س 43 : لماذا أكثر كتَّاب العهد الجديد من الاقتباسات من العهد القديم؟ وما هيَ مناهج الربط بين العهدين الجديد والقديم؟
عندما رفض ماركيون جميع أسفار العهد القديم، لاعتقاده أنها صـادرة من إله قاسي، وليس الإله الطيب صاحب العهد الجديد، إذ وقع في الثنائية، تصدى له الآباء مثل القديس إيرينيؤس، والعلامة ترتليان، والشهيد يوستين وعارضوه بشدة مؤكدين على وحدة الإعلان في العهدين، فكلا العهدين كُتب بإرشاد ووحي روح الله القدوس، العهد القديم يتطلّع إلى المسيا الذي جاء في العهد الجديد. كما تصدى لماركيون القديس أكليمنضس السكندري والعلامة أوريجانوس اللذان حاولا معالجة الصعوبات في العهد القديم بطريقة التفسير المجازي واستخلاص المعاني الروحية من القصص التي حدثت في العهد القديم، بينما رفض آباء أنطاكية هذا التفسير المجازي متبعين التفسير التاريخي الحرفي.
وقد اقتبس العهد الجديد نحو (343) اقتباسًا مباشرًا من العهد القديم، بالإضافة إلى (2309) اقتباسًا غير مباشر أو تلميحًا من العهد القديم، وأكثر سفرين من العهد القديم أُقتبس منهما العهد الجديد هما سفري المزامير وإشعياء، فقد أقتبس العهد الجديد (97) اقتباسًا مباشرًا، و (333) اقتباسًا غير مباشر من سفر المزامير. كما اقتبس (66) اقتباسًا مباشرًا و (348) اقتباسًا غير مباشر من سفر إشعياء النبي. وأكثر سفرين في العهد الجديد اقتبسا من أسفار العهد القديم هما إنجيل متى الذي ربط بين العهدين، وكذلك رسالة بولس الرسول للعبرانيين. وإن كان سفر الرؤيا لم يقتبس أي اقتباس مباشر من العهد القديم إلاَّ أنه يوجد بالسفر (620) اقتباس غير مباشر أو تلميح من العهد القديم، ونستطيع أن نقول أن (199) إصحاحًا من العهد الجديد، من إجمالي (260) إصحاحًا حوى كل إصحاح منهم على الأقل على اقتباسين أو تلميحين من العهد القديم، وكل أصحاحات العهد الجديد التي خلت من اقتباسات أو تلميحات من العهد القديم فقط اثنى عشر أصحاحًا (راجع القس الدكتور رياض قسيس - لماذا لا نقرأ الكتاب الذي قرأه المسيح؟ نحو فهم أفضل للعهد القديم ص 151، 152).
ويمثل العهد القديم الجذور والأساسات التي تحمل العهد الجديد، فالعهد الجديد لم يأتِ من فراغ به له عمق كتابي يرجع إلى نحو خمسة عشر قرنًا من الزمان، ويقول "القس الدكتور مكرم نجيب": " أن العهد الجديد وهو يمثل ثُلث الكتاب المقدَّس لا يمكن أن يُفهَم بدون الثلثين اللذين يشملهما العهد القديم، لأننا إن فعلنا ذلك سوف نقدم إنجيلًا مبتورًا للشعب، وسوف نسقط في نفس الهرطقة التي سقط فيها ماركيون قديمًا... وسيؤدي كل ذلك إلى نتائج خطيرة تنعكس بدورها على إيمان الكنيسة وحياتها اليومية" (محافظ أم متحرر؟ ص 63) (201).
هناك أربعة مناهج رئيسية للربط بين العهدين:
1ـــ منهج الوعد وتحقيقه.
2ـــ منهج المفهوم المركزي للعهدين.
3ـــ منهج مركزية يسوع في العهدين.
4ــ منهج التفسير النموذجي للعهد القديم من خلال العهد الجديد.
