س509: إن كان أقرباء يسوع خرجوا ليمسكوه "لأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهُ مُخْتَل" (مر 3: 21)، فما بالك بأهل بلدته، فهل بعد هذا يأتي إلى وطنه في الناصرة (مر 6: 1)؟ وهل قول الإنجيل: "أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ" (مر 6: 3) ليس له وجود بدليل قول أوريجانوس لا يوجد في أي من الأناجيل الموجودة في الكنائس حاليًا أي وصف ليسوع بأنه نجار؟ وكيف يكون المسيح هو اللَّه ويقول عنه الإنجيل: "وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْنَعَ هُنَاكَ وَلاَ قُوَّةً وَاحِدَةً" (مر 6: 5)؟
ج: 1- إن كان أقرباء يسوع خرجوا ليمسكوه " لأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهُ مُخْتَل" (مر 3: 21)، فما بالك بأهل بلدته، فهل بعد هذا يأتي إلى وطنه في الناصرة (مر 6: 1)؟.. دائمًا الله يطلب الخاطئ ويلح عليه لعله يرجع فتحيا نفسه وينجو من نار جهنم، فاللَّـه مُحب للبشر، حتى أن المحبة الأبوية هيَ ظل وانعكاس المحبة الإلهيَّة. قال قديمًا: " هَلْ مَسَرَّةً أُسَرُّ بِمَوْتِ الشِّرِّيرِ. يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ. أَلاَ بِرُجُوعِهِ عَنْ طُرُقِهِ فَيَحْيَا" (حز 18: 23)، ويكرر القول قائلًا: " لأَنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ مَنْ يَمُوتُ يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ فَارْجِعُوا وَاحْيَوْا" (حز 18: 32)، ويؤكد القول قائلًا: " حَيٌّ أَنَا يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ إِنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ الشِّرِّيرِ بَلْ بِأَنْ يَرْجعَ الشِّرِّيرُ عَنْ طَرِيقِهِ وَيَحْيَا. اِرْجِعُوا ارْجِعُوا عَنْ طُرُقِكُمُ الرَّدِيئَةِ فَلِمَاذَا تَمُوتُونَ يَا بَيْتَ إِسْرَائِيلَ" (حز 33: 11). ويركز على هذه الحقيقة بولس الرسول قائلًا: " الَّذِي يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ" (1تي 2: 4). وأشار لهذه الحقيقة بطرس الرسول قائلًا: " وَهُوَ لاَ يَشَاءُ أَنْ يَهْلِكَ أُنَاسٌ بَلْ أَنْ يُقْبِلَ الْجَمِيعُ إِلَى التَّوْبَةِ" (2بط 3: 9).
جاء أقرباء يسوع ليمسكوه ويعيدوه إلى منزله " لأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّهُ مُخْتَل" (مر 3: 21) ولكنهم فشلوا في مهمتهم هذه (راجع س502). أما هو فقد عاد إليهم ليفتقدهم ويغدق عليهم من محبته ونعمه وعطاياه المجانية. وما ذكره القديس مرقس باختصار توسع فيه القديس لوقا، فقد جاء إلى الناصرة حيث تربى ودخل المجمع ودفع إليه السفر فقرأ من سفر إشعياء (إش 61: 1، 2) وهو نبوة عن خدمة السيد المسيح، ثم طوى السفر وسلمه إلى الخادم وقال لهم: " إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ" (لو 4: 21) وتحدث معهم حتى: " وَكَانَ الْجَمِيعُ يَشْهَدُونَ لَهُ وَيَتَعَجَّبُونَ مِنْ كَلِمَاتِ النِّعْمَةِ الْخَارِجَةِ مِنْ فَمِهِ وَيَقُولُونَ أَلَيْسَ هذَا ابْنَ يُوسُفَ" (لو 4: 22) وبالرغم من تعجبهم فأن كلامه لم يجد له موضعًا في قلوبهم، لأنهم عاشوا معه عشرات السنين، عهدوه إنسانًا هادئًا كاملًا خادمًا للجميع محبوبًا لكن أن يصير معلمًا بارعًا دون أن يتتلمذ على يد أحد من مشاهير المعلمين وأن يصير عظيمًا مرموقًا لا يضارعه في هذه العظمة أي إنسان في أرض فلسطين، فلهذا حسدوه كما فعل إخوة يوسف بأخيهم يوسف، واستخفوا به، فأن الألفة تُولِد الاستخفاف، ولم يأخذوا كلامه على محمل الجد قائلين: "مِنْ أَيْنَ لِهذَا هذِهِ؟ وَمَا هذِهِ الْحِكْمَةُ الَّتِي أُعْطِيَتْ لَهُ حَتَّى تَجْرِيَ عَلَى يَدَيْهِ قُوَّاتٌ مِثْلُ هذِهِ؟ أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ" (مر 6: 2، 3).. ألم يُصلِح أبواب منازلنا ومقاعدنا ومحاريثنا وفؤسنا. أما السيد المسيح فقد " تَعَجَّبَ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ" (مر 6: 6). فقد سدوا أذانهم وأغمضوا عيونهم وأغلقوا قلوبهم ولم تتعدى نظرتهم سوى مستوى الجسد بينما يقول بولس الرسول: " وَإِنْ كُنَّا قَدْ عَرَفْنَا الْمَسِيحَ حَسَبَ الْجَسَدِ لكِنِ الآنَ لاَ نَعْرِفُهُ بَعْدُ" (2كو 5: 16). لقد فشل أهل الناصرة في اكتشاف هوية ابن مدينتهم فعثروا فيه وهاجموه، ولا سيما عندما طالبوه أن يفعل معجزات وقوات كما صنع في كفرناحوم أما هو فكلمهم عن عدم استحقاقهم، وقدم لهم في حديثه أرملة صرفة صيدا الأممية، ونعمان السرياني الأممي، اللذان ظهر عمل الله معهما أيام إيليا وأليشع، وقال لهم: " لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ وَبَيْنَ أَقْرِبَائِهِ وَفِي بَيْتِهِ" (مر 6: 4) فرفضوه مثلما رفض أهل عناثوث إرميا النبي: " لأَنَّ إِخْوَتَكَ أَنْفُسَهُمْ وَبَيْتَ أَبِيكَ قَدْ غَادَرُوكَ هُمْ أَيْضًا. هُمْ أَيْضًا نَادَوْا وَرَاءَكَ بِصَوْتٍ عَال. لاَ تَأْتَمِنْهُمْ إِذَا كَلَّمُوكَ بِالْخَيْرِ " (أر 12: 6)، ووصل تطاول أهل الناصرة على ابن مدينتهم حتى أنهم: " أَخْرَجُوهُ خَارِجَ الْمَدِينَةِ وَجَاءُوا بِهِ إِلَى حَافَّةَ الْجَبَلِ الَّذِي كَانَتْ مَدِينَتُهُمْ مَبْنِيَّةً عَلَيْهِ حَتَّى يَطْرَحُوهُ إِلَى أَسْفَلٍ. أَمَّا هُوَ فَجَازَ فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى" (لو 4: 29 - 30).
وهناك احتمال أن يكون السيد المسيح دخل مجمع الناصرة أكثر من مرة، فيقول "الأب متى المسكين": "بحسب رأينا لم يكن أول مرة يأتي إلى الناصرة ولا أول مرة يدخل المجمع في الناصرة. إذ يبدو بوضوح بحسب التحقيق، كما سنرى، أنه دخل المجمع أول مرة بعد نزوله من الجبل بعد أن أتمَّ تجربته مع الشيطان حال خروجه من المعمودية، هكذا دخل المجمع وهيَ المرة التي قرأ فيها إشعياء النبي بحسب ما جاء في إنجيل لوقا... إذًا، فالمسيح زار الناصرة ودخل المجمع مرتين: المرة