س44 : ما هو دور التقليد في قبول وحفظ وتفسير أسفار العهد الجديد؟ وهل ألغت الأسفار المقدَّسة التقليد؟ وهل "الكتاب المقدَّس وحده" Sola Scriptura يكفي؟
1ــــ انتشرت البشارة بالإنجيل شفاهةً على مدار ربع قرن من الزمان، فعرف المؤمنون أقوال السيد المسيح وحفظوها، وسمعوا عن معجزاته وسجلوها في ذاكرة التاريخ، ولم يكُف الآباء الرُّسل الأطهار عن غرس كلمات الإنجيل في قلوب السامعين، ولم يملُّوا من ترديدها يومًا فيومًا، فقال بطرس الرسول: " وَلكِنِّي أَحْسِبُهُ حَقًّا مَا دُمْتُ فِي هذَا الْمَسْكَنِ أَنْ أُنْهِضَكُمْ بِالتَّذْكِرَةِ" (2بط 1 : 13).. " هذِهِ أَكْتُبُهَا الآنَ إِلَيْكُمْ رِسَالَةً ثَانِيَةً أَيُّهَا الأَحِبَّاءُ فِيهِمَا أُنْهِضُ بِالتَّذْكِرَةِ ذِهْنَكُمُ النَّقِيَّ لِتَذْكُرُوا الأَقْوَالَ الَّتِي قَالَهَا سَابِقًا الأَنْبِيَاءُ الْقِدِّيسُونَ وَوَصِيَّتَنَا نَحْنُ الرُّسُلَ وَصِيَّةَ الرَّبِّ وَالْمُخَلِّصِ" (2بط 3 : 1، 2)، ولأن الإنجيل الشفاهي كان واضحًا ومعروفًا لدى الشعب، لذلك عندما كُتبت الرسائل والأناجيل، على الفور تلقفتها الأيدي واستقرت في العقول إذ لها عُمق من الإنجيل الشفاهي يعيش في داخلهم، وعلى الفور أقرت الكنيسة استخدامها وبذلك أقرَّت قانونيتها، ورفضت الكنيسة كل ما يخالف التقليد المقدَّس الذي تسلمته كنزًا ثمينًا من الآباء الرسل، ودعت هذه الكتب "كتب أبو كريفا" ومعناها الحرفي غامضة أو مبهمة، فهيَ كتب منحولة كاذبة مرفوضة. ونستطيع أن نقول أنه كان للتقليد دور هام في استقبال كلمة الله الشفهية، وتسجيلها فصارت مكتوبة، والكشف عن قانونيتها، بل وتفسيرها أيضًا، ونستطيع أن نقول أيضًا أن الأسفار المقدَّسة للعهد الجديد قد أُعطيت لنا من خلال التقليد، فيقول "الأب چورج فلوروفسكي": " ففي الكنيسة وحدها يحيا الكتاب المقدَّس، ويُعلَن دون أن يُجزَّأ ويصير نصوصًا متفرقة وأمثالًا، أي أن الكتاب أُعطي في التقليد" (204).
2ـــ بعد كتابة أسفار العهد الجديد، لم يقل الاهتمام بالتقليد الذي يعبر عن الشهادة الحيّة ورؤيا العيان، حتى أن "بابياس" (نحو 60-130م) كان يهتم بهذه البشارة الحيّة، فيقول: " وكلما أتى أحد ممن كان يتبع الشيوخ (الذين رأوا الرسل) سألته عن أقوالهم، عما قاله أندراوس أو بطرس، عما قاله فيلبس أو توما أو يعقوب أو يوحنا أو متى أو واحد آخر من تلاميذ الرب... لأني لا أعتقد أن ما نحصل عليه من الكُتب يفيدني بقدر ما يصل إلىَّ من الصوت الحي، من الصوت الحي الدائم" (يوسابيوس القيصري - تاريخ الكنيسة 3 : ف 39 : 4) (205).
فإن اهتمام الكنيسة بالتقليد لم يفتر بعد كتابة الأسفار المقدَّسة، بل سار هذا بجوار ذاك، وقال "القديس باسيليوس الكبير": " أن الانتقادات والكـرازات المحفوظة في الكنيسة، منها ما هو مأخوذ من التعليم المكتوب، ومنها ما هو تسلمناه مفصَّلًا من تقليد الرسل، وكل الأمرين له قوة في العبادة" (206).
