س 379: هل طلب السيد المسيح من الشاب الغني أن يتخلى عن ممتلكاته للفقراء لكيما يعيش هو وتلاميذه، الذين لا يعملون، على تبرعات الأغنياء والسيدات؟ وعندما يتخلى جميع الأغنياء عن ممتلكاتهم... أليس هذا يعني وقف الاستثمار وحلول الكساد وخراب العالم؟ وما معنى قوله: "مُرُورَ جَمَل مِنْ ثَقْب إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّه" (مت 19: 24)؟ وما دام مرور جمل من ثُقب إبرة من رابع المستحيلات، فهل جميع الأغنياء بلا استثناء سيهلكون؟ (راجع دكتور محمد توفيق صدقي - نظرة في كتب العهد الجديد وعقائد النصرانية ص145، والدكتور أحمد شلبي - مقارنة الأديان 2 - المسيحية ص 268).
ج: 1ــ عندما خصَّص السيد المسيح نفسه مع تلاميذه للخدمة لم يكن هذا أمرًا فريدًا شاذًا، فقد تخصَّص اللاويون للخدمة بحسب أمر الرب لهم: "لَمْ يَكُنْ لِلاَوِي قِسْمٌ وَلاَ نَصِيبٌ مَعَ إِخْوَتِهِ. الرَّبُّ هُوَ نَصِيبُهُ" (تث 10: 9) (راجع أيضًا تث 18: 1، 2)، ولم يكن لللاويين نصيب في أرض الموعد مثل بقية الأسباط، فقط لهم مدن للسكن (عد 35: 2، يش 21)، وكانوا يعيشون من عشور الشعب بحسب الوصية الإلهيَّة " وَاللاَّوِيُّونَ تُكَلِّمُهُمْ وَتَقُولُ لَهُمْ مَتَى أَخَذْتُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ الْعُشْرَ الَّذِي أَعْطَيْتُكُمْ إِيَّاهُ" (عد 18: 26) فكانوا يهتمون بالهيكل، كما كانوا ينتشرون وسط الشعب يعلمونهم أحكام الشريعة. وفي العهد الجديد يتكرَّس الاكليروس للخدمة، ويعيشون على عشور الشعب وتقدماته، ولا يعملون شيئًا من أعمال العالم لأن لهم عملهم في الخدمة، وهكذا كانت الكنيسة منذ نشأتها، فالتلاميذ تركوا أعمالهم وتخصَّصوا للخدمة، وقال بولس الرسول: "أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ فِي الأَشْيَاءِ الْمُقَدَّسَةِ مِنَ الْهَيْكَلِ يَأْكُلُونَ. الَّذِينَ يُلاَزِمُونَ الْمَذْبَحَ يُشَارِكُونَ الْمَذْبَحَ. هكَذَا أَيْضًا أَمَرَ الرَّبُّ أَنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَ بِالإِنْجِيلِ مِنَ الإِنْجِيلِ يَعِيشُونَ" (1 كو 9: 13، 14). وهكذا كانت وصية الرب يسوع للتلاميذ وحلفائهم: "لاَ تَقْتَنُوا ذَهَبًا وَلاَ فِضَّةً وَلاَ نُحَاسًا فِي مَنَاطِقِكُمْ. وَلاَ مِزْوَدًا لِلطَّرِيقِ وَلاَ ثَوْبَيْنِ وَلاَ أَحْذِيَـةً وَلاَ عَصًا لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِق طَعَامَهُ" (مت 10: 9، 10).. " وَأَقِيمُوا فِي ذلِكَ الْبَيْتِ آكِلِينَ وَشَارِبِينَ مِمَّا عِنْدَهُمْ لأَنَّ الْفَاعِلَ مُسْتَحِق أُجْرَتَهُ" (لو 10: 7).
