س402: هل السيد المسيح في توقعاته حول خراب الهيكل بسبب الشعب اليهودي الأهوج (مت 24: 2 - 14) مثله مثل الطبيب المُنجم الفرنسي "نوستراداوس" الذي كتب كتابه "النبؤات" في القرن السادس عشر، وتنبأ عن أحداث الثورة الفرنسية والقنبلة الذرية وأمور كثيرة تحدث حتى اليوم؟ وهل معنى قول المسيح "الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ" (مت 24: 13) أن الإنسان يمكنه أن يخلص بالصبر دون الحاجة للصلب والفداء؟
ج: 1- هل السيد المسيح في توقعاته حول خراب الهيكل مثله مثل الطبيب المنجم الفرنسي "نوستراداوس" ..؟ كلاَّ، كيف نقارن بين الخالق والمخلوق؟!!.. إيماننا في السيد المسيح أنه الإله المتجسد من أجل خلاصنا، وفي العرف الإسلامي هو نبي عالي المقام، هو كلمة اللَّه وروحه، المولود بدون زرع بشر، القدوس الطاهر الذي لم ينسب له القرآن أي خطية، فلا يصح مقارنته مع طبيب مُنجِّم لا من منظور مسيحي، ولا من منظور إسلامي أيضًا. ودعنا يا صديقي نأخذ فكرة مبسطة عن "نوستراداموس" وهذا هو اسمه باللاتينية، فهو "ميشال دو نوتردام" (1503 - 1566م) وُلِدَ في سان ريمي شمالي فرنسا، حصل على درجة طبيب سنة 1532م ثم أصبح أستاذًا في جامعة مونبلييه وعندما كان عمره اثنين وعشرين سنة أُشيع عنه أنه يشفي المرضى عن طريق الأدوية، فكان يجول من مدينة إلى أخرى موزعًا أدويته مُستخدمًا طرق بدائية في العلاج، وعندما حصل على الدكتوراه طلب منه زملائه أن يشرح لهم أدويته وتأثيرها، ففشل في هذا واختلف معه زملائه، وقال البعض أنه يستخدم طرق شيطانية. واشتهر بالتنجيم فنشر مجموعة من التوقعات في صورة شعرية في كتابه "النبؤات" سنة 1555م فانتشرت في أنحاء العالم، واختار الصورة الشعرية لئلا يقع تحت طائلة محاكم التفتيش. وقال البعض أن نبواته جاءت نتيجة تفسيرات رموز الكتاب المقدَّس، وقال البعض أنها انبثقت من العبادة "اللوسفيرتيه" الشيطانية (نسبة للوسيفر). والذي يدرس نبؤات نوستراداموس بحيادية يدرك أنها توقعات عامة، وليست هيَ نبؤات دقيقة ومحددة، كما أنها تُرجمت بصور مختلفة لتأكيد صحتها، فهيَ كتابات عامة غامضة تحمل أكثر من تفسير، فالبعض قال أن بعضها نبؤات عن الثورة الفرنسية والقنبلة الذرية. كما أن نوسترداموس تحدث عن الكوارث الطبيعية مثل الزلازل والبراكين والأعاصير، وهيَ أمور عامة لا يخلو منها عصر، فكلما حدثت كارثة ضخمة في منطقة يحاولون أن يجزّرونها من نبؤات نوستراداموس، فيأخذون عبارة من هنا وعبارة من هناك من أبياته الشعرية قائلين أنها نبوة ترجع للقرن السادس عشر.
ولعل الذين ساعد على انتشار وشهرة كتاب نوستراداموس في القرن العشرين أن وزير الدعاية في حكومة هتلر النازية استخدم مُنجّمًا يُدعى "كرافت" لتفسير نبؤات نوستراداموس، ومن هنا صار اسم "نوستراداموس" أشهر العرافين على مستوى العالم، والبعض تطرَّف لدرجة أنهم نسبوا له نبؤات هو لم ينطق بها، والمغرمون بالغيبيات يتخذونها وسيلة للتسلية... الأمر العجيب أنه بعد فوز "دونالد ترامب" في الانتخابات الرئاسية الأمريكية نشرت صحيفة الأندبنديت البريطانية تقريرًا حول نبؤات المُنجّم الفرنسي نوستراداموس، وأخذوا عبارة من أشعاره: "سيصبح عظيمًا يومًا ما الوقح الجرئ" وقالوا أنها نبؤة عن فوز ترامب، وقال البعض أن نوستراداموس تنبأ عن تصادم سيحدث بين الولايات المتحدة وإيران سنة 2019م وهكذا، فمن الواضح أن هذه النبؤات قد تم توظيفها سياسيًا وإعلاميًا، كلٍ بحسب هواه... فكيف تصح المقارنة بين ما كتبه نوستراداموس وبين ما نطق به اللَّه الكلمة المتجسد؟!!. فإن النبؤات التي نطق بها السيد المسيح عن خراب أورشليم ونهاية العالم تخرج تمامًا عن نطاق الاستنباط والاستنتاج والفراسة والرؤية البعيدة والتوقعات نتيجة تصرفات الشعب اليهودي الأهوج، إنما هيَ نبؤات واضحة وصريحة، مباشرة ومحدَّدة، فمثلًا عندما تكلم عن خراب أورشليم ذكر أن الهيكل سيخرُب حتمًا ويُدمر حتى أنه لا يبقى حجر على حجرٍ إلاَّ ويُنقض، وكان خراب الهيكل أمر غير متوقع على الإطلاق لأسباب عديدة:
أ - كان الهيكل يجمع بين الضخامة والمتانة والعظمة، استغرق تعميره وتوسعاته نحو 46 سنة، فليس من الوارد أن ينهار بسبب القِدم، في الوقت الذي يحرص فيه اليهود على صيانته وتجميله. وجاء في "كتاب الهداية": "إن المسيح تنبأ عن خراب الهيكل لما كانت الأحوال قارة سارة ولما لم تكن قرائن تدل على الخراب أما الهيكل فكان فاخرًا باهرًا وكان فخر الأمة الإسرائيلية وتاجها ونبراسها" (52).
