمة، تارة يصدرون تقريرهم عنه أنه ببعلزبول يُخرِج الشياطين، وتارة يتهمونه بأنه يكسر السبت وضد الناموس... جاء الوفد الأول واحتج على عدم صوم التلاميذ (لو 5: 33 - 39)، ولأن شهرة يسوع كانت تزداد وتنتشر وتعم الآفاق، لذلك أرسلوا الوفد الثاني للجليل، وجاء تقريره أن تلاميذ المسيح مدانون لأنهم يأكلون بأيد غير مغسولة، وبالطبع لم يكن اهتمام الوفد منصبة على الأمور الصحية والحفاظ على سلامة التلاميذ، وأيضًا لم يكن اهتمامهم مراعاة آداب المائدة، إنما أرادوا أن يتهمونهم بالدنس وكسر تقاليد الشيوخ. كانت الشريعة تنص على بعض المحظورات بالنسبة للأطعمة بهدف أن يتعلم هذا الشعب العنيد التمييز بين ما يليق وما لا يليق، ولكن شيوخ اليهود أزادوا تلك المحظورات أضعاف مضاعفة، فمصافحة إنسان وثني تستوجب الاغتسال، والأكل مع الوثني يُعد نجاسة، وإذ كانت الكنيسة مزمعة أن تُولَد في هذا الوسط اليهودي المتزمت وتمتد للأمم لذلك دافع السيد المسيح عن تلاميذه، لم يقدم الأسف نيابة عنهم، ولم يلتمس العذر لهم لأنهم لم يغتسلوا بحسب تقاليد الشيوخ وبالطريقة التي حددوها وبالغوا فيها، إنما كشف عن رياء هؤلاء الكتبة والفريسيين، وربط بين تقليد الشيوخ وبين قول إشعياء النبي: "هذَا الشَّعْبَ قَدِ اقْتَرَبَ إِلَيَّ بِفَمِهِ وَأَكْرَمَنِي بِشَفَتَيْهِ وَأَمَّا قَلْبُهُ فَأَبْعَدَهُ عَنِّي وَصَارَتْ مَخَافَتُهُمْ مِنِّي وَصِيَّةَ النَّاسِ مُعَلَّمَةً" (إش 29: 13) موضحًا أن ما يدخل الإنسان من أطعمة لا ينجسه بل ما يخرج من قلب الإنسان من أفكار رديئة وخطايا شتى هيَ التي تنجسه (مر 7: 15 - 22). ويقول "الأب متى المسكين": " أنه من حين لآخر كانت تنزل بعثات تجسُّسية لتتجسَّس على المسيح وتعاليمه وتعطي انتقاداتها. فالجماعة الأولى أعطت تقريرها عن قوته في إخراج الشياطين فقالوا أنه ببعلزبول، والفرقة الثانية قرّرت أن المسيح وتلاميذه لا يتمسكون بتقليد الشيوخ. وطبعًا هذه التقارير حُفظت في السنهدريم ليوم الحساب" (354).
2- هل فعل "غَسْلِ" المستخدم في "غَسْلِ كُؤُوسٍ وَأَبَارِيقَ وَآنِيَةِ" (مر 7: 4) هو عين اللفظ المعبَّر عنه في المعمودية، وبذلك يمكن إجراء المعمودية بدون تغطيس؟.. الفعل المستخدم في " غَسْلِ كُؤُوسٍ وَأَبَارِيقَ وَآنِيَةِ" في اليونانية هو rantiswntai مختلف عن الفعل المستخدم في المعمودية وهو Baptiswntai. ويقول "دكتور موريس تاوضروس": " يغتسلوا rantiswntai يفرق في كيفية الاغتسال بين هذا الفعل، وبين الفعل (اليوناني) Baptiswntai الذي منه تُشتَق كلمة المعمودية، ويعني الاغتسال بطريق التغطيس، أما الكلمة التي نحن بصددها فهيَ تشير إلى الغسل بطريق الرش وليس التغطيس (أنظر عب 9: 13، 21) وهذا يتناسب مع ما يُشار إليه من غسل الكؤوس والأباريق وآنية النحاس وعلى الأخص الأسرة" (355).
أما الأدلة على ضرورة إتمام المعمودية بالتغطيس فهي عديدة، نذكر منها:
(1) عندما اعتمد السيد المسيح يقول الإنجيل: " فَلَمَّا اعْتَمَدَ يَسُوعُ صَعِدَ لِلْوَقْتِ مِنَ الْمَاءِ" (مت 3: 16) ففعل "صَعِدَ" يعني أنه كان مغمورًا بالماء.
(2) عندم عمَدَ فيلبس الخصي الحبشي جاء في سفر الأعمال: " فَعَمَّدَهُ. وَلَمَّا صَعِدَا مِنَ الْمَاءِ" (أع 8: 38 - 39) فاستخدم نفس الفعل "صَعِدَ" ولو لم تكن المعمودية بالتغطيس فلماذا نزلا إلى الماء؟!.
