س 48 : ما هيَ الدوافع التي دعت لتدوين الإنجيل الشفاهي؟
ج: جال السيد المسيح شتى أرجاء فلسطين يكرز ببشارة الملكوت ويشفي المتسلّط عليهم إبليس، لم يكتب إنجيلًا ولم يوصي أحدًا من تلاميذه بكتابة الإنجيل، إنما كرز بالإنجيل أي البشارة المفرحة والأخبار الطيبة السارة بقرب ملكوت الله، إذ حلَّ خالق السموات والأرض على هذه الأرض فصارت سماءً، وهذا ما أدركته ملائكة السماء عندما ترنمت: " الْمَجْدُ للهِ فِي الأَعَالِي وَعَلَى الأَرْضِ السَّلاَمُ وَبِالنَّاسِ الْمَسَرَّةُ"، ولم يُسلّم السيد المسيح تلاميذه إنجيلًا مكتوبًا، إنما قدّم لهم شخصه المبارك إنجيلًا معاشًا، فهو إنجيلنا الذي به نحيا ونتحرك ونوجد، إنجيلنا الذي يحيا فينا ويعمل معنا وبنا، وقبل صعوده للسماء أوصى تلاميذه أن يكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها، وفهم التلاميذ قصده، بالرغم أنه لم يكن هناك إنجيلًا مكتوبًا، فهو لم ينبه أذهانهم لهذا الإنجيل المكتوب إنما تركه إلى حينه، فقط أعطاهم وعده أنه متى صعد للسماء فأنه سيرسل لهم الروح القدس يذكرهم بكل ما قاله لهم حتى يكرزوا به، ولم يفكر أحد من التلاميذ في تلك الأيام أن يسجل ويُوثّق أقوال السيد المسيح وأعماله ومعجزاته وحياته، إنما أطاعوا وصية الرب يسوع وبذلوا قصارى جهدهم في الكرازة للعالم كله، مقدمين شهادة حيَّة عما شاهدوه بأعينهم وسمعوه بأذانهم (أع 1 : 8، 2 : 32، 3 : 15، 4 : 20، 10 : 39، 1يو 1 : 1)، وراحوا ينقلون روح القيامة للبشرية التـي شبعت موتًا، وجاءت شهادتهم في منتهى القوة والصدق، حتى أن السلطات اليهودية فشلت في إيقاف هذه الشهادة.
ويقول "الأرشمندريت يوسف درة الحداد": " فشهادة الرُّسل كانت جماعية يقوم بها معًا جميع شهود العيان، ويؤيدها ويراقبها جميع معاصري دعوة المسيح من أتباع وخصوم على السواء. ونرى في ملاحقة رجال الدين اليهودي لهم أن هؤلاء لم يكذبوا شهادة الرسل للمسيح، ولكن يحاولون منعهم عنها فيعجزون، لأن الدعوة كانت بتأييد الروح القدس والمعجزات الباهرات، والحياة المسيحية الفريدة القائمة على أعمال الروح القدس والظاهرة فيهم، ونرى المسيحيين الجدد "يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّسُلِ" (أع 2 : 42)، مستبسلين في المواظبة عليه، مع اضطهاد السلطات لهم" (268).
وكرز الآباء الرُّسل ومَن معهم في أرجاء العالم بشخص المسيح الفادي، وهكذا انتشرت المسيحية كجمرة مشتعلة تشعل ما حولها، ونجحت نجاحًا باهرًا، وكل ما كان يملكه المؤمنون هو إنجيل شفاهي، تسلَّموه من أفواه الآباء الرُّسـل، وحفظوه بأمانة كاملة في قلوبهم، وعملوا به في حياتهم، فصار لهم نبراسًا وميثاقًا وسلوكًا وحياةً، وربما كانت هناك مدونات صغيرة سجلها البعض باللُّغة الآرامية دوَّن فيها بعض أقوال السيد المسيح مثل العظة على الجبل، أو الأمثال، أو بعض المعجزات التي أجراها، أو بعض نبوات العهد القديم عنه، أو أحداث الصلب والقيامة، ولعل القديس لوقا أشار لمثل هذه المدونات عندما قال: " إِذْ كَانَ كَثِيرُونَ قَدْ أَخَذُوا بِتَأْلِيفِ قِصَّةٍ فِي الأُمُورِ الْمُتَيَقَّنَةِ عِنْدَنَا" (لوقـا 1 : 1)، ويقول "ماكنيكل " J. Mcnical : "هذه الكلمات (لو1 : 1) هيَ الخبر اليقين الوحيد الذي بحوزتنا عن وجود سجلات مكتوبة قبل الشروع في تدويــن الأناجيــل الثلاثــة الأولى (السنبتية)، ولكن تلك المؤلفات اندثرت جميعها" (269).