ب - كان اليهود عندما نطق يسوع بالنبؤة يعيشون في سلام بدون أي بادرة لأي حرب.
جـ - كانت الأمة اليهودية تحت حماية الإمبراطورية الرومانية، فليس من المعقول أن يعتدي أي أجنبي على أورشليم، وليس من الوارد أن الإمبراطورية الرومانية تزيله من الوجود لأنها تحترم المشاعر الدينية لليهود، ولا تتدخل في هذا الشأن.
د - لم يكن من المتوقع أن شعب صغير كالشعب اليهودي يثور ضد الإمبراطورية الرومانية.
ويقول "متى هنري": "وبدلًا من أن يغير المسيح الحكم الذي نطق به (مت 23: 38) نراه يؤكده: الحق الحق أقول لكم أنه لا يترك حجر على حجر لا يُنقض:
(1) إنه يتحدث عن الخراب كأمر مؤكد "الحق أقول لكم"، أنا الذي أعرف ما أقول، الذي أعرف أن أتمم ما أقول...
(2) ويتحدث عنه كخراب تام، فالهيكل لا يجرد من كل ما فيه فقط ويُنهب ويشوَّه، بل يُهدم تمامًا ويصبح خرابًا "لا يترك حجر على حجر". استرعى الإلتفات في بناء الهيكل الثاني "وَضْعِ حَجَرٍ عَلَى حَجَرٍ" (حج 2: 15)، وهنا يسترعي الالتفات في هدمه عدم ترك حجر على حجر.
... هذا تم حرفيًا، لأنه بالرغم من أن تيطس عندما استولى على المدينة حرص كل الحرص على حفظ الهيكل فأنه لم يستطع كبح جماح الجنود الثائرين ومنعهم من هدمه تمامًا، وقد تم ذلك بحيث أن تورنوس روفيوس حرث الأرض التي كان الهيكل قائمًا عليها" (53).
وجاء في "كتاب الهداية": ""تيطس" كثيرًا ما أرسل يوسيفوس إلى اليهود لإغرائهم على ترك اللدد والعناد وليزين لهم التسليم والإنقياد لحفظ المدينة والهيكل، غير أن المسيح كان قد تنبأ عن خراب الهيكل وكان ذلك قضيًا مقضيًا... قذف أحد عساكر رومة من تلقاء ذاته شعلة نار في المنفذ الذهبي فاشتعلت النيران وإلتهبت إلتهابًا، فأصدر تيطس أمرًا بإطفاء النيران ولكن لم يلتفت أحد إلى أوامره من شدة الإضطراب، فهجم العساكر على الهيكل ولم يثنهم وعد ولا وعيد ولا ضرب ولا تهديد فإن مقتهم لليهود حملهم على التخريب. وقال يوسيفوس أُحرق الهيكل على غير رغبة القيصر فترى من ذلك أن نبوة المسيح تمت بنوع غريب"(54). وبعد اقتحام وسقوط أورشليم صرَّح تيطس بأن اللَّه كان ضد اليهود وإلاَّ فإن قواته ومعداته لم تكن قادرة على هدم حصونهم (راجع دكتور موريس تاوضروس - المدلولات اللاهوتية والروحية في الكتاب المقدَّس بحسب إنجيل متى ص170). وقال "تيطس": "بموازة اللَّه قد ظفرنا في هذه الغزوة وهو سبحانه الذي أخرج اليهود من هذه الحصون، لأنه ماذا تستطيع أيادي البشر أو آلاتهم الحربية أن تصنع في مثل هذه الأبراج"(55) ورفض تيطس بعد نصرته على أورشليم أن يُكلّل نفسه بأكاليل الغار.