(3) كلمة معمودية في اليونانية "Baptism" أي صبغة، وعندما يصبغ الإنسان ثوبًا هل من المعقول أن يرشه بالصبغة أم أنه يغمره فيها؟!.
(4) المعمودية هيَ بمثابة موت ودفن مع المسيح: " فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ" (رو 6: 4).. " مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ" (كو 2: 12)، وبلا شك أن عملية الدفن تشمل الجسد كله، وليس جزء منه.
(5) المعمودية هيَ ولادة ثانية، والولادة خروج جسم من جسم، وهكذا يخرج الإنسان من رحم المعمودية مولودًا ولادة جديدة: " الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ الله" (يو 3: 5).
(7) المعمودية هي غسل من الخطايا "خَلَّصَنَا بِغُسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي" (تي 3: 5) وعملية الغسل لا بد أن تتم بالغمر في الماء.
(7) في الكنائس القديمة والأديرة الأثرية التي ترجع للقرن الرابع الميلادي نجد جرن المعمودية عميقًا يكفي أن يغطي الإنسان، فلو كانت المعمودية تصلح بالرش أو الصب فما الداعي لهذا العُمق (راجع البابا شنودة الثالث - اللاهوت المقارن ج 1).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
3- هل عبارة "غَسْلَ الأَبَارِيقِ وَالْكُؤُوسِ وَأُمُورًا أُخَرَ كَثِيرَةً مِثْلَ هذِهِ تَفْعَلُونَ" (مر 7: 8) ليست أصيلة لأنها لم ترد لا في المخطوطة السينائية ولا في المخطوطة الفاتيكانية؟.. جاءت في "ترجمة فاندايك": " لأَنَّكُمْ تَرَكْتُمْ وَصِيَّةَ الله وَتَتَمَسَّكُونَ بِتَقْلِيدِ النَّاسِ غَسْلَ الأَبَارِيقِ وَالْكُؤُوسِ وَأُمُورًا أُخَرَ كَثِيرَةً مِثْلَ هذِهِ تَفْعَلُونَ" (مر 7: 8)، بينما جاء في الترجمات العربية الأخرى الجزء الأول منها فقط، ففي "ترجمة الحياة": " فقد أهملتم وصية الله وتتمسكون بتقاليد الناس". وفي "الترجمة العربية المشتركة": " أنتم تهملون وصية الله وتتمسكون بتقاليد البشر"، وفي "الترجمة اليسوعية": " أنتم تهملون وصية الله وتتمسكون بسنة البشر".. إلخ. وليس معنى هذا أن ترجمة فاندايك هيَ التي أزادت: "غَسْلَ الأَبَارِيقِ وَالْكُؤُوسِ وَأُمُورًا أُخَرَ كَثِيرَةً مِثْلَ هذِهِ تَفْعَلُونَ". لأن هناك نحو خمسين ترجمة إنجليزية وردت فيها العبارة كاملة مثل KJV - Darby - Bishops - ACV - Murdock، بينما توجد نحو عشر ترجمات إنجليزية ورد فيها الجزء الأول من العبارة، ومعظم التراجم التقليدية والأغلبية وبعض التراجم النقدية ورد فيها العدد بالكامل مثلما ورد في ترجمة فاندايك، وأيضًا وردت العبارة كاملة في معظم النسخ اليونانية التي تمثل النص التقليدي والأغلبية، وهكذا وردت كاملة في المخطوطة الإسكندرية، ومخطوطة بيزا، ومئات المخطوطات البيزنطية، ومخطوطات القراءة الكنسية، والترجمات القديمة اللاتينية والفولجاتا، والسريانية، والقبطية، والغوصية، والأثيوبية، والسلافينية. وورد الجزء الأول من العبارة فقط في النسخ اليونانية النقدية، والمخطوطة السينائية، والمخطوطة الفاتيكانية.
أما عن "الأدلة الداخلية" التي تدل على أصالة العدد بالكامل، فيقول "دكتور غالي": " الحقيقة العدد كمعنى لا يكتمل بدون هذه الأمثلة، وهذه الأمثلة من الصعب أن تكون من اختراع أحد النسَّاخ، وبناءً على قاعدة:
The reading which could most easily have given rise to the other readings is best.
أي: "القراءة التي هيَ بوضوح السبب في بقية القراءات، هيَ الأفضل"
وأيضًا لو كان النسَّاخ نقلوها من عدد (4) لاقتبسوها بنفس النص، ولكن النص مختلف تمامًا. فالأمر باختصار شديد هو خطأ نسَّاخ في حذف هذا المقطع" (شبهات نقد نصي في إنجيل مرقس).
_____
(353) الكنز الجليل في تفسير الإنجيل ج 2 شرح إنجيل مرقس ص 59.
(354) الإنجيل بحسب القديس مرقس ص 341.
(355) المدلولات اللاهوتية والروحية لكلمات الإنجيل بحسب القديس مرقس ص 57.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/512.html
تقصير الرابط:
tak.la/qph3p22