س347: لماذا منع صاحب الحقل عبيده من أن ينتقوا الزوان بحرص من الأرض عوضًا عن الإضرار بالزرع الجيد (مت 13: 29)؟ وهل معنى هذا أن نترك الأشرار يرعون في الكنيسة؟ وكيف يقول السيد المسيح، وهو الإله العالِم بكل شيء، أن حبة الخردل أصغر جميع البذور مع أن هناك بذار أخرى أصغر منها مثل بذور الأوركيد، كما أن شجرة الخردل أصغر من أن تأوي إليها الطيور، فهيَ قصيرة جدًا بجوار أشجار أخرى؟ وكيف يُشبّه السيد المسيح ملكوت السموات بالخميرة (مت 13: 33) مع أن الخميرة ترمز للشر؟ (راجع علاء أبو بكر - البهريز جـ 5 س77).
ج: 1ــ قال صاحب الحقل لعبيده الذين أرادوا جمع الزوان: "لا. لِئَلاَّ تَقْلَعُوا الْحِنْطَةَ مَعَ الزَّوَانِ وَأَنْتُمْ تَجْمَعُونَهُ" (مت 13: 29) ولا سيما أن نبات الزوان في مراحل نموه الأولى يشبه نبات الحنطة، كما أن جذور هذا تتشابك مع جذور ذلك، لذلك نهى السيد عبيده عن قلع الزوان لئلا يقلعوا معه الحنطة. ويقول "تومسون" في كتابه "الأرض والكتاب" عن الزوان: "إن نوع هذه النباتات يتفق تمامًا مع هدف المَثَل، فعندما ينمو النبات وتظهر رؤوس السنابل يمكن لأصغر طفل أن يميز بين الحنطة والزوان، ولكن في بداية نمو السنابل، فقد تخطى العين المدقّقة في التمييز بين الحنطة والزوان. وحتى بعد التمييز بين الحنطة والزوان فإن قلع الزوان يُعرّض القمح أيضًا للقلع، لأن جذور النباتات تتشابك بعضها البعض. كان المزارعون يتركون الزوان مع الحنطة إلى وقت الحصاد" (922). وبسبب التشابه الكبير بين الزوان والحنطة دعوا الزوان بِاسم "القمح الكاذب" أو "القمح النغل"، والكلمة العربية المُترجمة إلى "زوان" هيَ "زونيم" وهيَ مشتقة من كلمة "زنا" بالعبرية، وفي وقت الحصاد والدرس كانت تختلط بعض حبات الزوان بحبات الحنطة، فتقوم النسوة بفرز هذا عن ذاك، لأن حبوب الزوان تغيّر طعم الخبز.
وفي هذا المَثَل تشير الحنطة للأبرار والزوان للأشرار، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فالمسيح يزرع القديسين في حقل هذا العالم، وعدو الخير يزرع الأشرار ليفسدوا طرق اللَّه المستقيمة، وكثيرًا ما يتشبه الأشرار بالأبرار، فيتخذون صورة التقوى ولكنهم ينكرون قوتها، ومن الصعوبة بمكان التمييز بين العذارى الجاهلات والحكيمات في هذه الحياة، بل أن الجاهلات قد تكنَّ مشهورات أكثر من الحكيمات. واللَّه في عدله يعطي الفرصة كاملة للأبرار والأشرار، وهو يشرق بشمسه ويمطر على هذا وذاك، وقد يتوب بعض الأشرار فيتحوَّلون من زوان إلى حنطة، وربما في أواخر حياتهم، لذلك يجب أن يأخذ كل إنسان فرصته بالكامل. ويقول "القديس أوغسطينوس": "كثيرون يكونون في البداية زوانًا، لكنهم يصيرون بعد ذلك حنطة، فإن لم نحتملهم بالصبر وهم خطاة لما يمكن بلوغهم إلى هذا التحوُّل المستحق لكل تقدير" (923).