الأولى بعد نزوله من جبل التجربة مباشرة، وهيَ المرة التي قرأ فيها إشعياء واستحسنوا حكمته جدًا وسجَّلها ق. لوقا في الأصحاح الرابع من إنجيله - مبكرًا. والمرة الثانية بعد أن زار كفر ناحوم قبل الناصرة وعمل فيها معجزة إقامة ابنة يايرس رئيس المجمع في كفر ناحوم، وهذه القصة سجلها ق. لوقا في الأصحاح الثامن بعيدًا عن الزيارة الأولى" (339). والسيد المسيح لم يفعل هكذا مع الناصرة فقط، بل فعله مع السامرة أيضًا، فعندما أراد أن يدخل المدينة قوبل بالرفض حتى قال يعقوب ويوحنا: "يَارَبُّ أَتُرِيدُ أَنْ نَقُولَ أَنْ تَنْزِلَ نَارٌ مِنَ السَّمَاءِ فَتُفْنِيَهُمْ" (لو 9: 54) فأنتهرهما، ثم عاد إليها والتقى بالمرأة السامرية التي جذبت خلفها كل سكان مدينة السامرة (يو 4: 1 - 42).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
2- هل قول الإنجيل: " أَلَيْسَ هذَا هُوَ النَّجَّارَ ابْنَ مَرْيَمَ" (مر 6: 3) ليس له وجود بدليل قول أوريجانوس لا يوجد في أي من الأناجيل الموجودة في الكنائس حاليًا أي وصف ليسوع بأنه نجار؟.. هذه العبارة أصيلة لا تخلو منها المخطوطات سواء القديمة أو الحديثة، وأيضًا وجدت في جميع الترجمات قديمها وحديثها، لم تخلو منها أي ترجمة عربية سواء فاندايك أو الحياة أو العربية المشتركة أو اليسوعية أو البولسية أو الكاثوليكية. وأيضًا موجودة في التراجم الإنجليزية حتى أن "دكتور غالي" أورد في موقعه هوليبايبل أكثر من سبعين ترجمة إنجليزية لم يخلو النص ولا من أي واحدة منها. كما جاءت العبارة في النصوص اليونانية:
- Nastle Greek New - Testament 1904.
- Westcott and Hort 1861.
- Westcott and Hort / (NA 27 vartants).
- R P Byzintine Majority Text 2005.
- Greek Orihodox Church 1901.
- Tischendarf 8th Edition.
- Serivener's Textus Receptus 1894.
- Stephous Textus Receptus 1550.
- Westcott and Hard 1881 W/O Diacritics.
- Tischendarf 8th Ed W/O Diacritics.
- Scriver's Textys Receotus 1894 W/O Dicaritic.
- Byzantine / Majority Text (2000) W/O Diacritics.
- Westcatt / Hord UBS4 variants W/O Diaeritics.
كما أن العبارة موجودة في المخطوطات اليونانية القديمة مثل السينائية، والفاتيكانية، والإسكندرية، والأفرايمية، وواشنطن، وبيزا... إلخ، ولم تخلو منها مئات المخطوطات البيزنطية، ومخطوطات القراءات الكنسية والترجمة السريانية البشيطا والترجمات القبطية وغيرها.
وما قصده العلامة أوريجانوس أن ينفي عمل السيد المسيح بالنجارة أثناء خدمته، وفي هذا كان يرد على سيلسوس الذي ادعى أن المسيح صُلِب على شجرة لأنها رمز لشجرة الحياة أو لأنه كان نجارًا يتاجر في النجارة، فالعلامة أوريجانوس ينفي ادعاء سيلسوس، بينما النص الإنجيلي يتحدث عن عمل السيد المسيح قبل أن يبدأ خدمته الكرازية (راجع د. غالي - هوليبايبل - شبهات نقد نصي إنجيل مرقس ص 4 رقم 6).