2ــ لم يهدف السيد المسيح إلى الاستيلاء على ممتلكات الشاب الغني، لأن كل من يعرف شخصية السيد المسيح يدرك أنه لا يعرف الالتواء، وحاشا للإله المتأنس أن يفعل هذا، ولم يقل السيد المسيح للشاب الغني ما يُشتَم منه أنه طامع في ثروته، بل حدَّد كيفية التصرف في هذه الثروة، وهيَ أن تذهب بالكامل للفقراء، وهل يحتاج الناقد لعبارة أوضح من هذه العبارة: "فَاذْهَبْ وَبعْ أَمْلاَكَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ وَتَعَالَ اتْبَعْنِي" (مت 19: 21)، وفي إنجيل مرقس: "وَتَعَالَ اتْبَعْنِي حَامِلًا الصَّلِيبَ" (مر 10: 21).. فمن أين آتى الناقد بأن السيد المسيح كان يطمع في أموال هذا الشاب؟!! لقد طلب منه أن يبيع كل أمواله ويعطِ الفقراء ويأتي للمسيح فارغ اليدين، كما دعاه لحمل الصليب، ومن يرتضي أن يحمل الصليب هو في غنى عن أملاك هذا العالم. وللآن فإن من نذور الرهبنة الثلاثية الفقر الاختياري بالإضافة إلى حياة البتولية وحياة الطاعة، ومتى تقدم شاب غني إلى الدير له ممتلكات كثيرة لا يقبله الدير حتى لو أراد التنازل عن ممتلكاته وأمواله لصالح الدير، إنما يشترط عليه أن يبيع كل ما يملك ويوزع الكل على الفقراء ويأتي للدير كفقير لا يملك شيئًا، ويعيش أيام غربته في فقر اختياري. والسيد المسيح ذاته دخل إلى العالم كفقير، فوُلِد من أم فقيرة في أسرة فقيرة، في مزود للبقر، وعاش حياته فقيرًا لم يسعَ للثروة لأن ثروته هيَ في خلاص النفوس: "فَإِنَّكُمْ تَعْرِفُونَ نِعْمَةَ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ أَنَّهُ مِنْ أَجْلِكُمُ افْتَقَرَ وَهُوَ غَنِيٌّ لِكَيْ تَسْتَغْنُوا أَنْتُمْ بِفَقْرِهِ" (2 كو 8: 9).
3ــ وجه السيد المسيح دعوة الكمال لهذا الشاب: "إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلًا فَاذْهَبْ وَبعْ.." (مت 19: 21) وللأسف فإن هذا الشاب لم يقبل هذا العرض وفقد فرصة الكمال، والسيد المسيح عندما يوجه هذه الدعوة لكل غني يبحث عن طريق الكمال فهو يعرف أن قليلين هم الذين يقبلون هذا، فليطمئن الناقد أن الأغنياء في غالبيتهم العظمة لن يتخلوا عن ممتلكاتهم واستثماراتهم ولن يحل الكساد ولن يخرب العالم. بل ليكن للناقد الإيمان أنه حتى لو أطاع جميع الأغنياء هذه الوصية فإن اللَّه قادر أن يملأ الأرض ببركاته وخيراته... فهل يؤمن الناقد بهذه القدرة الإلهيَّة وبركة تنفيذ الوصية أم أنه ينكرها؟! أن الإنسان الحكيم يسعد بتحويل ممتلكاته من ممتلكات زائلة إلى ممتلكات دائمة: "اكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي السَّمَاءِ حَيْثُ لاَ يُفْسِدُ سُوسٌ وَلاَ صَـدَأٌ وَحَيْثُ لاَ يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلاَ يَسْرِقُونَ" (مت 6: 20)، ولهذا أوصانا مخلصنا الصالح: "بِيعُوا مَا لَكُمْ وَأَعْطُوا صَدَقَةً" (لو 12: 33)، وفي الكنيسة الأولى: "وَالأَمْلاَكُ وَالْمُقْتَنَيَاتُ كَانُوا يَبِيعُونَهَا وَيَقْسِمُونَهَا بَيْنَ الْجَمِيعِ" (أع 2: 45).. " لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ كَانُوا أَصْحَابَ حُقُول أَوْ بُيُوتٍ كَانُوا يَبِيعُونَهَا وَيَأْتُونَ بِأَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ. وَيَضَعُونَهَا عِنْدَ أَرْجُلِ الرُّسُلِ" (أع 4: 34، 35).