فعلى الأبرار أن لا يبدّدوا طاقاتهم وأوقاتهم في إدانة الأشرار، بل الصلاة والتضرع للَّه القادر أن يحوّل الزوان إلى حنطة، عالمين أن اللَّه لا يسعى لإبادة المعاندين المتكبرين، فوقت الفصل بين الأشرار والأبرار، ومكافأة الأبرار ومجازاة الأشرار لم يحن بعد، ولكن الدينونة ستُعلَن في وقت الحصاد. ويقول "الأب متى المسكين": "ولكن للمسيح قصدًا أن لا يخلع الزوان من مكانه قبل الآوان لئلا يؤذي الحنطة، فحكمة المسيح ترى أنه يلزم أن ينميا معًا، الصالح والطالح تحت شمس واحدة. ولكن ليس كل أبناء المسيح أبناء الملكوت ولا كل الذين ليسوا أبناء المسيح أبناء العدو. فسمة أهل العالم شيء وسمة أولاد العدو شيء آخر. لذلك فأبناء الملكوت يعيشون وسط أبناء العالم لا يُفرَّقون من بين الناس، لأن التفرقة الوحيدة ستكون في نهاية الدهور" (924).
2ــ في مَثَل الزوان فإن "الحقل" يشير للعالم وليس للكنيسة كقول السيد المسيح في تفسيره للمَثَل: "اَلزَّارِعُ الزَّرْعَ الْجَيِّدَ هُوَ ابْنُ الإِنْسَانِ. وَالْحَقْلُ هُوَ الْعَالَمُ. وَالزَّرْعُ الْجَيِّدُ هُوَ بَنُو الْمَلَكُوتِ. وَالزَّوَانُ هُوَ بَنُو الشِّرِّيرِ" (مت 13 " 37، 38)، وهدف المَثَل توضيح صبر اللَّه على الأشرار ومنحهم الفرصة كاملة، وليس هدف المَثَل ترك الأشرار يرعون في الكنيسة، فإن الكتاب حضَّ على تجنب المصّرين على شرهم: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ مَدْعُوٌّ أَخًا زَانِيًا أَوْ طَمَّاعًا أَوْ عَابِدَ وَثَنٍ أَوْ شَتَّامًا أَوْ سِكِّيرًا أَوْ خَاطِفًا أَنْ لاَ تُخَالِطُـوا وَلاَ تُؤَاكِلُوا مِثْلَ هذَا" (1 كو 5: 11). ويقول "القديس أغسطينوس": "إن كان أحد المسيحيين وهو ثابت في الكنيسة قد أُخذ في خطية من نوع يستحق أن يُحرَم من الكنيسة، فليتم هذا: تجنب حدوث إنشقاق، بمعالجة الأمر بالحب فتصحح عوضًا أن تقتلع، فإن لم يأت إلى معرفة خطأه ولم ينصلح بالتوبة يُطرَد، ليقطع بإرادته من شركة الكنيسة، لأن قول الرب "دعوهما ينميان كلاهما معًا" قد أضيف إليه السبب وهو "لئلا تقلعوا الحنطة مع الزوان" مقدمًا تفسيرًا واضحًا، أما هنا فالسبب غير موجود، فبقطعه لا يوجد قلق على سلامة الحنطة متى كان جريمته واضحة ويظهر لكل واحد أنه ليس من يدافع عنه أو على الأقل أنه ليس له مدافعون يسبّبون إنقسامًا" (925).
3ــ عندما قال السيد المسيح عن بذار الخردل: "وَهِيَ أَصْغَرُ جَمِيعِ الْبُزُور" قصد أنها أصغر جميع البذار التي يستخدمها الفلاح اليهودي والمعروفة في أرض فلسطين فقط، وجاء في "الكتاب المقدَّس الدراسي": "أصغر البذور... ليست حبة الخردل أصغر الحبوب المعروفة اليوم، ولكنها كانت أصغر الحبوب التي استعملها المزارعون والبستانيون آنذاك في تلك البيئة. وفي ظل ظروف مؤاتية يمكن أن يصل ارتفاع الشجرة إلى أكثر من ثلاثة أمتار. تصير شجرة حتى أن طيور السماء تأتي وتبيت في أغصانها" (926). ولأن حبة الخردل أصغر البذار التي عُرِفت في تلك المنطقة لذلك ضُرِب بها المَثَل دليل على الصغر، فقال السيد المسيح: "لَوْ كَانَ لَكُمْ إِيمَانٌ مِثْلُ حَبَّةِ خَرْدَل.." (لو 17: 6)، وقال اليهود: "كسر للشريعة في نقطة صغيرة كحبة الخردل"، وجاءت بنفس المعنى الدال على الصغر في القرآن: "وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ" (الأنبياء 21: 47).. " يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّه إِنَّ اللَّه لَطِيفٌ خَبِي" (لقمان 33: 16).
