س414: لماذا سلَّم يهوذا السيد المسيح، وبثمن بخس (مت 26: 15)؟ وهل دخل الشيطان يهوذا قبل الصلب بيومين (مت 26: 14 - 17، مر 14: 10، 11، لو 22: 3 - 6)، أم دخله وقت العشاء بعد أن أخذ اللقمة من يد يسوع (يو 13: 26)؟ وهل قصة الثلاثين من الفضة (مت 26: 19) من وحي خيال الكاتب الذي تأثر بالنبؤات؟ وهل جميع التلاميذ سألوا يسوع عن مكان الفصح، وأرسلهم جميعًا إلى فلان (مت 26: 17، 18)، أم أنه أرسل اثنين منهم فقط (مر 14: 13، لو 22: 8)؟ ومن هو فلان؟
قال البعض: "فلا يمكن أن (يهوذا) يسلم يسوع (معلمه) بسبب الطمع. ذكر الثلاثين من الفضة في القصة غير مُثبت تاريخيًا. الأرجح أن الكاتب وضعها في السياق لتربط أحداثها بنبؤات العهد القديم (زك 11: 12). في الواقع أن الثلاثين من الفضة ثمن بخس جدًا لا يستحق كل هذا العناء. كان العبد المجروح يُشترى بهذا المبلغ... المعنى في النص رمزي أكثر منه تاريخي. يُريد الكاتب أن يقول أنه في حين كانت المرأة تمسح يسوع كضيف ذي مكانة عالية، كان الكهنة يعتبرونه أقل من عبد وضيع. لو كان يهوذا طماعًا لطلب أكثر من هذا بكثير وهو يعلم أن المجمع سيدفع أي مبلغ للقبض على يسوع وردع خطورته. هنا لدينا نموذج رجل حاد الذكاء (يقصد يهوذا) يعرف ما يفعل ولماذا يفعله... يبدو يهوذا... برأيي إنسانًا شديد الذكاء واسع الحيلة، حتى ولو لم يتقن تمامًا تنفيذ ما فكر به"(106).
ج: 1- لماذا سلَّم يهوذا السيد المسيح، وبثمن بخس (مت 26: 15)..؟ هناك ثلاثة آراء في هذه:
الرأي الأول: واضح من النص الإنجيلي أن يهوذا سلَّم معلمه لحكم الموت محبة في الفضة وطمعًا في المال الذي أعمى عينيه، بالرغم من تحذيرات السيد المسيح لتلاميذه: "لاَ تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاسًا فِي مَنَاطِقِكُمْ" (مت 10: 9)، فذهب إلى رؤساء الكهنة بمحض إرادته: "وَقَالَ اذَا تُرِيدُونَ أَنْ تُعْطُوني وَأَنَا أُسَلِّمُهُ إِلَيْكُمْ؟ فَجَعَلُوا لَهُ ثَلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ. وَمِنْ ذلِكَ الْوَقْتِ كَانَ يَطْلُبُ فُرْصَةً لِيُسَلِّمَهُ" (مت 26: 15). وكون القديس متى يذكر عدد الفضة ثلاثين دون بقية الإنجيليين، فلا يُعد هذا تناقضًا ولا عيبًا، لأنه من المسلَّم به أن كل إنجيلي إنفرد بذكر بعض المعلومات أو الأحداث أو الأحاديث، وهذا يُعطينا إثراءً وتكاملًا للقصة التي تناولها أكثر من إنجيلي، وأيضًا هناك انتقادات أو قل تجريحات لا ينبغي الالتفات إليها، فهيَ حملت معدن صاحبها، ومن فضلة القلب يتكلم اللسان، فمثلًا ما بالك بسؤال يمثل عبارة واحدة هيَ سب وقدح وذم وأسلوب متدني: "س541: إله لا يساوي ثمنه ثمن حذاء؟ ثلاثين من الفضة ؟!!!" (البهريز جـ3 ص290)، وهل تقدير يهوذا الخائن الذي هلك بخطيته هو الذي علق بذهن الكاتب فجعله مقياسًا؟!!.. لماذا لم يلتفت إلى مريم التي سكبت طيبًا ثمنه يفوق الثلاث مئة دينارًا ؟!!. ما يهمنا أن محبة يهوذا للفضة هيَ التي دفعته إلى طريق الهلاك، فمحبة الفضة هيَ التي دفعت بدليلة لتسليم شمشون، عندما وعدها أقطاب الفلسطينيين: "فَنُعْطِيَكِ كُلُّ وَاحِدٍ أَلْفًا وَمِئَةَ شَاقِلِ فِضَّة" (قض 16: 5)، ومحبة الفضة هيَ التي دفعت جيحزي لطريق البرص إذ طمع في وزنة فضة وحلتي ثياب فأعطاه نعمان السرياني وزنتي فضة وحلتي ثياب (2 مل 5: 22، 23)، وبسبب محبة المال هلك حنانيا وزوجته سفيرة، فمحبة المال تجعل الإنسان يضل عن الإيمان: "لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَة" (1 تي 6: 10). الأمر العجيب أن يهوذا لم يكن محتاجًا للمال، إنما كان مُحبًا وعابدًا للمال، و" لاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ... لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللَّه وَالْمَالَ" (مت 6: 24). كان معه الصندوق فكان يسرق ما يوضع فيه، وعندما أبصر مريم تكسر قارورة طيب التي ثمنها ثلاث مئة دينار إنكسر قلبه حسرة على هذا الإتلاف بحسب تصوُّره وقال: "لِمَاذَا لَمْ يُبَعْ هذَا الطِّيبُ بِثَلاَثَمِئَةِ دِينَارٍ وَيُعْطَ لِلْفُقَرَاءِ. قَالَ هذَا لَيْسَ لأَنَّهُ كَانَ يُبَالِي بِالْفُقَرَاءِ بَلْ لأَنَّهُ كَانَ سَارِقًا وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيه" (يو 12: 5، 6) ورغم أن يهوذا كان مُحبًا للفضة إلاَّ أنه لم يكن حازقًا، فلو تأمل مليئًا لكان الأفضل له أن يظل يسوع على قيد الحياة حتى يظل تدفق العطايا في الصندوق الذي في حوزته، وأيضًا عندما عقد صفقته مع رؤساء الكهنة لم يساوم معهم مع أنهم كانوا على أتم استعداد أن يضاعفوا له المبلغ أضعافًا.
ولم يكن ليهوذا أي عذر في تصرفه الشائن الطائش هذا، ولا سيما:
أ - إن السيد المسيح صاحب فضل عليه، فهو الذي دعاه لتبعيته، وأقامه من الأثنى عشر تلميذًا المختارين.
ب - عاش يهوذا مع معلمه نحو ثلاث سنوات يأكل ويشرب وينام معه، فقد عاين وجه الإله المتجسد، ورافقه عن قرب، فنال شرفًا تطلع إليه ملوك وأنبياء وكهنة العهد القديم ولم ينالوه.
جـ - سمع يهوذا تعاليم السيد المسيح الجديدة والسامية، التي حوَّلت الأشرار إلى أبرار، والزناة إلى بتوليين والخطاة إلى كارزين، ولمس سمو هذه التعاليم في حديث السيد المسيح مع زكا والسامرية والمرأة التي أُمسكت في ذات الفعل... إلخ.
د - شاهد وعاين معجزات المسيح العجيبة والتي ليس لها مثيل في تاريخ البشرية، فالذين كانوا ينالون الشفاء لا حصر لهم، حتى أن كل من له داء كان يزاحم ويقع عليه حتى يلمسه فيُشفى من دائه، وعاين نازفة الدم وغيرها الكثير.
هـ - كرز يهوذا بِاسم المسيح، وصنع معجزات بِاسمه، ورأى الأرواح النجسة تخضع له.