وقد يتساءل البعض إن كان الإنجيل الشفاهي كافيًا، فما هيَ الضرورة التي دعت لتدوينه كتابة؟
والحقيقة أنه ظهرت هناك أسبابًا دعت لتدوين الآباء الرُّسل للأناجيل، ومن هذه الأسباب ما يلي:
1ـــ الذين شاهدوا السيد المسيح وشهدوا معجزاته وسمعوا أقواله لم يكن عددهم قليلًا، ففي معجزتي إشباع الجموع أكل من الخبز والسمك الآلاف، وكثيرون هم الذين التصقوا به مثل الرسل السبعين، وعاش معه ليل نهار تلاميذه الاثنى عشر، ويقول الإنجيل: " وَفِي أَثْنَاءِ ذلِكَ إِذِ اجْتَمَعَ رَبَوَاتُ الشَّعْبِ حَتَّى كَانَ بَعْضُهُمْ يَدُوسُ بَعْضًـا ابْتَدَأَ يَقُولُ لِتَلاَمِيذِهِ.." (لو 12 : 1).. لاحظ قول الإنجيل " رَبَوَاتُ" أي عشرات الألوف، وعندما صُلب السيد المسيح لم يجر هذا في زاوية من زوايا الأرض بل صُلب على ربوة عالية في أورشليم في وقت الاحتفال بعيد الفصح، فشاهده الآلاف والآلاف، وبعد قيامته ظهر للكثيرين منهم خمسمائة شخص دفعة واحدة، ولكن بعد مرور نحو ربع قرن من الزمان مات واستشهد من استشهد، وذبح هيرودس أغريباس القديس يعقوب بن زبدي، وقبض على بطرس لكيما يذبحه أيضًا، لولا أن الرب أرسل ملاكه وخلّصه من قبضته ومن كل انتظار شعـب اليهود (أع 12 : 2 - 11)، فشعر المؤمنون أنهم بحاجة لإنجيل مدوَّن بيد الآباء الرُّسل الأطهار قبل مغادرتهم هذه الديار.
2ـــ وُلِدت الكنيسة في وسط يهودي مُعادٍ للسيد المسيح وأتباعه، وحاول اليهود منذ البداية تزييف الحقائق، فأعطوا الجنود رشوة لكيما يدعوا أن التلاميذ جاءوا ليلًا وسرقوا جسد المسيح وهم نيام، وأنه لم يقم من الأموات، واتهموا المسيحيين بأنهم مضلُّون وهم ضد الناموس وضد الدولة، فكان لا بد من الكتابة لإعلان الحقائق، ولا سيما عن صلب السيد المسيح وموته ودفنه وقيامته. وأيضًا هناك من تلاميذ يوحنا من ظن أن يوحنا أعظم من المسيح لأنه جاء قبله، والذي يأتي أولًا له كرامة أفضل مثلما جاء موسى قبل يشوع، وإيليا قبل أليشع، وأيضًا لأن يوحنا عمد المسيح، فكتب الإنجيليون وأوضحوا أن السيد المسيح وإن جاء بعد يوحنا، لكنه هو قبله: " يُوحَنَّا شَهِدَ لَهُ وَنَادَى قِائِلًا هذَا هُوَ الَّذِي قُلْتُ عَنْهُ إِنَّ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي صَارَ قُدَّامِي لأَنَّهُ كَانَ قَبْلِي" (يو 1 : 15)، وأن يوحنا جاء كملاك ورسول يتقدم الملك: " كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي الأَنْبِيَاءِ. هَا أَنَا أُرْسِلُ أَمَامَ وَجْهِكَ مَلاَكِي الَّذِي يُهَيِّئُ طَرِيقَكَ قُدَّامَكَ" (مر 1 : 2)، والسيد المسيح أعتمد من يوحنا ليكمل كل بر: " وَلكِنْ يُوحَنَّا مَنَعَهُ قَائِلًا أَنَا مُحْتَاجٌ أَنْ أَعْتَمِدَ مِنْكَ وَأَنْتَ تَأْتِي إِلَيَّ. فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُ اسْمَحِ الآنَ. لأَنَّهُ هكَذَا يَلِيقُ بِنَا أَنْ نُكَمِّلَ كُلَّ بِر" (مت 3 : 14، 15).