وفي عهد الإمبراطور "هادريان" (117 - 138م) أنشأ الرومان مستعمرة رومانية على أنقاض مدينة أورشليم -كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى- فثار اليهود ثورة عارمة بعد أن استردوا شيء من قوتهم بعد خراب الهيكل سنة 70م، وقاد الثورة "باركوكبا" أي "ابن الكوكب" مُدَّعيًا أنه المسيا المخلص، واستمرت ثورتهم ثلاث سنوات إنتهت بهزيمة ساحقة لهم، وقُتل منهم أعداد ضخمة جدًا، ومنع أي منهم من دخول أورشليم، وأمر الإمبراطور هدريان بحرث أرض أورشليم بالمحراث، فتحققت نبؤة الكتاب بعد نحو 900 سنة من تنبأ ميخا النبي قائلًا: "بِسَبَبِكُمْ تُفْلَحُ صِهْيَوْنُ كَحَقْل وَتَصِيرُ أُورُشَلِيمُ خِرَبًا وَجَبَلُ الْبَيْتِ شَوَامِخَ وَعْرٍ" (مي 3: 12)، وفي سنة 131م بنى الإمبراطور هدريان معبدًا للإله جوبتر على أنقاض الهيكل... وبعد فترة تهدَّم هذا المعبد وبُنيت بدلًا منه كنيسة بِاسم السيدة العذراء تذكارًا لدخولها الهيكل مع الطفل يسوع، وفي سنة 362م سمح الإمبراطور يوليانوس الجاحد (330 - 363م) لليهود بإعادة بناء الهيكل لكيما يُكذّب نبوة المسيح، فهدموا الكنيسة وبدأوا في حفر الأساسات ولكن العواصف والزوابع كانت تهيل الأتربة عليهم، ولما أصروا على استكمال حفر الأساسات خرجت كرات نار من الأرض ورشقتهم فكفوا عن العمل رغمًا عنهم، وفي سنة 539م أعاد الإمبراطور جستينيان الأول (527 - 565م) بناء كنيسة العذراء في مكان الهيكل، وعندما استولى العرب على أورشليم أعطى بطريرك أورشليم لعمر بن الخطاب هذه الكنيسة التي كانت محل نزاع بين اليهود والمسيحيين، ليصلوا فيها، فحوَّلها الخليفة عمر بن الخطاب إلى جامع وهو الجامع الأقصى.
ويقول "الأب متى المسكين": "وكانت رؤية المسيح هذه وكأنها لقطة مصوَّرة لمنظر الهيكل بعد أن تمَّ خرابه، إذ تم إحراقه وإسقاط كل مبانيه الضخمة. وقد استخدم الرومان كل جبروتهم ليهدموه إلى الأرض. والجزء الموجود الآن من سوره هو جزء من المبنى القديم الذي أقامه هيرودس تركه تيطس خصيصًا ليشهد العالم على جبروت الرومان كيف هدموه، لأن حجارته بلغت من الضخامة ما لا يمكن تصديقه"(56).
2- هل معنى قول المسيح: "الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهذَا يَخْلُصُ" (مت 24: 13) أن الإنسان يمكنه أن يخلص بالصبر دون الحاجة للصلب والفداء..؟ لا يمكن أن نبني عقيدة إيمانية على آية واحدة، فمثلًا قال السيد المسيح: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنْ لَمْ تَرْجِعُوا وَتَصِيرُوا مِثْلَ الأَوْلاَدِ فَلَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ" (مت 18: 3)، فهل لو سلكنا في حياة البساطة كالأطفال، دون أن يكون لنا الإيمان المستقيم ولم نجوز بحر المعمودية، هل نخلص؟!! وحتى الأولاد كثيرًا ما ينفذ صبرهم سريعًا؟!!. موضوع الخلاص في المسيحية هو موضوع جوهري وأساسي وواضح، واحتياج الإنسان للفداء موضوع ثابت وواضح في الكتاب المقدَّس بعهديه، وما أكثر الآيات التي تثبت وتوضح هذا، فالإنسان لكيما يخلص يجب أولًا أن يؤمن بالمسيح المصلوب القائم من أجله (يو 1: 12، 3: 16، أع 16: 31، رو 3: 23 - 26، 6: 23، 10: 9، 10 ، أف 2: 8، 9... إلخ)، ثم يجوز في بحر المعمودية (مر 16: 16، يو 3: 5... إلخ) وأن يُرضي اللَّه بأعماله الصالحة (مت 25: 34 - 40... إلخ)، والإنسان في مسيرته للملكوت يحتاج للصبر (مت 10: 22 ، 24: 13... إلخ) ويحتاج الإنسان أن يحيا في بساطة الأطفال (مت 18: 3)..
ويقول "وليم مكدونلد": "لا يعني هذا أن نفس الإنسان ستخلص في ذلك الوقت عن طريق الصبر، فالكتاب المقدَّس يوضح لنا أن الخلاص هو عطية من نعمة اللَّه. تُقبل بالإيمان بموت المسيح النيابي وقيامته. كما أنه لا يعني أن الذين يصبرون ينجون من الأذى الجسدي، لأنه سبق وعرفنا أنه سيستشهد مؤمنون كثيرون (ع 9) لكن ذلك تصريح عام على أن الذين يثبتون محتملين الاضطهاد بصبر سينجون عند مجيء المسيح ثانية"(57).
_____
(54) الهداية جـ 2 ص244.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/402.html
تقصير الرابط:
tak.la/3a3b77x