3ـــ في القرون الأربعة الأولى كان التقليد واحد في شتى أرجاء المسكونة، ولم يكن هناك اختلافات أو تضاربات بين عدة تقليدات، ويقول "القديس إيرينيؤس" في القرن الثاني الميلادي: " فإن الكنيسة إذ قد استلمت هذه الكرازة، وهذا الإيمان، رغم أنها مبعثرة في العالم كله، إلاَّ أنها تحفظ هذا الإيمان، كما لو كانت تسكن بيتًا واحدًا. كما أنها تعتقد بهذه النقاط (في التعليم) كما لو كانت نفسًا واحدة، ولها ذات القلب الواحد، وتكرز بهذه التعاليم وتعلّمها وتسلّمها، بتوافق كامل، كما لو كان لها فم واحد. فرغم أن لغـات العالم غير متماثلة، إلاَّ أن مضمون التقليد واحد وهو هو نفسه، لأن الكنائس التي تأسست في ألمانيا، لا تؤمن ولا تسلم بأي شيء مختلف، ولا الكنائس التي في أسبانيا، أو التي في الغال، أو التي في الشرق، أو تلك التي في مصر، أو ليبيا... كما أن الشمس التي خلقها الله، هيَ واحدة، وهيَ نفس الشمس في كل العالم، هكذا أيضًا فإن كرازة الحق تضئ في كل مكان... ولن يعلم أي واحد من الرؤساء في الكنائس، مهما كان موهوبًا جدًا، من جهة الفصاحة، أية تعاليم مختلفة عن هذه. ومن الجهة الأخرى، لن يستطيع مَن هو ضعيف في التعبير أن يسبب أي أذى للتقليد. لأن الإيمان لكونه دائمًا واحدًا وغير متغيّر، فلن يستطيع مَن له القدرة أن يتحدث عنه كثيرًا، أن يضيف إليه شيئًا، كما أن من لا يمكنه أن يتحدث عنه إلاَّ القليل، لن ينقص منه شيئًا" (ضد الهرطقات1 : 10 : 2) (207).
وقال "القديس أكليمنضس السكندري": " كما أن تعليم الرسل واحد فهكذا أيضًا التقليد (واحد).." (المنوعات 7 : 17) (208).
4ــــ حفظ التقليد التفسير الصحيح للأسفار المقدَّسة، ويقول "الشماس الدكتور إميل ماهر": " فإن الكنيسة الأرثوذكسية تؤمن بأنه ليس من حق كل إنسان أن يُفسر الكتاب المقدَّس حسبما يشأ، بل لا بد للمُفسر أن يلتزم في تفسيره بروح الآباء وتعليم الرسل. فتكون له النظرة الشاملة في التفسير، المؤسسة على وحدة الكتاب المقدَّس بعهديه، والمبنية على كونه مُوحَى به من الله، وهكذا يتفادى مخاطر استخدام الآية الواحدة، فيفصّل كلمة الحق باستقامة، ويتحاشى ابتداع عقائد جديدة، ويتجنب استحداث ممارسات تتعارض مع التعليم الرسولي.
بهذه الطريقة استطاعت الكنيسة أن تحتفظ بوحدانية الروح واستقامة التعليم... بينما أن أولئك الذي يرفضون التسليم الرسولي ولا يلتزمون به، وينادون بمبدأ أحقية كل إنسان في تفسير الكتاب حسبما يشاء، أو حسبما يلهمه (الروح) - كما يقولون - دون تقيُّد برأي السابقين وتسليم الحواريين، وجدنا أنهم انقسموا وما زالوا ينقسمون ويتفرقون إلى شيع كثيرة يصل عددها إلى بضع مئات" (209).
وما أجمل قول "القديس أُغسطينوس": " أنا أقبل الكتاب المقدَّس مُسلَّمًا في الكنيسة مشروحًا بالآباء مُعاشًا في القديسين"، ويقول "ج. ل. برستيج" G. L. Prestige : " أن صوت الكتاب يُسمَع بوضوح إذا ما فُسرّت نصوصه برؤية واسعة وبطريقة منطقية وباتفاق مع الإيمان الرسولي ومع دليل الممارسة التاريخية للمسيحية، فالهراطقة هم الذين عولوا على نصوص منعزلة والمسيحيون الأصليون تنبهوا أكثر إلى المبادئ الكتابية" (210).
وربط "العلامة ترتليان" بين الكتاب المقدَّس والإيمان الصحيح والتقليد، فقال: "حينما يتضح التعليم المسيحي الحق والإيمان المسيحي القويم نجد الكتاب المقدَّس الحقيقي والتفسير القويم والتقليد المسيحي الحقيقي" (211).