ويركز على وعود الله في العهد القديم وتحقيقها في العهد الجديد (promise – fulfillment) وهو المنهج الأكثر شيوعًا، وهو ما عبَّر عنه سمعان الشيخ في قوله: " الآنَ تُطْلِقُ عَبْدَكَ يَا سَيِّدُ حَسَبَ قَوْلِكَ بِسَلاَمٍ. لأَنَّ عَيْنَيَّ قَدْ أَبْصَرَتَا خَلاَصَكَ الَّذِي أَعْدَدْتَهُ قُدَّامَ وَجْهِ جَمِيعِ الشُّعُوبِ. نُورَ إِعْلاَنٍ لِلأُمَمِ وَمَجْدًا لِشَعْبِكَ إِسْرَائِيلَ" (لو 2 : 29-32)، وهذا أيضًا ما عبَّر عنه السيد المسيح في مجمع كفرناحوم عندما قرأ من سفر إشعياء: " ثُمَّ طَوَى السِّفْرَ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْخَادِمِ وَجَلَسَ. وَجَمِيعُ الَّذِينَ فِي الْمَجْمَعِ كَانَتْ عُيُونُهُمْ شَاخِصَةً إِلَيْهِ. فَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ" (لو 4 : 20، 21).
وهناك ثلاث ملاحظات حول هذا المنهج:
1ـــ عندما تقتصر نظرتنا للعهد القديم على أنه مستودع الوعود والنبوات فحسب، فهيَ نظرة قاصرة، لأننا نغفل أمورًا أخرى هامة مثل تاريخ الوعد، وشخصيات العهد القديم...
2ـــ حوى العهد القديم نفسه تحقيق بعض النبوات، فعندما نطق إشعياء وإرميا بأربعة عشر نبوة عن سقوط بابل وهيَ في أوج قوتها، تمت هذه النبوات بالتفصيل في العهد القديم على يد كورش ملك فارس، وكذلك النبوات عن صور وممالك بابل وفارس واليونان والرومان، وهذه جميعها أمور هامة لها بُعدها التاريخي والتعليمي.
3ـــ لا يمكن أن نغفل أن العهد الجديد أيضًا حوى وعودًا ونبوات تحقق بعضها مثل خراب أورشليم وبعضها لم يتحقق للآن مثل مجيء ضد المسيح وعلامات المجيء الثاني.
وهذا المنهج يركز على المفاهيم المركزية المشتركة بين العهدين، فيقول "القس الدكتور رياض قسيس": "هناك العديد من المفاهيم المركزية المشتركة بين العهد القديم والعهد الجديد، هذه بعض أهمها:
وحدانية الله، واهتمام الله بشعبه وتدخله في التاريخ لصالحه، مطالبة الله بأن يحيا شعبه وفق مبادئ أخلاقية معينة وليس مجرد التمسك بالطقوس الدينية، ونعمة الله التي تسعى إلى خلاص الإنسان.
حضور الله، الله الملك الذي يدخل في عهد مع شعبه، والله المحارب الذي يدافع عن شعبه ويهتم به.
الخليقة، العهد، المسيا، الشريعة، المكتوب، الخلاص، الروح القدس، شعب الله.
معرفة الله، طبيعة الله، عصيان الله، فداء الإنسان، مواعيد الله ورجاء الإنسان، العبادة.
ملكوت الله، عناية الله، العهد، حضور الله، محبة الله، نعمة الله، العدالة، الفداء، الشريعة، اهتمام الله بالفقراء، الله الوسيط، يوم الرب، العهد.
حكم الله، خلاص الله، انتصار الله، شعب الله، ابن داود، المسيا العبد، الملك الراعي.
شعب الله، حكم الله، مكان حكم الله.
تشير هذه المفاهيم إلى الاستمرارية بين العهد القديم وبين العهد الجديد في تأكيدها على أن الله الذي أعلن ذاته وأحكامه في العهد القديم، أعلن ذلك أيضًا في العهد الجديد" (202).
وما يؤخذ على هذا المنهج أنه اختصر العهد القديم في مفاهيم مركزية، وتغافل غنى الأفكار اللاهوتية في العهد القديم.