و - نال كرامات عظيمة، ونال ثقة الكثيرين، وأئتمنه العالِم بكل شيء على صندوق الخدمة، ولم يشك فيه أقرب المُقربين إليه، فعندما قال السيد المسيح لتلاميذه أن واحدًا منكم يسلمني، كل منهم شك في نفسه وأخذ يسأل، هل أنا يا رب؟ ولم يشك واحد منهم في يهوذا.
الرأي الثاني: كان يهوذا الإسخريوطي من جماعة الغيورين "حملة الخناجِر" الذين لجأوا للكفاح المُسلَّح ضد الاحتلال الروماني -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- وكانوا يغتالون الجنود الرومان في الزحام الشديد ويختفون من الأعين، وتوسم يهوذا في السيد المسيح أنه المسيا الذي سيُحرّر البلاد من قبضة الغاشم، وعندما رآه ينهج نهجًا آخر في الصفح والمغفرة ومحبة الأعداء صُدِم فيه، حتى أنه أراد الخلاص منه بأقصى سرعة. ويقول "وليم باركلي" عن يهوذا: "بعد قليل تبين أن يسوع اختار طريقًا آخر يقود إلى الصليب، وفي قمة خيبة أمله تحوَّل حماسه ليسوع إلى حالة من زوال الوهم، انقلبت إلى كراهية مريرة دفعته أن يسعى لموت الرجل الذي كان يُعلق عليه انتظاراته الخائبة وآماله الضائعة. لقد كره يهوذا يسوع لأنه لم يكن المسيح الذي أراده هو أن يكون"(107). والذين يرفضون هذا الرأي يقولون أن الإنجيل لقَّب سمعان القانوني بالغيور بينما لم يُلقَّب يهوذا ولا مرة بالغيور، إنما أوضح أن الشيطان قد تسلط عليه (لو 22: 3، يو 13: 20، 27) كما شهد السيد المسيح أن تلاميذه جميعًا أطهار بإستثناء يهوذا (يو 13: 10، 11).
الرأي الثالث: أدرك يهوذا قوة يسوع العجيبة في صنع المعجزات، وإذ استعجل أن يصنع خلاصًا لإسرائيل ولم يصنع، ظن أنه لو وضعه في موقف عصيب وأوقعه في قبضة أعدائه، فلا بد أن سيُظهر قوته الشمشونية، ويشعل معركة التحرير مُعلنًا مُلكه على عرش داود. ويقول "القس نجيب جورج عوض": "قد يكون يهوذا أكثر تعصبًا وثورية عن باقي التلاميذ، هذا ما يمكن أن يوحي به إقدامه على المبادرة بتسليم يسوع، مع معرفته لما يمكن أن يعني هذا من مخاطر ومجازفات. حلم يهوذا، كباقي التلاميذ والناس، بالمسيا المخلص الذي سيأتي بملكوته العارم بالثورة ليُعيد المُلك والسيادة لشعب اللَّه. كان يؤمن أن المسيا لن يموت بل سينتصر، سيحقق الحُلم، قد يكون يهوذا فكَّر أنه إذا ما ساعد المجمع بالقبض على يسوع، فذلك سيستفز يسوع فيواجه المجمع بموقف إنتصاري حاسم وواضح، يحقّق ما يتخيله وما يتمناه الناس. عندها سيتهيج الشعب ويتحفز للنهوض بغية تحقيق الحرية والخلاص"(108). وربما كان يهوذا على يقين أن الأعداء لن يتمكنوا من يسوع، فإن لم ينتصر عليهم ويسحقهم، فأقل الإيمان أنه سيفلت منهم كما أفلت من قبل من قبضة أهل الناصرة عندما قبضوا عليه وقادوه إلى حافة الجبل حتى يطرحونه إلى أسفل: "أَمَّا هُوَ فَجَازَ فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى" (لو 4: 30)، وعندما رفع اليهود حجارة ليرجموه: "أَمَّا يَسُوعُ فَاخْتَفَى وَخَرَجَ مِنَ الْهَيْكَلِ مُجْتَازًا فِي وَسْطِهِمْ وَمَضَى هكَذَا" (يو 8: 59). لقد كان يسوع أعظم من أن يقحمه أحد في عمل لا يُريده، وقد حاولوا أن ينصّبوه ملكًا أما هو فرفض بحزم، وكان على يهوذا أن يعي ويدرك أن سيده ليس بملك أرضي، وتعاليمه السامية تشهد بهذا.
