س505: ما الهدف من المَثل الذي انفرد به مرقس البشير عن النبات الذي ينمو (مر 4: 26 - 29) ألم يكفي مَثل الزارع؟ وكيف يقول السيد المسيح عن حبة الحنطة أنها "أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُزُورِ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ" (مر 4: 31) مع أن بذور الأوركيد أصغر منها؟ وإن كانت الطيور في مَثل الزارع ترمز للشياطين (مر 4: 4، 15) فكيف مدح السيد المسيح شجرة الخردل التي تأوى إليها الطيور (مر 4: 32)؟
ج: 1- ما الهدف من المَثل الذي انفرد به مرقس البشير عن النبات الذي ينمو (مر 4: 26 - 29) ألم يكفي مَثل الزارع؟.. الهدف الأساسي من مَثل الزارع أن يوضح السيد المسيح أنواع القلوب التي تتلقى كلمة الله، أما هذا المَثل عن النبات الذي ينمو في هدوء فقد جاء عقب مَثل الزارع لعله يزيدنا إدراكًا واتساعًا بمثل الأنواع، وقال البعض أن هدف هذا المَثل هو أن بذرة الإنجيل التي يلقيها الخادم في القلوب يتعهدها الروح القدس بالنمو والرعاية، وقال البعض أن هدف هذا المَثل توضيح الحاجة للصبر، ولا سيما أن أهل الجليل كانوا قلقين من جهة استعلان ملكوت الله، وأختار بعض منهم مثل حزب الغيورين الكفاح المسلح ضد الرومان، فجاء المَثل يعلّمهم الحاجة للصبر. والحقيقة أن الهدف من المَثل واضح من العبارة الأولى في قول السيد المسيح: " هكَذَا مَلَكُوتُ الله" (مر 4: 26)، فالإنسان يُلقي بالبذار في الأرض، وينصرف لحاله، ينام ويقوم ليلًا ونهارًا، والبذار لا تهدأ بل في حركة دائبة تنبت، والنبتة تكبر شيئًا فشيئًا في هدوء تام. والبذار هيَ كلمة الله، والأرض هيَ قلوب المؤمنين، والمَثل يصف ملكوت السموات. وكما أن الإنبات يبدأ أولًا تحت التربة لا يراه أحد، ثم يظهر في غاية الجمال معبرًا عن الحياة، هكذا تعمل كلمة الله في النفس البشرية إذ تتغيَّر وتدب فيها الحياة أولًا، ثم تظهر هذه الحياة للعيان في صورة تصرفات الإنسان التي تفيض بالمحبة والحنو وعمل الخير. وكما أن النبات يحتاج لإشراقات الشمس ولماء المطر المبكر والمتأخر، هكذا يحتاج الإنسان لعمل الروح القدس المستمر حتى ينمو وينضج ويأتي بثمر كثير... وكما أنه في وقت معين يأتي الحصاد، هكذا في الوقت المناسب يضم إنسان الله إلى آبائه، فمن أتعابه يستريح وأعماله تتبعه ويعيش أمجاد الأبدية... وفي هذا المَثل البسيط نلاحظ الآتي:
أ - لا يستطيع الفلاح أن يجعل البذرة تنمو، ولا يدرك كيف تنمو،
فالحياة سر أودعه الله في قلب البذرة، فهيَ تحمل سر الحياة،
الأمر الذي يعجز الفلاح البسيط عن إدراكه، ويقتصر دور الفلاح على
الغرس والسقي, "
لَيْسَ الْغَارِسُ شَيْئًا وَلاَ السَّاقِي بَلِ الله الَّذِي
يُنْمِي"
(1 كو 3: 7).
ب - لا يستطيع الإنسان أن يُلاحظ نمو النبات إذا نظر إليه كل يوم، ولكن عندما يبتعد أسبوعًا أو أكثر يلحظ النمو وارتفاع النبات، وهكذا ملكوت الله الذي نعيشه على الأرض، لا نلاحظ النمو، ولكن إذا قارنا وضع اليوم بالوضع منذ عشر سنوات مضت ندرك هذا النمو.