3- كيف يكون المسيح هو الله ويقول عنه الإنجيل أنه " وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْنَعَ هُنَاكَ وَلاَ قُوَّةً وَاحِدَةً" (مر 6: 5)؟.. لكي تتم المعجزة لا بد من توافر شرطين، هما إيمان المريض وقوة الذي يُجري المعجزة، فإن لم يتوفر شرط من الشرطين يصعب عمل المعجزة، ولهذا كان السيد المسيح يركز على إيمان من يحتاج للمعجزة، وكان يربط المعجزة بالإيمان. ولأن أهل الناصرة لم يكن لهم إيمان بالسيد المسيح لذلك لم يصنع لديهم أي قوة، وبتعبير القديس مرقس البشير يقول: " وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْنَعَ هُنَاكَ وَلاَ قُوَّةً وَاحِدَةً... وَتَعَجَّبَ مِنْ عَدَمِ إِيمَانِهِمْ" (مر 6: 5، 6). وعبارة " لَمْ يَقْدِرْ" هنا عبارة مجازية تعبر عن أنه "لم يرد"، مثل قول الكتاب عن إخوة يوسف: " وَلَمْ يَسْتَطِيعُوا أَنْ يُكَلِّمُوهُ بِسَلاَمٍ" (تك 37: 4)، أي أنهم لم يشأوا أن يكلموه بسلام، ومثلما قال السيد المسيح لأخوته: " لاَ يَقْدِرُ الْعَالَمُ أَنْ يُبْغِضَكُمْ، وَلكِنَّهُ يُبْغِضُنِي أَنَا لأَنِّي أَشْهَدُ عَلَيْهِ أَنَّ أَعْمَالَهُ شِرِّيرَةٌ" (يو 7: 7)، أي أن العالم لا يريد أن يبغضكم، فلم يصنع السيد المسيح قوة واحدة في الناصرة لأن أهلها لم يؤمنوا فلم يستحقوا هذه النعم العظيمة، وهو الذي أوصى " لاَ تُعْطُوا الْقُدْسَ لِلْكِلاَب وَلاَ تَطْرَحُوا دُرَرَكُمْ قُدَّامَ الْخَنَازِيرِ لِئَلاَّ تَدُوسَهَا بِأَرْجُلِهَا وَتَلْتَفِتَ فَتُمَزِّقَكُمْ" (مت 7: 6)، ولا يمكن أن يحطم الوصية التي أعطاها.
ويقول "القديس غريغوريوس النزينزي": " أن معنى "لم يستطع" هو أنه "لم يشأ".. فهناك شرطان لنيل الشفاء: إيمان من يُشفَون وقوة من يَشفي. وإذا لم يتوفر الشرطان معًا، الإيمان وقوة الشافي فالمعجزات لا تُصنَع، والشفاء لا يُجدي بل يسئ إذا كان طالب الشفاء لا إيمان له. وعلى نحو مشابه هناك الآية: "لاَ يَقْدِرُ الْعَالَمُ أَنْ يُبْغِضَكُمْ" (يو 7: 7) و"كَيْفَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَتَكَلَّمُوا بِالصَّالِحَاتِ وَأَنْتُمْ أَشْرَارٌ" (مت 12: 34). فهذه لا تنتمي إلى المقدرة بل إلى الإرادة.." (الموعظة 30 حول الابن 10 - 11) (340).
ويقول "القديس يوحنا كاسيان": " قيل "وَلَمْ يَصْنَعْ هُنَاكَ قُوَّاتٍ كَثِيرَةً لِعَدَمِ إِيمَانِهِمْ" (مت 13: 58، مر 6: 5). والحق أن وجود الله يتسع باتساع إيمان الإنسان. لذلك قال: "بِحَسَب إِيمَانِكُمَا لِيَكُنْ لَكُمَا" (مت 9: 29)، ولآخر قال: "اذْهَبْ وَكَمَا آمَنْتَ لِيَكُنْ لَكَ" (مت 8: 13)، وللمرأة قال: "لِيَكُنْ لَكِ كَمَا تُرِيدِينَ" (مت 15: 28)، ولأخرى قال: "إِيمَانُكِ قَدْ شَفَاكِ" (مت 9: 22، مر 5: 34، 10: 52، لو 8: 48، 17: 19)" (الحديث الثالث لرئيس دير شارماون 15) (341).
ويقول "جرهام سويفت": " وَلَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَصْنَعَ هُنَاكَ وَلاَ قُوَّةً وَاحِدَةً (5) عبارة من أكثر عبارات الأناجيل جرأة ولكنها تظهر بجلاء أن معجزات الرب لم تكن أعمالًا سحرية بل كانت مرتبطة ارتباطًا حيويًا بحالة الشعب الأدبية وإيمانهم، ومع أن الله قادر على كل شيء إلَّا أنه في سلطانه لا يعمل البركة إذا ما كان الإنسان رافضًا وثائرًا" (342).
_____
(339) الإنجيل بحسب القديس مرقس ص 292، 293.
(340) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد (2) الإنجيل كما دوَّنه مرقس ص 132.
(341) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد (2) الإنجيل كما دوَّنه مرقس ص 133.
(342) مركز المطبوعات المسيحية - تفسير الكتاب المقدَّس جـ 5 ص 117.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/509.html
تقصير الرابط:
tak.la/wc5vnq2