4ــ ما المقصود بمرور جمَل بثُقب أبرة؟ هناك تفسيران لهذا الأمر:
أ - كانت المدن محصنة بالأسوار، وبالأسوار بوابات ضخمة لعبور العربات والحيوانات وقوافل التجارة، وتضم البوابة بابًا صغيرًا يُستخدم عند إغلاق البوابة العمومية وهو منخفض ويسمح بمرور رجل واحد، وكان يُفتح إلى وقت متأخر بعد إغلاق البوابة الرئيسية ليعبُر الناس منه إلى داخل وخارج المدينة، وكانوا يطلقون على هذا الباب "ثقب الأبرة" فقال السيد المسيح: "مُرُورَ جَمَل مِنْ ثَقْب إِبْرَةٍ" وهو مَثَل كان شائعًا، فالجمل أضخم الحيوانات المعروفة في أرض فلسطين فكيف يعبر من هذا الباب الضيق؟!! وتشبيه السيد المسيح الغني بالجمل تشبيه رائع لأنه يحمل الأثقال لغيره، هكذا الغني يحتفظ بالممتلكات ثم يرحل ويترك هذه الممتلكات لغيره.
ب - إن كلمة " جَمَل" في الأصل اليوناني Kamatos قريبة الشبه جدًا بالكلمة اليونانية Kamilos أي "حبل المراكب"، فمرور حبل المراكب من ثُقب الأبرة أيسر من مرور الغني المتكل على أمواله إلى ملكوت السموات.
ويقول "الخوري بولس الفغالي": "حاول بعضهم أن يخفف من ضخامة الصورة:
(1) بعض المخطوطات (59، 61) والترجمات (الأرمنية. الجيورجية) بدَّلت الحركات فصار " كاميلوس: لا " الجمل " بل " الحبل" (فهناك حاشية نُسِبت إلى أوريجانوس، هكذا قال كيرلس أسقف الإسكندرية في شرحه للوقا 132).
(2) ووصل بعضهم إلى النتيجة عينها حين عادوا إلى الأصل الأرامي المفترض (ج م ل... في العربية الجمل أي الحبل الغليظ).
(3) أورد ابن الطيب هذا الرأي في تفسيره، وترك لفظة " الجمل" (الحيوان الداجن).
(4) كانت هناك أسوار المدن على مدخل ضيق قرب مداخل واسعة، فالمدخل الضيق يُشبَّه بخرم الأبرة لأنه يصعب الدخول فيه.
ولكن لا حاجة للانطلاق من المعنى الكامل للنص، الذي قد يكون استند إلى مثل وقول مأثور.
(1) يتحدث النص عما هو مستحيل. نقرأ في مثل هذه الصعوبة في أعمال بطرس وأندراوس. وسَّع اللَّه الأبرة بحيث مرَّ فيها الجمل. صار اللاممكن بلا ممكن آخر.
(2) أخذ التقليد الآبائي إجمالًا بالتفسير الحرفي. أكليمنضس السكندري، أوريجانوس، الذهبي الفم، أورينيموس، أوغسطينوس.
(3) الجمل هو أكبر حيوان في فلسطين، وهو عريض جدًا، وخُرم الأبرة معروف بأنه ضيق جدًا. وهكذا نكون أمام تعارض كامل.
(4) هذه الطريقة في الكلام معروفة لدى الذي تكلم في (مت 23: 24) عن الذين يبلعون الجمل.
(5) نجد مقابلة مماثلة في تلمود بابل (البركات 55 ب): دخول الفيل من خُرم الأبرة. ونلاحظ أخيرًا أن هناك من ضم خُرم الأبرة إلى الطريق الضيق (مر 13: 7 - 14). كتب أكليمنضس السكندري في كتابه: "أي غني ينجو" (26/7): "يمر الجمل في مضيق وفي طريق ضيق مثل الغني" (راجع أوريجانوس ضد كلسوس 6 / 16).. ونقرأ في القرآن الكريم (سورة الأعراف 7: 40): "إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ " نلاحظ هنا التأثير المسيحي" (1051).