ج - يخبرنا المَثل أن الإنسان ينام ويستريح ليلًا أما عمل الله فلا يتوقف ليل نهار، بدون تذبذب، فالإنسان قد يتأرجح في طريقه، أما عمل الله فدائمًا يسير للأمام لا يعرف النكوص للخلف، سواء في ظروف مناسبة أو غير مناسبة، في فرح أو حزن، في سلام أو حرب، في هدوء أو قلاقل، فجميع الأمور بلا استثناء تعمل معًا للخير للذين يحبون الله، واللَّـه يجري قصده يومًا فيومًا ولا توجد قوة في الوجود تقدر أن تعيق قصده هذا.
د - نحتاج لحياة التسليم والصبر، فلا نعرض على الله حلولًا وكأن الله لا يعرفها، ولا نستعجله في يوم مجيئه، يوم الحصاد: " لأَنَّ أَلْفَ سَنَةٍ فِي عَيْنَيْكَ مِثْلُ يَوْمِ أَمْسِ بَعْدَ مَا عَبَرَ وَكَهَزِيعٍ مِنَ اللَّيْلِ" (مز 90: 4) وهذا المَثل يمثّل ما لمسه وعاشه مرقس البشير في خدمته، عندما خدم في أماكن متفرقة وكان يعود إليها، مثل المدن الغربية، والإسكندرية يندهش من عمل الله الذي لا يتوقف، فإذ أعداد المؤمنين في ازدياد، والخدمة انتشرت أكثر فأكثر وازدادت عمقًا، والفضائل أزهرت ثمارًا يانعة. ويُعلق "دكتور موريس تاوضروس" على فعل ينمو، فيقول: "حرفيًا: يطول، أي يمتد، يظهر السيقان وأوراق النبات وهو لا يعلم. يُلاحظ أن نظام الكلمات في النص اليوناني يتميز بالحيوية، فهو على النحو التالي: كيف؟ هو لا يعلم!" (317).
ويقول "العلامة ترتليان": " لاحظ كيف أن الخليقة نفسها ترتقي شيئًا فشيئًا نحو الأثمار، أولًا يأتي البذر، ومن البذر ينبت الساق، ومن الساق تنبت الشجيرة، ومن هناك... تستمد الأوراق قوتها. وكل هذه الأشياء التي نسميها شجرة تُفرّع وتمتد. يلي ذلك تبرعم الزهرة، ومن التبرعم تتفتح الزهرة، ومن الزهرة يخرج الثمر والثمر نفسه يكون لحين في مرحلة النمو الأولى عديم الشكل ولكنه ينمو شيئًا فشيئًا محافظًا على مجرى نموه المستقيم إلى أن يصبح يانع النكهة " (318).
ويقول "القس سمعان كلهون": " وكما أن البذار الذي يُزرع في الأرض يتأصَّل وينمو بقوة خفية نسميها الطبيعة (مع أنها بالحقيقة قوة الله) هكذا بواسطة عمل الروح القدس الخفي في القلب تصير الكلمة فعالة. وكما أن النبات قبلما يبرز على وجه الأرض تحت التراب، كما يكون عمل النعمة في القلب، فأنه أولًا يكون غير منظور، فلا أحد يعرف أفكار الإنسان الخفية التي زُرعت فيها كلمة الله، ولا إحساسه بالخطية ولا شكوكه ومخاوفه أو آماله. ومتى ابتدأ الزرع الروحي ينمو، لا تقدر غير أذن الله أن تسمع الصلوات...
وبعد أن يبقى الزرع وقتًا في الأرض، غير منظور ولكنه حي، ينشط بغاية الجمال، وهكذا عمل النعمة في القلب. مع أنه يكون في أول الأمر خافيًا عن نظر الأنسان إلَّا أنه سرعان ما يظهر جليًا في حياة المؤمن الخارجية وسيرته. وفي الفضائل المسيحية كالحنو والإحسان والمحبة. وفي الاجتهاد لعمل الخير. فيظهر التغيُّر للجميع... وبمضي الأيام يكبر النبات ويبرز السنبل وينضج الحب. وفي أثناء ذلك تشرق عليه الشمس أيامًا كثيرة. وتهطل عليه أمطار غزيرة تنعشه، ربما تهاجمه عواصف كثيرة، غير أنه يستمر لينمو ويقوى ويمتلئ إلى أن ينضج تمامًا وتمتلئ السنابل حبًا. هكذا ينمو المسيحي ويتقدم في الحياة الروحية بالتدريج ويأتي بأثمار أكثر فأكثر... وأخيرًا يأتي الحصاد... يعلم الله وحده متى يدرك المسيحي الانتقال من العالم، فينقل البعض في أول الحياة، ويبقي البعض زمانًا طويلًا ليفعلوا إرادته ويعيشوا لمجده" (319).