وبدون التقليد قد يخطئ الإنسان في فهم ما هو مكتوب، فيقول "الأب چورج فلوروفسكي": " فالكتاب ينتمي إلى الكنيسة ولذلك يُفهَم بشكل وافٍ ويُفسَر بشكل صحيح فيها، وضمن جماعة الإيمان القويم فقط. أما الهراطقة أي الذين خارج الكنيسة، فلم يملكوا مفتاح فكر الكتاب" (212).
1ــ لم تلغِ الأسفار المقدَّسة التقليد، لكنها أبقت عليه حيًّا، فصارت كل من الأسفار المقدَّسة والتقليد مصدرًا للتعليم، بدون الاستغناء عن أحدهما، ويقول "الأب چورج فلوروفسكي": " لا نقدر أن نقول أن الكتاب المقدَّس يتمتع باكتفاء ذاتي، لا لأنه ناقص أو غير تام أو غير دقيق، بل لأنه في جوهره لا يدَّعى أنه هكذا، لكن نقدر أن نقول أن الكتاب نظام أُوحَى به الله... عندما نعلن أن الكتاب مُكتفٍ بذاته نجعله عُرضة لتفاسير غير موضوعية وكيفيَّة، ونفصله عن مصدره المقدَّس. فقد أُعطينَاه في التقليد، وهو (التقليد) مركزه الحيوي والمتبلور... في أيام المسيحيين الأوائل لم تكن الأناجيل المصدر الأوحد للمعرفة، لأنها كانت غير مدوَّنة بعد. لكن الكنيسة عاشت وفق روح الإنجيل"(213).
2ـــ يقول "قداسة البابا المعظم تواضروس الثاني": " والتقليد هو الحياة الشاملة واختيار الكنيسة كلها الذي ينتقل من مكان لآخر ومن جيل إلى جيل، والكنيسة هيَ الحارس للتقليد، والروح القدس هو المُرشد له، وبهذه الصورة فإن للتقليد صورتان:
الصورة المكتوبة: وهيَ محفوظة في أسفار الكتاب المقدَّس بعهديه القديم والجديد والمقنَّنة من قِبل الكنيسة الجامعة.
الصورة الشفاهية: وهيَ محفوظة في ذاكرة الكنيسة من جيل إلى جيل عبر: الليتورجيات - قوانين المجامع المسكونية - كتابات الآباء وحياتهم - فنون الكنيسة...
معنى ما سبق أن الإنجيل والتقليد ليس شيئين في الإيمان المسيحي، لأن التقليد المقدَّس هو مصدر للإنجيل وكذلك التقليد هو الإيمان الذي يُعبر عنه الإنجيل المقدَّس، ولذلك فعلاقة التقليد بالكتاب المقدَّس هيَ:
هو الذي جمع نصوص الكتاب.
وهو الذي أكدَّ قانونيتها.
وهو الذي يقوم بشرحها.
وهو الذي يحفظها كل يوم.
وهو الذي صنع القديسين" (214).
وجاء في "دستور المجمع الفاتيكاني الثاني" عن الوحي الإلهي: " أن التقليد المقدَّس إذًا والكتاب المقدَّس يرتبطان، ويتصل أحدهما بالآخر على نحو دقيق، وإذ ينبع كل منهما من مصدر إلهي واحد، فأنهما يؤلفان بنوع ما وحدة لا تتجزأ. وينشدان غاية واحدة، فالكتاب المقدَّس في الواقع هو كلمة الله، كُتب بإلهام الروح الإلهي، أمَّا التقليد المقدَّس فهو كلمة الله التي عهد بها المسيح الرب والروح القدس إلى الرسل، وسُلِمت كاملة إلى خلفائهم، لكي يحفظوها ويعلّموها وينشروها بكل أمانة، بواسطة التبشير، ينيرهم روح الحق، وبذا يتضح أن الكنيسة لا تستقي يقينها فيما يخص جميع الحقائق المُوحَى بها، من الكتاب المقدَّس وحده. ومن ثمَ يجب قبول كل من الكتاب المقدَّس والتقليد وتكريمهما، بــقدر متســاوٍ من عاطفة التقوى والإجــلال" (فقـرة 9 من الوحي الإلهي - دستور المجمع الفاتيكاني الثاني)" (215).