3ــــ كانت هناك حاجة للربط بين بعض نبوات العهد القديم وتحقيقها في حياة وأعمال السيد المسيح، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وهذا ما فعله الإنجيليون ولا سيما متى الإنجيلي الذي ربط بين هذا وذاك، فذكر الكثير من النبوات مثل ولادة المسيح من العذراء، وهروب العائلة المقدَّسة إلى أرض مصر وعودتها منها، ومجيء يوحنا بروح إيليا، وآلام المسيح بالتفصيل وموته ودفنه وقيامته، وهذا كان يتمشى تمامًا مع منهج السيد المسيح، فعندما التقى بتلميذي عمواس حدثهم عن هذه النبوات، وفتح أذهان التلاميذ ليفهموا كُتب العهد القديم، وبهذا أوضح الإنجيليون أن المسيحية لم تنشأ من فراغ بل لها جذورها العميقة الضاربة في أعماق الأسفار المقدَّسة على مدار نحو ألف وخمسمائة عام.
4ـــ عندما كانت المسيحية في أورشليم واليهودية والسامرة والجليل، وكان الآباء الرُّسل يجوبون بسهولة تلك الأماكن، لم يشعر المؤمنون أنهم بحاجة إلى وثيقة مكتوبة، إذ أمام أعينهم الآباء الرسل وشهود العيان وثيقة حيَّة صادقة وأمينة، ولكن سريعًا ما انطلقت المسيحية إلى المدن الكبرى خارج أرض فلسطين، مثل أنطاكية وإسكندرية وروما، وشتى أرجاء المسكونة، ولا سيما بعد رحلات بولس الرسول التبشيرية، فأضحى من الصعب إن لم يكن من المستحيل على الآباء الرسل أن يجوبوا تلك الأماكن البعيدة، فاستعانوا بتلاميذهم، وهم الآباء الرسوليين مثل لوقا الطبيب، وتيموثاوس، وتيطس، وفليمون، وأنسيمس، وسلوانس، ونمفاس، وأكليمنضس الروماني، وتيخيكس، وأرسترخس، وأغناطيوس، وبوليكاروس... إلخ، وحتى هؤلاء وأولئك لم يستطيعوا أن يفوا باحتياجات الكنيسة الجامعة ويلتقوا بالمؤمنين في كل مكان ويجيبون على جميع تساؤلاتهم، فظهرت الضرورة الملحة للإنجيل المكتوب ولا سيما بالنسبة للذين لم يشاهدوا السيد المسيح ومعجزاته ولم يسعدهم الحظ لسماع صوته وأقواله، فأرادوا أن يروا ويسمعوا من خلال الإنجيل المكتوب الموثَّق بيد الآباء الرسل والمُوحَى به من روح الله القدوس، حتى يتجنبوا سوء الفهم.
وجاء في "تفسير أنكور": " احتاجت جماعة المسيحيين الناشئة والتي استدار بينها التقليد الشفوي، إلى مرجع تسترجع منه عمل الله ودعوته للفداء لكي تتجنب سوء الفهم في معرفة ما قدمه لهم التلاميذ الأصليين وذلك خشية من احتمال موتهم. وكانت هناك عناصر أخرى في هذا العمل أيضًا. ونحن نعلم من خلال الدليل الأثري وما كتبه الكتَّاب المدنيين أن أحوال فلسطين بعد سنة 60م كانت مليئة بالعصيان المدني المحتمل، وفـي هــذه السنوات (حتى قبل سقوط أورشليم سنة 70م) ترك الآلاف القطر وفي مثل هذا الموقف كان من الطبيعي أن يشعر المسيحيون وحدهم بالحاجة لتسجيل وحفظ التعليم الشفوي لرسالة المسيح والتي حفظوها في الذاكرة" (270).
5ـــ كان الآباء الرسل يواظبون على الصلوات الليتورجية، وكان المؤمنون: " يُواظِبُونَ عَلَى تَعْلِيمِ الرُّسُلِ وَالشَّرِكَةِ وَكَسْرِ الْخُبْزِ، وَالصَّلَوَاتِ" (أع 2 : 42)، فكان الآباء الرسل هم الذين يقدمون التعليم، وصاروا حراسًا لذلك التقليد المقدَّس Holy Tradition، وعلى اتساع نطاق الكرازة خارج فلسطين عجز الآباء الرُّسل عن تغطية هذه الاجتماعات الليتورجية، فاحتاج المؤمنون للأسفار المقدَّسة المكتوبة بيد الرسل ليقرئوا منها في اجتماعاتهم.