ولم يكن يهوذا يتوقع أن السيد المسيح سيسلم نفسه، ولذلك عندما رآه يسلّم نفسه ليد أعدائه صُدم ولم يحتمل نفسه الأثيمة فحكم عليها بالموت وأسرع بالانتحار. ويقول "وليم باركلي": "ومهما يكن من أمر فإن مأساة يهوذا كامنة في أنه رفض أن يقبل يسوع كما هو، وأراد أن يصنع من يسوع الشخصية التي يُريدها هو، هذه هيَ المأساة. أن يسوع هو الذي يغيرنا، وليس من عملنا أن نحاول نحن أن نُغيّر يسوع أو نحاول استخدام يسوع لتحقيق أهدافنا الشخصية"(109).
2- هل دخل الشيطان يهوذا قبل الصلب بيومين (مت 26: 14 - 17، مر 14: 10، 11، لو 22: 3 - 6)، أم دخله وقت العشاء بعد أن أخذ اللقمة من يد يسوع (يو 13: 26)..؟ ذكر القديس متى وكذلك القديس مرقس أن يهوذا ذهب إلى رؤساء الكهنة وإتفق معهم على تسليم معلمه، وأعطوه المقابل لهذا من الفضة، وأوضح القديس لوقا أن الشيطان دخل إلى قلب يهوذا ولذلك سلَّمه لرؤساء الكهنة: "فَدَخَلَ الشَّيْطَانُ فِي يَهُوذَا الَّذِي يُدْعَى الإِسْخَرْيُوطِيَّ وَهُوَ مِنْ جُمْلَةِ الاثْنَيْ عَشَرَ. فَمَضَى وَتَكَلَّمَ مَعَ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَقُوَّادِ الْجُنْدِ كَيْفَ يُسَلِّمُهُ إِلَيْهِمْ.." (لو 22: 3 - 6)، ثم يقول القديس يوحنا: "أَجَابَ يَسُوعُ هُوَ ذَاكَ الَّذِي أَغْمِسُ أَنَا اللُّقْمَةَ وَأُعْطِيهِ. فَغَمَسَ اللُّقْمَةَ وَأَعْطَاهَا لِيَهُوذَا سِمْعَانَ الإِسْخَرْيُوطِيِّ. فَبَعْدَ اللُّقْمَةِ دَخَلَهُ الشَّيْطَانُ... فَذَاكَ لَمَّا أَخَذَ اللُّقْمَةَ خَرَجَ لِلْوَقْتِ. وَكانَ لَيْلًا" (يو 13: 26 - 30). فواضح أن الشيطان دخل إلى يهوذا مرتين، المرة الأولى دخل إلى ذهنه وعقله وأفكاره فدفعه للذهاب إلى رؤساء الكهنة وقواد الجند وإتفاقه معهم، ولعل الشيطان قد فارقه بعد هذه الخطوة إلى حين، وحتى وقت العشاء لم يستجب يهوذا لتحذيرات معلمه المتكررة، وقول السيد المسيح: "إِنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ مَاضٍ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَنْهُ وَلكِنْ وَيْلٌ لِذلِكَ الرَّجُلِ الَّذِي بِهِ يُسَلَّمُ ابْنُ الإِنْسَانِ. كَانَ خَيْرًا لِذلِكَ الرَّجُلِ لَوْ لَمْ يُولَدْ. فَأَجَابَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ وَقَال هَلْ أَنَا هُوَ يَا سَيِّدِي؟ قَالَ لَه: أَنْتَ قُلْتَ" (مت 26: 24، 25)، وأصرَّ يهوذا على استكمال مشوار الموت، ولذلك عاد إليه الشيطان مرة ثانية بقوة مخترقًا قلبه ومشاعره، وأسلمه للانتحار، وتحقق فيه قول المسيح: "إِذَا خَرَجَ الرُّوحُ النَّجِسُ مِنَ الإِنْسَانِ يَجْتَازُ فِي أَمَاكِنَ لَيْسَ فِيهَا مَاءٌ يَطْلُبُ رَاحَةً وَلاَ يَجِدُ. ثُمَّ يَقُولُ أَرْجعُ إِلَى بَيْتِي الَّذِي خَرَجْتُ مِنْهُ. فَيَأْتِي وَيَجِدُهُ فَارِغًا مَكْنُوسًا مُزَيَّنًا. ثُمَّ يَذْهَبُ وَيَأْخُذُ مَعَهُ سَبْعَةَ أَرْوَاحٍ أُخَرَ أَشَرَّ مِنْهُ فَتَدْخُلُ وَتَسْكُنُ هُنَاكَ، فَتَصِيرُ أَوَاخِرُ ذلِكَ الإِنْسَانِ أَشَرَّ مِنْ أَوَائِلِه" (مت 12: 43 - 45).
3- هل قصة الثلاثين من الفضة (مت 26: 19) من وحي خيال الكاتب الذي تأثر بالنبؤات..؟ قصة تسليم يهوذا لمعلمه مقابل ثلاثين من الفضة قصة تاريخية حقيقية:
أ - جاءت القصة في الأناجيل الإزائية الثلاث (مت 26: 14، 15، مر 14: 10، 11، لو 22: 3 - 6)، ولم يرد في أي نص من النصوص الثلاثة ما يفيد من قريب ولا من بعيد إلى أن القصة رمزية.
ب - القصة لها جذورها النبوية، فجاء في سفر الخروج: "إِنْ نَطَحَ الثَّوْرُ عَبْدًا أَوْ أَمَةً، يُعْطِي سَيِّدَهُ ثَلاَثِينَ شَاقِلَ فِضَّةٍ وَالثَّوْرُ يُرْجَمُ" (خر 21: 32)، وهكذا بيع السيد المسيح بثمن عبد لأنه ارتضى أن يأخذ صورة العبد من أجل خلاصنا. وجاء في سفر زكريا النبي: "فَقُلْتُ لَهُمْ إِنْ حَسُنَ فِي أَعْيُنِكُمْ فَأَعْطُونِي أُجْرَتِي وَإِلاَّ فَامْتَنِعُوا. فَوَزَنُوا أُجْرَتِي ثَلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ. فَقَالَ لي الرَّبُّ أَلْقِهَا إِلَى الْفَخَّارِيِّ الثَّمَنَ الْكَرِيمَ الَّذِي ثَمَّنُونِي بِهِ. فَأَخَذْتُ الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ وَأَلْقَيْتُهَا إِلَى الْفَخَّارِيِّ فِي بَيْتِ الرَّبِّ" (زك 11: 12، 13).
جـ - لو كانت هذه القصة من خيال الكاتب فكيف يمكن أن نفسر رد يهوذا الفضة لرؤساء الكهنة ورفض رؤساء الكهنة هذه الفضة لأنها ثمن دم، فتشاوروا واشتروا بها حقل الفخاري مقبرة للغرباء؟!!. ألم يقل الإنجيل عن يهوذا أنه: "نَدِمَ وَرَدَّ الثَّلاَثِينَ مِنَ الْفِضَّةِ إِلَى رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخِ... فَطَرَحَ الْفِضَّةَ فِي الْهَيْكَلِ وَانْصَرَفَ... فَأَخَذَ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ الْفِضَّةَ وَقَالُوا لاَ يَحِلُّ أَنْ نُلْقِيَهَا فِي الْخِزَانَةِ لأَنَّهَا ثَمَنُ دَمٍ. فَتَشَاوَرُوا وَاشْتَرَوْا بِهَا حَقْلَ الْفَخَّارِيِّ مَقْبَرَةً لِلْغُرَبَاءِ" (مت 27: 3 - 7).