كما جاء فيه أيضًا: " أن التقليد والكتاب المقدَّس وديعة واحدة مقدَّسة لكلمة الله تسلَّمتها الكنيسة، وأن الشعب المقدَّس بأسره، إذ يتمسك بهذه الوديعة متحدًا برعاته، يواظب دومًا على تعليم الرسل والحياة المشتركة وكسر الخبز والصلاة (أع 2 : 42)، وعلى هذا النحو، تقوم بين المؤمنين ورؤسائهم وحدة متناسقة فريدة في المحافظة على الإيمان المنقول إليهم. وفي ممارسته وإعلانه" (فقرة 10 من الوحي الإلهي - دستور المجمع الفاتيكاني الثاني) (216).
3ــــ القصد من الهجوم على التقليد هو هدم الإيمان، فيقول "القديس باسيليوس الكبير": " الإيمان هو موضع الهجوم فإن الهدف الوحيد لكل جماعة المقاومين أعداء التعليم السامي... هو تحطيم أساس إيمان المسيح بهدمهم التقليد الكنسي حتى النهاية وإزاحته كلية... يطلبون البرهان الكتابي محتقرين تقليدات الآباء غير المكتوبة كأنه أمر ليس بذي قيمة" (217).
4ـــ بُني الفكر البروتستانتي أساسًا على مبدأ خطير وهو "مسيحية بلا كنيسة"، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وتمسك بمبدأ أخطر وهو "الكتاب المقدَّس وحده" Sola Scriptura يكفي، مع أن الكتاب المقدَّس لا يزعم هذا، فكانت الثمرة مُرة إذ تعددت التفاسير، فكلٍ يُفسر الكتاب كما يحلو له، وترتب على هذا انشقاقات لا حصر لها.
و"الأب چون وايتفورد" Fr. John Whiteford، وهو خادم بروتستانتي سابق ثم صار كاهنًا بكنيسة الروم الأرثوذكس، يتكلّم من واقع خبرته، فيقول: " إذا كانت البروتستانتية ومبدأها الأساسي عن Sola Scriptura هيَ من الله، فلماذا تسببت في أكثر من 20000 عشرين ألف طائفة مختلفة لا تستطيع أن تتفق على المبادئ الأساسية في الكتاب المقدَّس، ولا حتى على معنى كلمة مسيحي؟ إذا كان الكتاب المقدَّس وحده يكفي ولا حاجة إلى التقليد فلماذا يزعم "المعمدانيون " و "شهـود يهــوه" و "الكاريزماتيكييـــن" أو "الميثودست" أنهم يؤمنون بما يقوله الكتاب المقدَّس ولكن لا تستطيع طائفتان منهم الاتفاق على ما يقوله الكتاب المقدَّس؟، فواضح بأي حال من الأحوال أن البروتستانت قد وجدوا أنفسهم في وضع خاطئ، وللأسف فأكثرهم يضعون اللوم على أي شيء إلاَّ أصل الموضوع، فمبدأ Sola Scriptura أساسي جدًا في فكر البروتستانتية بالنسبة لهؤلاء لدرجة أن الشك فيه قد يضاهي الشك في وجود الله. ولكن كما يقول الرب: "كُلُّ شَجَرَةٍ جَيِّدَةٍ تَصْنَعُ أَثْمَارًا جَيِّدَةً، وَأَمَّا الشَّجَرَةُ الرَّدِيَّةُ فَتَصْنَعُ أَثْمَارًا رَدِيَّةً" (مت 7 : 17)، فإذا حكمنا على عقيدة Sola Scriptura بثمارها سنجد أنها لا بد أن تُقطع وتُلقى فـي النار" (مت 7 : 19)" (218) (راجع كتابنا: مدارس النقد والتشكيك جـ 1 - عهد قديم من س50 إلى س53).
_____
(204) الكتاب المقدَّس والكنيسة والتقليد ص 58.
(205) ترجمة القمص مرقس داود - يوسابيوس القيصري - تاريخ الكنيسة ط (2) 1979م ص 175.
(206) أورده القمص بولا عطية - رؤية أرثوذكسية نحو الكنيسة ص 163.
(207) ضد الهرطقات - جـ 1 ط 2013م ص 53، 54.
(208) أورده الشماس الدكتور إميل ماهر - الكتاب المقدَّس - أسلوب تفسيره السليم وفقًا لرأي الآباء القويم ص 32.
(209) المرجع السابق 35.
(210) أورده الأب چورج فلوروفسكي - الكتاب المقدَّس والكنيسة والتقليد ص 101.
(211) المرجع السابق ص 97.
(212) أورده الأب چورج فلوروفسكي - الكتاب المقدَّس والكنيسة والتقليد ص 96.
(215) أورده الأب چورج سابا - على عتبة الكتاب المقدَّس ص 131.
(216) المرجع السابق ص 131.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/44.html
تقصير الرابط:
tak.la/dp9nd5d