س 47 : هل هناك فرق بين تدوين أسفار العهد القديم، وتدوين أسفار العهد الجديد؟ وهل طبّق كتَّاب الأناجيل نبوات العهد القديم عنوةً على السيد المسيح فأخطأوا، وراحوا يصلحون الأخطاء غير الشائعة، أمَّا الأخطاء التي شاعت فظلت كما هيَ؟
يقول "د. محمد توفيق صدقي": " فرغبة كتَّاب العهد الجديد في تطبيق هذه النبوات القديمة كان أعظم سبب لضلالهم ووقوعهم في الغلط الكثير الذي ملأ أكثر كتبهم والذي منع النصارى فيما بعد عن إصلاح هذه الغلطات مع كثرة تلاعبهم في كتبهم أمران:
1ـــ اشتهار هذه الغلطات ومعرفة خصومهم لها من قدم الزمان وتعييرهم بها فلا يمكنهم والحالة هذه إصلاحها.
2ـــ شيوع الجهل بينهم في الأزمنة القديمة واعتقادهم أن الإيمان بدون بحث ولا تعقل فضيلة، وقلة عدد نسخ كتبهم، وعدم ضم بعضها إلى بعض كما هيَ الآن، وقلة المطلعين عليها حينئذٍ فلم ينتبهوا لهذه الغلطات إلاَّ بعد أن وقف عليها الناس وعرفوها وحفظوها عليهم في كتبهم، فلا يصح جعل هذه الغلطات (كما يفعل بعضهم الآن) دليلًا على أمانتهم في النقل، فكم من غلطات غيرها حاولوا إصلاحها أو أصلحوها فعلًا لعدم شهرتها... ولولا خوف الفضيحة والعار لأصلحوا كل غلطات كتبهم الآن ليستريحوا من القيل والقال، ومع ذلك يتجدَّد لهم كل حين تنقيح وتصحيح وأخذ ورد، وتسليم ورفض، فلم يستقروا في أمرها على حال إلى الآن" (267).
ج : 1ـــ كتب رجال الله القديسون أسفار العهد القديم بأنواع وطرق شتى، سواء بالرؤى والأحلام، أو أحاديث الله المباشرة مع الأنبياء ورجال الله، والذين كتبوا ساقوا النبوات والرموز التي تشير إلى السيد المسيح مشتهى الأجيال، وجاء السيد المسيح وعاش وسط البشر فنظروه ولمسوه وأكلوا وشربوا معه، واستمعوا لأقواله ورأوا معجزاته " اَلَّذِي كَانَ مِنَ الْبَدْءِ الَّذِي سَمِعْنَاهُ الَّذِي رَأَيْنَاهُ بِعُيُونِنَا الَّذِي شَاهَدْنَاهُ وَلَمَسَتْهُ أَيْدِينَـا مِنْ جِهَةِ كَلِمَةِ الْحَيَاةِ" (1يو1 : 1) وفي الوقت المناسب بدأ يكتبون عنه، وهذا ما عبر عنه بولس الرسول قائلًا: " اَللهُ بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا بِأَنْوَاعٍ وَطُرُق كَثِيرَةٍ. كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ" (عب1 : 1، 2)، وسواء في العهد القديم أو العهد الجديد، فإن الله استخدم ضمير المتكلم " أنا":
+ في العهد القديم:
† " وَقَالَ اللهُ أَيْضًا لِمُوسَى هكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ يَهْوَهْ إِلهُ آبَائِكُمْ إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ" (خر 3 : 15).
† " لِكَيْ تَعْرِفُوا وَتُؤْمِنُوا بِي وَتَفْهَمُوا أَنِّي أَنَا هُوَ. قَبْلِي لَمْ يُصَوَّرْ إِلهٌ وَبَعْدِي لاَ يَكُونُ. أَنَا أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ غَيْرِي مُخَلِّصٌ" (إش 43 : 10، 11).
† " أَنَا الرَّبُّ وَلَيْسَ آخَرُ. لاَ إِلهَ سِوَايَ" (إش 45 : 5).
† " أَنَا اللهُ وَلَيْسَ آخَرُ. الإِلهُ وَلَيْسَ مِثْلِي" (إش 46 : 9).
+ في العهد الجديد: استخدم السيد المسيح نفس الضمير " أنا" بنفس القوة والمعنى:
† " قَدْ سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ... وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ" (مت 5 : 21-44).
† " وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا أُعْطِيكُمْ أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا" (يو13 : 34).