← انظر باقي سلسلة كتب النقد الكتابي هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت للمؤلف.
2- كيف يقول السيد المسيح عن حبة الخردل أنها " أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُزُورِ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ" (مر 4: 31) مع أن بذر الأوركيد أصغر منها؟.. سبق الإجابة على هذا التساؤل، فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد - عهد جديد ج 4 س 347، ونضيف هنا أنه ليس بذور الأوركيد فقط هيَ الأصغر من حبة الخردل، بل أيضًا بذرة التوت أصغر كثيرًا من حبة الخردل، وطولها يصل إلى نحو 15م أي نحو أربعة أضعاف شجرة الخردل، ولكن الفارق هنا أن شجرة الخردل تنمو نموًا سريعًا حتى أنها تنضج في نحو خمسة أشهر، بينما شجرة التوت تحتاج إلى سنين عديدة حتى يكتمل نموها للنهاية، وهكذا يأتي عمل النعمة في الأنسان سريعًا، فيقول "متى هنري": "عندما يطلع (النبات) يستمر في النمو، تأخذ الطبيعة مجراها، وهكذا تفعل النعمة... تنمو بصفة مستمرة، إن تكن الأوائل صغيرة فالآخرة تكثر جدًا "وَإِنْ تَكُنْ أُولاَكَ صَغِيرَةً فَآخِرَتُكَ تَكْثُرُ جِدًّا" (أي 8: 7).. يقول المَثل اللاتيني: "إن الطبيعية لا تعمل شيئًا فجائيًا أو بعنف". واللَّـه يتمم عمله بدون أن يعتريه الفشل... إن عمل النعمة صغير في بدايته لكنه يصير عظيمًا جدًا في النهاية (ع 30 - 32).. عندما زُرِعت الكنيسة المسيحية على الأرض كانت تضمها غرفة واحدة "وَكَانَ عِدَّةُ أَسْمَاءٍ مَعًا نَحْوَ مِئَةٍ وَعِشْرِينَ" (أع 1: 15)، كما كان عدد بني إسرائيل سبعين نفسًا عندما نزلوا إلى مصر. أن عمل النعمة في النفس في بداية الأمر مثل: "يَوْمِ الأُمُورِ الصَّغِيرَةِ" (زك 4: 10)، مثل "غَيْمَةٌ صَغِيرَةٌ قَدْرُ كَفِّ إِنْسَانٍ" (1مل 18: 44)" (320).
3- إن كانت الطيور في مَثل الزارع ترمز للشياطين (مر 4: 4، 15) فكيف مدح السيد المسيح شجرة الخردل التي تأوى إليها الطيور (مر 4: 32)؟.. أورد السيد المسيح ثلاثة أمثلة عن الملكوت من نباتات الأرض، الأول مَثل الزارع والهدف منه أن لا نضطرب متى وجدنا كلمة الله تصل إلى أناس يقبلونها ولا تثمر في حياتهم لسبب أو لآخر، فإن هناك أرض جيدة تقبل الكلمة وتُثمر لحساب الملكوت، والمَثل الثاني مَثل الزارع الذي لا يدري ولا يدرك كيف تنمو البذار، فإن روح الله هو العامل في الكنيسة، والمَثل الثالث وهو مَثل حبة الخردل حيث تبدأ الخدمة صغيرة ثم تمتد وتنتشر. وقديمًا رأى نبوخذنصر ملك بابل عظمة مُلكه مثل شجرة طولها عظيم كبرت وقويت ومنظرها إلى أقصى الأرض " أَوْرَاقُهَا جَمِيلَةٌ وَثَمَرُهَا كَثِيرٌ وَفِيهَا طَعَامٌ لِلْجَمِيعِ وَتَحْتَهَا اسْتَظَلَّ حَيَوَانُ الْبَرِّ وَفِي أَغْصَانِهَا سَكَنَتْ طُيُورُ السَّمَاءِ" (دا 4: 12) وطبعًا الطيور هنا لا ترمز للشياطين إنما ترمز لشعوب الأرض. كما شبه الكتاب مُلك فرعون بشجرة الأرز وقد " وَعَشَّشَتْ فِي أَغْصَانِهِ كُلُّ طُيُورِ السَّمَاءِ وَتَحْتَ فُرُوعِهِ وَلَدَتْ كُلُّ حَيَوَانِ الْبَرِّ وَسَكَنَ تَحْتَ ظِلِّهِ كُلُّ الأُمَمِ الْعَظِيمَةِ" (حز 31: 6) وطبعًا طيور السماء هنا أيضًا لا تشير للشياطين بل لشعوب الأرض.