ويركز هذا المنهج على أن يسوع المسيح هو محور العهدين، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ولذلك دعانا السيد المسيح لتفتيش الكتب (أسفار العهد القديم)، لأنها تشهد له (يو 5 : 39)، فكل ما حدث مع السيد المسيح في تجسده له عمقه في العهد القديم، واستخدم الآباء الرُّسل، ولا سيما بولس الرسول هذا المنهج للتدليل على أن يسوع هو المسيح، وبهذا المنهج أوضح القديس هيلاري (315 - 368م) أن كل رجال الله في العهد القديم كانوا رموزًا للسيد المسيح، فالعهد القديم كان بمثابة المرآه التـي عكست صورة المسيح، فمثلًا لون البقرة الحمراء (عد 19) والحبل القرمزي الذي أنقذ راحاب وأهل بيتها (يش 2 : 18) كانا رمزًا لدم الفادي، ومياه الأردن التي طهرت نعمان السرياني من برصه كانت تشير لمياه المعمودية التي هيَ موت وقيامة مع المسيح... إلخ، ويرى أصحاب هذا المنهج أن رؤية السيد المسيح كانت واضحة حتى في طريقة تقسيم وترتيب الأسفار في العهدين، فالأسفار التاريخية في العهد القديم يقابلها الأناجيل وسفر الأعمال، وأسفار الأنبياء يقابلها الرسائل، والأسفار الرؤوية في العهد القديم يقابلها سفر الرؤيا.
فكتبة العهد الجديد بإرشاد الروح القدس أعادوا قراءة العهد القديم في ضوء حياة السيد المسيح وتعاليمه وقيامته، وعُرِف التفسير الأنموذجي (typology) مبكرًا خلال فترة ما بين العهدين، كما عرفته مدرسة أنطاكية التي تمسكت بالتفسير التاريخي الحرفي في القرن الرابع الميلادي، حيث استخدمه "القديس يوحنا ذهبي الفم" (347 - 407م) رئيس أساقفة القسطنطينية فربط بين الهيكل والسيد المسيح، وربط بين موسى وداود وسليمان وإيليا... وبين السيد المسيح.
ويقول "القس الدكتور رياض قسيس": " لاحظ، على سبيل المثال، كيفية تطبيق حدث الخروج أنموذجيًا بواسطة كتبة العهد الجديد. يقدم البشير يوحنا معجزة إشباع الآلاف على أنها بمثابة تكرار لمعجزة المَن في حدث الخروج (يو 6)، ويطبق الرسول بولس مفهومي حدثي الخروج الرئيسيين وهما العبودية والتحرير، على أنهما نتيجة عمل المسيح على الصليب (رو 3 : 24، 8 : 23، أف 1 : 7، 14)، ويرى الرسول بولس أنموذجًا بين تيهان الشعب في برية سيناء وبين الكنيسة (1كو 10 : 1 - 13)، ويشير (بولس الرسول) كاتب الرسالة إلى العبرانيين إلى مفهوم الراحة الذي كان متوقفًا في حدث الخروج وامتلاك أرض كنعان، فيجد أن هذه الراحة يحقّقها عمل المسيح (عب 3 : 1-18)، ويقتبس الرسول بطرس (1بط 2 : 9 - 10) من كتاب الخروج (خر 19 : 5 - 6) فيجعل إسرائيل أنموذجًا للكنيسة، وأخيرًا يطبق الرسول يوحنا تعداد الأسباط في حدث الخروج على الكنيسة (رؤ 7 : 4-8). وهكذا، فإن التفسير الأنموذجي يؤكد الاستمرارية بين العهد القديم وبين العهد الجديد... إن الهيكل ويونان وداود وسليمان ومعجزة أليشع (2مل 4 : 42 - 44) وتجربة البرية (تث 6 : 13، 16، 8 : 3-5) من وجهة نظر كتبة العهد الجديد تعتبر أنموذجًا يؤكد على تعاملات الله في شخص يسوع المسيح قد تكرَّرت في العهد الجديد على نحو متفوق، فيسوع المسيح هو الأعظم بالنسبة لكل هذه الأمور (مت 12 : 6، 41، 42، 14 : 15، مر 6 : 35)" (203).
_____
(201) أورده القس الدكتور رياض قسيس - لماذا لا نقرأ الكتاب الذي قرأه المسيح؟ ص 152.
(202) القس الدكتور رياض قسيس - لماذا لا نقرأ الكتاب الذي قرأه المسيح؟ ص 157، 158.
(203) لماذا لا نقرأ الكتاب الذي قرأه المسيح؟ ص 162، 163.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/43.html
تقصير الرابط:
tak.la/2vf85yr