وتبلغ شجرة الخردل نحو 3,3 مترًا، وطيور السماء مثل العصافير أو اليمام يضعن أعشاشهن فيها، ولم يقل السيد المسيح أنها أطول جميع الأشجار، لأن هناك أشجارًا طويلة جدًا تبلغ أضعاف شجرة الخردل، ولذلك قال عنها السيد المسيح: "وَلكِنْ مَتَى نَمَتْ فَهِيَ أَكْبَرُ الْبُقُولِ وَتَصِيرُ شَجَرَةً، حَتَّى إِنَّ طُيُورَ السَّمَاءِ تَأْتِي وَتَتَآوَى فِي أَغْصَانِهَا" (مت 13: 32). ويقول "الأب متى المسكين" أن السيد المسيح: "اختار حبة الخردل التي يتعامل معها الفلاح، وشجرتها الصغيرة التي يراها أمامه كل يوم. ولكن سر اختيار المسيح لهذه الشجرة الصغيرة بالذات هو نموها السريع الظاهري أحيانًا، بحيث يمكن أن يراقبها الفلاح كل يوم وهيَ تنمو أمامه وتكبر. حتى تبلغ طولها الكامل الذي قد يصل أحيانًا بحسب خبراء كثيرين الثلاثة أمتار... فلو قسَّمنا عمر الشجرة الذي لا يزيد عن أربعة أشهر على طولها الذي يمكن أن يكون 300 سم نجد أن نموها اليومي يبلغ حوالي 3 سم مما يمكن أن تلحظه عين الفلاح بسهولة، وهكذا استطاع المسيح أن يطبع على عقلية السامعين معنى وكيفية نمو الملكوت وحده دون عوامل بشرية، كبذرة الخردل التي يستيقظ الفلاح كل يوم فيجد أنه استطالت ونمت بوضوح. وهذا درس لا يستهان به لنفوس البسطاء في كيفية نمو ملكوت السموات" (927).
4ــ تختلط الخميرة بالعجين، فتنشط وتنتشر وتخمر العجين كله، فصارت الخميرة ترمز للانتشار سواء للخير (مت 13: 33) أو للشر (لا 2: 11)، وقد شبه السيد المسيح ملكوت السموات أيضًا بالسمك ومنه الجيد ومنه الردئ. وكما استخدم السيد المسيح الخميرة في هذا المَثَل لإنتشار الملكوت، فإنه استخدم أيضًا الخميرة كإشارة لانتشار الشر عندما قال لتلاميذه: "أَوَّلًا تَحَرَّزُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَمِيرِ الْفَرِّيسِيِّينَ الَّذِي هُوَ الرِّيَاءُ" (لو 12: 1)، وبنفس المعنى استخدمها بولس الرسول قائلًا: "أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ خَمِيرَةً صَغِيرَةً تُخَمِّرُ الْعَجِينَ كُلَّهُ. إِذًا نَقُّوا مِنْكُمُ الْخَمِيرَةَ الْعَتِيقَةَ لِكَيْ تَكُونُوا عَجِينًا جَدِيدًا كَمَا أَنْتُمْ فَطِيرٌ" (1 كو 5: 6، 7). وليس عجيبًا أن التشبيه الواحد نجد له أكثر من جانب، فالسيد المسيح شُبه بالأسد الخارج من سبط يهوذا: "هُوَذَا قَدْ غَلَبَ الأَسَدُ الَّذِي مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا" (رؤ 5: 5) ووجه الشبه هنا الرئاسة والقوة والنصرة، وأيضًا شبه الكتاب إبليس بالأسد في توحشه وافتراسه: "لأَنَّ إِبْلِيسَ خَصْمَكُمْ كَأَسَدٍ زَائِرٍ يَجُولُ مُلْتَمِسًا مَنْ يَبْتَلِعُهُ هُوَ" (1 بط 5: 8).
_____
(922) أورده وليم باركلي - تفسير العهد الجديد جـ 1 ص275.
(923) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص307.
(924) الإنجيل بحسب القديس متى ص437.
(925) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى جـ 1 ص308.
(926) الكتاب المقدَّس الدراسي ص2288.
(927) الإنجيل بحسب القديس متى ص438.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/347.html
تقصير الرابط:
tak.la/33jnh6v