† وانتهر الروح النجس: " أَيُّهَا الرُّوحُ الأَخْرَسُ الأَصَمُّ أَنَا آمُرُكَ اخْرُجْ مِنْهُ وَلاَ تَدْخُلْهُ أَيْضًا" (مر 9 : 25).
† وأرسل الروح القدس: " وَمَتَى جَاءَ الْمُعَزِّي الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ" (يو 15 : 26).
† وهو الذي يُرسل الرسل والأنبياء: "هَا أَنَا أُرْسِلُكُمْ كَغَنَمٍ فِي وَسْـطِ ذِئَابٍ" (مت 10 : 16).
† وهو الذي يرسل الملائكة: " أَنَا يَسُوعُ، أَرْسَلْتُ مَلاَكِي" (رؤ 22 : 16).. " فَيُرْسِلُ مَلاَئِكَتَهُ بِبُوق عَظِيمِ الصَّوْتِ فَيَجْمَعُونَ مُخْتَارِيهِ مِنَ الأَرْبَعِ الرِّيَاحِ" (مت 24 : 31).
وتعبير " أنا هو" يعبر عن كينونة الطبيعــة الإلهيَّة، ويتسـاوى تمامًا في لفظة " يهوه"، وقد أدرك علماء اليهود هذه الحقيقة:
"أنا هو" = أنا أكون = أنا يهوه = أكون الذي أكون = أنا هو الرب أو أنا أكون الرب.
فنفس التعبير جاء في سفر التثنية: " أَنَا أَنَا هُوَ وَلَيْسَ إِلهٌ مَعِي. أَنَا أُمِيتُ وَأُحْيِي. سَحَقْتُ وَإِنِّي أَشْفِي" (تث 32 : 39، 40).
وبنفس المعنى قال السيد المسيح: " أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ" (يو 6 : 35).. " لأَنَّكُمْ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا أَنِّي أَنَا هُوَ تَمُوتُونَ فِي خَطَايَاكُمْ" (يو 8 : 24).. " فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ مَتَى رَفَعْتُمُ ابْنَ الإِنْسَانِ فَحِينَئِذٍ تَفْهَمُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ" (يو 8 : 28).. " أَنَـا هُوَ الْبَابُ" (يو 10 : 9)... " أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ" (يو 10 : 11).. " أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ" (يو 11 : 25) (راجع أيضًا يو13 : 19، 14 : 6، 18 : 6، رؤ 1 : 8، 1 : 11، 1 : 17، 2 : 23، 21 : 6).
فمما سبق نرى أن السيد المسيح له المجد تكلّم بنفس المعنى الذي تكلّم به الله في العهد القديم، والفارق الوحيد أن الله تكلَّم في العهد القديم بصورة مباشرة باعتباره أنه الله يهوه، بينما في العهد الجديد تكلَّم في شخص السيد المسيح الإله المتجسد، والذي كان اليهود يجهلون ألوهيته.
2ـــ (أ) حمل الكتاب المقدَّس نحو 1500 نبوة عن أمور ستحدث في المستقبل، وبعضها كان لا يصدقه عقل، مثل ولادة عذراء (إش 7 : 14) والتي أوردها متى الإنجيلي (مت 1 : 22، 23)، هذه المعجزة التي يؤمن بها د. محمد توفيق، ومنها أن المولود إله وإنسان في آن واحد (إش 9 : 6).. إلخ (راجع كتابنا: أسئلة حول صحة الكتاب المقدَّس ص 81 - 100). ومن النبوات الألف وخمسمائة التي حواها الكتاب المقدَّس نحو ثلثمائة نبوة تخص السيد المسيح، تحقَّق منها نحو ثلاثين نبوة في الأربعة والعشرين ساعة الأخيرة من حياة السيد المسيح على الأرض، وكتَّاب العهد الجديد لم ينسبوا نبوات للسيد المسيح لا تخصه، أو طبقوها عليه عنوة، لأن الروح القدس هو الذي أنار أذهانهم ليدركوا أعماق هذه النبوات، ودراسة بسيطة لمدى مهارة الإنجيليين في اختيار النبوات التي تتحدث عن السيد المسيح، توضح وتكشف زيف هذا الادعاء... ولو أخطأ هؤلاء الحواريون وأضلوا الناس، فكيف مدحهم القرآن (سورة آل عمران 3 : 52، والمائدة 5 : 111 والصف 61 : 14)؟!، وكيــف يقــول القرآن عن السيد المسيح: "وجاعل الذين أتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة" (آل عمران 3 : 55) ومن أول الذين أتبعوا السيد المسيح هم تلاميذه الأطهار.