د - لو كانت الفضة التي ذكرها القديس متى رمزية لتأثره بالنبؤات، فكيف نفسر قول بطرس الرسول عن يهوذا: "فَإِنَّ هذَا اقْتَنَى حَقْلًا مِنْ أُجْرَةِ الظُّلْمِ... وَصَارَ ذلِكَ مَعْلُومًا عِنْدَ جَمِيعِ سُكَّانِ أُورُشَلِيمَ حَتَّى دُعِيَ ذلِكَ الْحَقْلُ فِي لُغَتِهِمْ حَقَلْ دَمَا أَيْ حَقْلَ دَمٍ" (أع 1: 18، 19).. فلو كانت القصة من وحي خيال الكاتب، فمن أين جاء حقل الدم الذي يعلم به جميع سكان أورشليم. قصة بيع يهوذا لسيده المسيح معروفة في الفكر الإسلامي، فمثلًا تجدها في كتاب قصص الأنبياء حيث يُدعى بالتلميذ الخائن الذي واطأ الكهنة على الدلالة عليه بأجر.
وكيف يُبرئ الناقد يهوذا من خطية الطمع، بينما هو لم يكن مجرد طامع فقط بل ولصًا أيضًا بشهادة يوحنا الحبيب: "لأَنَّهُ كَانَ سَارِقًا وَكَانَ الصُّنْدُوقُ عِنْدَهُ وَكَانَ يَحْمِلُ مَا يُلْقَى فِيه" (يو 12: 6). فلو لم يكن طمَّاعًا مُحبًا للفضة ما كان سقط في خطية السرقة والإختلاس، فالإنجيل أدانه وما زالت الكنيسة تدينه في كل عام يوم خميس العهد في لحن يهوذا حيث يلف الشمامسة دورة عكسية من اليسار لليمين، ويدقون بالناقوس على ظهره، وهم يرددون " يهوذا (6 مرات) مخالف الناموس. أخذوا المسيح وسمروه. على الصليب في موضع الأقرانيون... ".
4- هل جميع التلاميذ سألوا يسوع عن مكان الفصح، وأرسلهم جميعًا إلى فلان (مت 26: 17، 18)، أم أنه أرسل اثنين منهم فقط (مر 14: 13، لو 22: 8)؟ ومن هو فلان..؟ أ- طبقًا لإنجيل لوقا نجد أن السيد المسيح هو صاحب المبادرة بأكل الفصح، فأرسل بطرس ويوحنا ليعدا الفصح: "اذْهَبَا وَأَعِدَّا لَنَا الْفِصْحَ لِنَأْكُلَ" (لو 22: 8)، وفي إنجيل متى: "تَقَدَّمَ التَّلاَمِيذُ إِلَى يَسُوعَ قَائِلِينَ لَهُ أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نُعِدَّ لَكَ لِتَأْكُلَ الْفِصْحَ" (مت 26: 17)، وفي إنجيل مرقس: "قَالَ لَهُ تَلاَمِيذُهُ أَيْنَ تُرِيدُ أَنْ نَمْضِيَ وَنُعِدَّ لِتَأْكُلَ الْفِصْحَ" (مر 14: 12). فيمكن تصوُّر الحديث كالتالي:
(1) أعرب السيد المسيح عن إرادته في أكل الفصح.
(2) سأله بعض التلاميذ أين تُريد أن نعد لك لنأكل الفصح.
(3) اختار السيد المسيح بطرس ويوحنا وأرسلهما إلى فلان في أورشليم ليعدا الفصح.