وشجرة الخردل عُرفت في أرض فلسطين، فكانوا يستخدمون الخردل سواء في الطعام أو الطب، ويتجاوز طول شجرة الخردل الثلاثة أمتار حتى كان يمكن لجواد يمتطي خيله أن يستظل تحتها، وفي هذه الأشجار تعشعش الطيور، وهناك فرق بين طيور وطيور، فأن كانت طيور السماء في مَثل الزارع ترمز للشياطين التي أصلها أرواح سماوية وتنزع كلمة الإنجيل من القلوب المدوسة كالطريق (مر 4: 15)، فإن طيور السماء التي تأوى في شجرة الخردل المقصود بها اليمام والعصافير، علامة على أن هذه الشجرة كبيرة ووارفة (مر 4: 32) فهيَ ترمز لأبناء الملكوت الذين يجدوا ملجأهم في شجرة الحياة. إذًا الطيور في مَثل ترمز للشياطين وفي مَثل آخر ترمز لأبناء الله، وبينما نحن نشبّه السيد المسيح بالأسد كقول يوحنا الرائي: " هُوَذَا قَدْ غَلَبَ الأَسَدُ الَّذِي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا" (رؤ 5: 5) فإن الشيطان شبّه أيضًا بالأسد كقول القديس بطرس: " اُصْحُوا وَاسْهَرُوا. لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ" (1 بط 5: 8).
ومما يُلفت النظر في مَثل حبة الخردل أن الخدمة مهما كانت صغيرة، فأنها يومًا فيومًا تنمو وتثمر، ويتحقق في هذا المَثل قول هوشع النبي: " اِزْرَعُوا لأَنْفُسِكُمْ بِالْبِرِّ. احْصُدُوا بِحَسَبِ الصَّلاَحِ. احْرُثُوا لأَنْفُسِكُمْ حَرْثًا فَإِنَّهُ وَقْتٌ لِطَلَبِ الرَّبِّ حَتَّى يَأْتِيَ وَيُعَلِّمَكُمُ الْبِرَّ" (هو 10: 12). ويقول "القديس كيرلس الكبير": " كما أن حبة الخردل صغيرة جدًا في حجمها بالنسبة لبذور النباتات الأخرى لكنها تنمو عالية جدًا أكثر من الأعشاب العادية حتى تصير مأوى لكثير من العصافير، هكذا ملكوت السموات، ونتعرَّف على ذاك الذي بالطبيعة هو الله حقًا، لقد بدأت موجهة إلى أشخاص قليلين كما لو كانت صغيرة ومحدودة. فنمت سريعًا وصارت مأوى للذين هربوا إليها كملجأ لهم هؤلاء الذي حُسبوا كعصافير... ليس صعبًا أن ترى رسالة الإنجيل قد كُرز بها في البداية صغيرة في حجمها وقد امتدت متزايدة جدًا كما سبق فأخبرنا الله عنها بصوت إشعياء: "لأَنَّ الأَرْضَ تَمْتَلِئُ مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي الْمِيَاهُ الْبَحْرَ" (إش 11: 9)" (321).
_____
(317) المدلولات اللاهوتية والروحية لكلمات الإنجيل بحسب القديس مرقس ص 34.
(318) التفسير المسيحي القديم للكتاب المقدَّس - العهد الجديد (2) الإنجيل كما دوَّنه مرقس ص 107.
(319) اتفاق البشيرين ص 226، 227.
(320) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير الكتاب المقدَّس - إنجيل مرقس ص 64، 65.
(321) أورده القمص تادرس يعقوب - الإنجيل بحسب مرقس ص 83 - 85.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/505.html
تقصير الرابط:
tak.la/q9rdqm3