(ب) قال الناقد: " الغلط الكثير الذي ملأ أكثر كتبهم"، وأن الذي منع النصارى من إصلاح هذه الأخطاء شيوع هذه الأخطاء ومعرفة الخصوم بها، حتى أنهم عيروهم بها، وأيضًا شيوع الجهل بينهم، واعتقادهم بأن الإيمان بدون بحث ولا تعقل يعتبر فضيلة، ونحن نسأل الناقد:
س1 : لماذا لم يذكر الناقد هذه الأغلاط التي ملأت أكثر الأسفار المقدَّسة؟
س2 : كيف يشهد القرآن للإنجيل وهو كتاب ملئ بالمغالطـات بأنه نور وهدى (آل عمران 3 : 3، 48، 65، والمائدة 5 : 46، 47، 68، 110)..؟! وإن قال الناقد أن القرآن شهد للكتاب الصحيح الذي اختفى، ولم يشهد للكتاب المعروف الآن، فكيف أمر أهل الإنجيل في عصره في القرن السابع أن يقيموا ما جاء فيه من أحكام: " وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (المائدة 47).. " قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ" (المائدة 68)؟!
س3 : كيف يقول الناقد أن المسيحيين يجهلون كتابهم، بينما القرآن يقول أنهم يعرفون الكتاب مثل معرفتهم لأبنائهم: " الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ" (البقرة 2 : 146)..؟! (راجع سورة البقرة 2 : 62، وآل عمران 3 : 113 - 114، والعنكبوت 29 : 46)، وتتوالى الأسئلة تباعًا (راجع كتابنا: أسئلة حول صحة الكتاب المقدَّس ص 113 - 118). كما أن المسيحيين عُرِف عنهم العلم والبُعد عن الجهل، وكم من البدع ظهرت في تاريخ المسيحية وتم الرد عليها دون قهر ولا تكبيل لحرية الفكر، ولم يجد الهراطقة أو المؤمنون حرجًا في طرح أسئلتهم مهما كانت وجميعها تم الرد عليها، ولم يعمل الهراطقة ولا المؤمنون بتحذير القرآن من إثارة الأسئلة السمجة: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" (المائدة 101).
س4 : كيف يقول الناقد "وقلة عدد نُسَخ كتبهم"..؟! ألاّ يُعتبَر هذا تجني علـى الحقيقة؟! لأنه لا يوجد كتاب على وجه البسيطة له مخطوطات بلغات عديدة، ومطبوعات بترجمات شتى مثل الكتاب المقدَّس، فهناك آلاف المخطوطات للأسفار المقدَّسة ترجع إلى أزمنة مختلفة، وبعضها قريب العهد من تاريخ تدوين هذه الأسفار، كما بلغت ترجمات الكتاب إلى نحو ألفيّ ترجمة، فهل بعد كل هذا يدعي الناقد أن نسخ الكتاب المتاحة قليلة، وقد انتشرت في شتى متاحف العالم.
س5 : هل المسيحيون لم يتعرفوا على هذه الأغلاط لقلة المطلعين عليها؟.. بالقطع هذا أمر غير صحيح على الإطلاق، والدليل على هذا كتابات الآباء الأولين الذين قرأوا هذه الأسفار بدقة متناهية وتأملوا فيها، واقتبسوا منها، حتى قيل لو أن الكتاب فقد لأمكن جمعه ثانية وثالثة وعدة مرات من اقتباسات الآباء، كما أن ما ظهر كأنه خطأ، عرفه الآباء منذ فجر تاريخ المسيحية، وناقشوه بلا حرج، ولم يخشوا الفضيحة والعار كقول الناقد، فمثلًا اعتماد أريوس الهرطوقي على قول السيد المسيح " أَبِي أَعْظَمُ مِنِّي" ليدلل على أن الآب أعظم من الابن، لم يخشى المسيحيون من هذا القول، بل اختاروا هذا الفصل ليصلُّوا به كل يوم في إنجيل صلاة الساعة الثالثة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى.
س6 : هل تم تنقيح الأصول؟.. خلط الناقد بين تنقيح الأصول، وهذا لم يحدث قط، ولم يجرؤ أي إنسان على العبث بهذه الأصول، وبين تنقيح الترجمات وهذا أمر متعارف عليه، لأن هناك مفردات تدخل إلى نطـاق اللغة، ومفردات تخرج منها، فظل فاندايك ينقح ترجمته حتى يوم وفاته.
_____
(267) نظرة في كتب العهد الجديد وعقائد النصرانية ص 53.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/47.html
تقصير الرابط:
tak.la/wqf5vf4