5ــ قال السيد المسيح: "وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا إِنَّ مُرُورَ جَمَل مِنْ ثَقْب إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّه" (مت 19: 24)، واستنتج الناقد أن المسيحية تحكم على جميع الأغنياء بالهلاك، وهذا يُخالف النص الكتابي:
أ - لم يقل السيد المسيح أن دخول الغني إلى ملكوت السموات أمر مستحيل، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. إنما قال أنه "يعسر"، والفرق بين "يستحيل"، و"يعسر" فرق شاسع وواضح، لأنه مع أنه يعسر لكن يظل في دائرة الممكن.
ب - عندما سأل التلاميذ وظنوا أن الخلاص أمر يصعب جدًا على الأغنياء، طمأنهم السيد المسيح، لأن اللَّه هو الذي يتولى أمر خلاص الإنسان: "فَلَمَّا سَمِعَ تَلاَمِيذُهُ بُهِتُوا جِدًّا قَائِلِينَ إِذًا مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ. فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ هذَا عِنْدَ النَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ وَلكِنْ عِنْدَ اللَّه كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ" (مت 19: 25، 26) فاللَّه هو إله المستحيلات، قادر على خلاص الأغنياء متى لجأوا إليه ولم يعتمدوا على غناهم، إذا علموا أن ممتلكاتهم هيَ أمانة وضعها اللَّه في أيديهم وسيحاسبهم عليها، وإذا استخدموا المال، والمال لم يستخدمهم، ولم يستعبدهم فإن أبواب الملكوت تُفتح أمامهم.
ويقول "متى هنري": "إن الذين يمتلكون الكثير في العالم مُعرضون جدًا لتجربة محبة ممتلكاتهم وحصر كل تفكيرهم فيها. هكاذ تقتضي الطبيعة الخادعة للثروات العالمية... أنه إذا زاد الغنى إشتد الخطر لوضع القلب عليه... إن تسلطت محبة العالم على القلب أبعدت الكثيرين عن المسيح ممن يُظهرون رغبات طيبة نحوه، وكما أن الثروات الطائلة تزيد المرء تقدمًا في طريق السماء إن استطاع أن يعلو فوقها، فهيَ من الناحية الأخرى تعرقل سيره في طريق السماء إن شغل نفسه بمحبتها...
هذا ما أكده مخلصنا بكل قوة (ع 23، 24). لقد ذكر هذا الكلام لتلاميذه الفقراء الذين لم يملكوا إلاَّ القليل من حُطام الدنيا لكي يعزيهم في حالتهم هذه ويُبين لهم أنهم كلما قلت ممتلكاتهم في العالم قلت العراقيل التي يصادفونها في طريقهم إلى السماء... الطريق للسماء ضيق أمام الجميع، والباب المؤدي إليه ضيق، ولكنه ضيق بصفة خاصة أمام الأغنياء. فمنهم تُطلب واجبات أكثر من غيرهم، وهيهات أن يؤدوها، وبهم تحيط خطايا أكثر من غيرهم، وهيهات أن يتجنبوها. أمام الأغنياء تجارب شديدة تقاومهم، وهيَ معزية جدًا فمن العسير أن لا يخدعهم العالم الذي يبتسم لهم، من العسير أن لا يزدادوا طمعًا في الماديات عندما يمتلئون منها... ولا يتمكن المرء من تخطي كل هذه العراقيل إلاَّ بقدر وافر من النعمة الإلهيَّة" (1052).
_____
(1051) تفسير إنجيل متى جـ 3 - الجماعة وملكوت اللَّه ص142، 143.
(1052) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ 2 ص158، 160.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/379.html
تقصير الرابط:
tak.la/b9zpdz8