ب - قال القديس متى أن السيد المسيح: "فَقَالَ اذْهَبُوا إِلَى الْمَدِينَةِ إِلَى فُلاَنٍ" (مت 26: 18)، وبالطبع ليس هناك حاجة إلى إرسال جميع التلاميذ الأثنى عشر، إنما أرسل منهم اثنين فقط، وهذا ما أوضحه القديس مرقس: "فَأَرْسَلَ اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِه" (مر 14: 13) وهذا ما أكده القديس لوقا: "فَأَرْسَلَ بُطْرُسَ وَيُوحَنَّا قَائِلًا اذْهَبَا وَأَعِدَّا لَنَا الْفِصْحَ لِنَأْكُلَ" (لو 22: 8)، فعندما قال القديس متى: "اذْهَبُوا" كان يقصد بطرس ويوحنا كنائبين عن السيد المسيح وبقية التلاميذ، وهذا يتمشى مع أسلوب القديس متى في الاختصار حتى أنه لم يذكر قصة الرجل حامل الجرة. أما عن المقصود بفلان فلا يُوجد في الإنجيل تحديد لمن هو فلان صاحبة العلية، والسبب في هذا أن السيد المسيح عندما أرسل بطرس ويوحنا إلى فلان هذا قصد بأن يخفي اسمه عن يهوذا الخائن، لأنه لو عرف يهوذا وهو كان يتحيَّن الفرصة لتسليم معلمه لرؤساء الكهنة، لرتب للقبض عليه قبل أن يصنع الفصح ويقدم الإفخارستيا، ولذلك أعطى السيد المسيح تلميذيه علامة كافية للاستدلال على المنزل وصاحبه، إذ قال لهما يلقاكما رجل حامل جرة ماء، وكانت العادة أن النساء هن اللاتي يستقين الماء (تك 24: 11، يو 4: 7)، فكونهم يجدون رجلًا يحمل جرة ماء فهذا علامة مُميزة ملفتة للنظر. وأيضًا في هذا الموقف أراد السيد المسيح أن يؤكد لتلاميذه بشكل قاطع أنه عالِم بكل شيء، وبكل ما سيأتي عليه، هو يسير إلى طريق الموت بملء إرادته وليس رغمًا عنه.
ويقول "دكتور مجدي وهبي": "بكلام آخر، لم يكن السيد المسيح ذبيحة مقيدة تُقاد إلى الموت في عربة يقودها الشيطان، لكنه كان يعرف مسبَّقًا كل ما سيحدث له ويتبع هذا باختياره. فهو سيد كل الأحداث، يعرفها جميعًا ويتكلم عنها مسبَّقًا وحتى بدقائق التفاصيل فيها، وأنه يكابد الآلام طوعًا، محقّقًا إرادة اللَّه الآب لأجل خلاص البشرية. هذا بالتحديد ما يحاول السيد أن يجعله مفهومًا لدى التلاميذ، سواء بكلماته المختلفة أو بأعماله العظيمة، وهنا بالذات بهذا التنبوء عما سيحدث لهم عند دخولهم المدينة"(110).
وإن كان الإنجيل لم يحدّد شخصية "فلان"، فإن التقليد الكنسي حدَّد هذه الشخصية وهو أرسطوبولس زوج مريم ووالد مرقس، ولأن العلية في بيت مارمرقس لذلك قدم لها مرقس وصفًا دقيقًا: "عِلِّيَّةً كَبِيرَةً مَفْرُوشَةً مُعَدَّةً" (مر 14: 15) ففي هذه العلية أكل السيد المسيح الفصح مع تلاميذه، وفيها قدم سرّ جسده ودمه الأقدسين، وفيها ظهر السيد المسيح للتلاميذ بعد القيامة (يو 20: 19، 26) وبعد الصعود كان التلاميذ يجتمعون في هذه العلية مواظبين على الصلاة (أع 1: 13)، وفيها حلَّ الروح القدس على الحاضرين.
_____
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/414.html
تقصير الرابط:
tak.la/5scbnqf