وجاء في "تفسير أنكور": " وإذا كان المسيحيون لديهم العهد القديم كسفر مقدَّس، وكانت المجامع القديمة تتبع نماذج من القراءات والصلوات، لذا فقد كان من الضروري أن يُوضع الإنجيل في شكل ليُقرأ بطريقة مثيلة... ومن المنطقي أن نعتقد أنه كان هناك ضغط لتسجيل الرواية الموثَّقة" (271).
وأيضًا جاء في "تفسير أنكور": " وعندما كُتبت الأناجيل حرص المسيحيون على قراءتها في الليتورجيات، ويشهد بهذه الحقيقة الشهيد يوستين في النصف الأول من القرن الثاني الميلادي، إذ قال: "وفي اليوم الذي يُدعى الأحد يجتمع معًا كل الذين يعيشون في المدن أو في الريف في مكان واحد، وتُقرأ مذكرات الرسل (الأناجيل) أو كتابات الأنبياء بحسب ما يسمح الوقت، وعندما يتوقف القارئ يعلَّم الرئيس وينصح بالعمل بهذه الأمور السارة " (31 Apal, 67)(272).
6ـــ عندما بدأت تظهر بعض الآراء الشاذة وبعض البدع والهرطقات مثل بدعة التهود والغنوسية صار هناك ضرورة لوثيقة مكتوبة يتم الرجوع إليها، فكتابات يوحنا حوت الرد على الغنوسية وإنكار التجسد الإلهي، وأوضح بولس الرسول بعض القضايا الهامة مثل الناموس والنعمة.
7ـ كانت هناك استفسارات عديدة عن قضايا يومية وأسئلة مثارة مثل كيف نتعامل مع المضطهدين؟، وكم مرة نغفر لهم؟ وكيف نقابل اضطرابات العالم؟، وعندما لم يكن هناك إنجيلًا مكتوبًا كان الرُّسل يراجعون أقوال السيد المسيح ويستخرجون منها الإجابات على التساؤلات المطروحة، وكان الروح القدس ينشط ذاكرتهم وينير بصيرتهم، فيجدون في أقوال السيد المسيح وفي تصرفاته معهم خلال سنين التلمذة التي قضوها معه الإجابات إما مباشرة، أو غير مباشرة حيث يسترشدون بأفكاره ومبادئه وأقواله، فكانت هناك ضرورة لتسجيل هذه الأقوال وربطها بالتعاليم، وهذا ما نلاحظه في المنهج الإنجيلي، فمثلًا عندما كتب القديس متى إنجيله ربط بين معجزة تسكين الأمواج وبين الإيمان: " مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ" (مت 8 : 26)، وربط يوحنا بين الضيقات والغلبة: " فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ. وَلكِنْ ثِقُوا أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ" (يو 16 : 33) وعندما كتب القديس بولس لأهل كورنثوس أجاب على تساؤلاتهم العديدة، وعندما ساد اعتقاد خاطئ في كنيسة تسالونيكي بأن المجيء الثاني صار وشيكًا حتى أن البعض ترك أعماله، صحَّح لهم بولس الرسول هذه المفاهيم في الرسالة الثانية لهم.
إذًا المحصلة النهائية أنه كان هناك ضروريات لتسجيل الإنجيل الشفاهي كتابة، وكان أهل روما هم الأسبق إذ طلبوا من مارمرقس أن يكتب لهم هذا الإنجيل الشفاهي، فكتب لهم باللغة اليونانية، ولم يكن هناك أية صعوبة في هذا، فهذه اللغة قد عمت الآفاق وتداولها أهل فلسطين من اليهودية للجليل، وتبعه متى ولوقا، ودوَّن يوحنا الحبيب إنجيله في وقت متأخر، وكلما كُتِب إنجيل وجد فيه المؤمنون شبعهم وقبلوه على الفور لأنه مطابق تمامًا لما استقر في وجدانهم من الإنجيل الشفهي، فالإنجيل الشفهي الذي كرز به الرسل هو الذي كتبوه، ويقول "القديس إيرينيؤس": "إن هذا الإنجيل قد كرز به الرسل أولًا، ثم بحسب إرادة الله نقلوه إلينا في الكتب المقدَّسة حتى يصبح عمود إيماننا وقاعدته" (273).
_____
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/48.html
تقصير الرابط:
tak.la/zv9jwp6