س368: جاء في إنجيل متى قول بطرس الرسول: "يَا رَبُّ جَيِّدٌ.." (مت 17: 4)، بينما جاء في إنجيل مرقس: "فَجَعَلَ بُطْرُسُ يَقولُ لِيَسُـوعَ يَا سَيِّدِي جَيِّدٌ.." (مر 9: 5)، فهل غيَّر متى اللفظ من "السيد" إلى "الرب"؟ وهل يُعد هذا نوعًا من التحريف؟ وكيف سمع التلاميذ صوت الآب (مت 17: 5) بينما قال السيد المسيح عن الآب: "لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ" (يو 5: 37)؟ وهل عندما سمع التلاميذ صوت الآب سقطوا على وجوههم وخافوا جدًا حتى لمسهم يسوع وأقامهم وطمأنهم (مت 17: 6، 7)، أم أنهم نظروا له بغتة فلم يروا إلاَّ يسوع وحده (مر 9: 8)؟
تقول "دكتورة سارة بنت حامد": "وبالطبع فأنه لا يخفى أن لفظ " الرب " إذا لم يُضَف (إلى كلمة أخرى) فأنه يُقصَد به الخالق جل وعلا، وإذا أُضيف فأنه قد يُقصَد به معنى صاحب الشيء أو المالك له، كرب الدار، ورب الدابة. ومنها قوله تعالى على لسان يوسف عليه السلام " اذكرني عند ربكَ " أي عند سيدك. وفي هذا النص من " متى " ورد لفظ الرب مُطلقًا فيُراد به الخالق أو الإله، فكانت بدلًا من السيد فتغيَّر المعنى بتغيُّر اللفظ فأصبح هذا مظهرًا من مظاهر التحريف بالتبديل. واللَّه أعلم" (1010). (راجع أيضًا حفيظ اسليماني - الأناجيل الأربعة دراسة نقدية ص151، وعلاء أبو بكر - البهريز جـ 2 س370 ص376، ونبيل نيقولا جورج - الأناجيل الأربعة لماذا لا يُعوَل عليها ص116).
ج: 1ــ هنا ملاحظتان يجدر الإشارة إليهما:
أ - تتجاهل الدكتورة سارة بنت حامد مفهوم الوحي في المسيحية، واختلافه عن مفهوم الوحي في الإسلام، حيث أنها تؤمن بأن الوحي نصًا وفصًا، لفظًا ومعنًا، وأن استخدام لفظًا عوضًا عن لفظ آخر يحمل نفس المعنى يُعد تحريفًا، ولهذا استحال ترجمة القرآن إنما تُرجمت معانيه، بينما لا نؤمن نحن بهذه النظرية الإملائية الميكانيكية التي تُلغي تمامًا شخصية الكاتب وتحوّله إلى مجرد تسجيل، إنما نؤمن بالنظرية الديناميكية فالأسفار المقدَّسة هيَ نتاج عمل إلهي بشري، وهيَ تحمل كلام اللَّه الذي عبر بذهن الكاتب فاكتسب ثقافة وعلم ولغة وشخصية الكاتب، وحكمت الناقدة على ما جاء في الإنجيل من خلال منظور إسلامي وهذا يُعد نوعًا من الإجحاف، فنحن عندما نريد أن نناقش آية قرآنية نلجأ للمفسرين المسلمين المعتبرين ولا نفسرها من تلقاء ذواتنا، فكان يجب عليها أن تحكم على ما جاء في الإنجيل من منظور مسيحي إنجيلي وما كتبه الآباء الأولون في تفسير آيات الإنجيل.
ب - سواء استخدم القديس مرقس كلمة " يا سيد" أو استخدم القديس متى كلمة " يا رب"، فالاثنان يحملان معنى الربوبية من منظور إنجيلي، فالكتاب استخدم كلمة "السيد" (أدوناي) كلقب إلهي، كما استخدم تعبير " السيد الرب". بل أن لقب "السيد" في الإسلام أيضًا يشير للربوبية، وكلمة "السيد" من أسماء الجلالة، وجاء في "ويكيديا الموسوعة الحرة": "السيد من أسماء اللَّه الحسنى، وهو من الأسماء المشتركة التي تُطلَق على اللَّه كما تُطلَق على غيره من الخلق. مثل الكبير والسلام والعزيز، ومعناه أن اللَّه مالك الخلق، والخلق كلهم عبيده ".. وجاء نفس المعنى في موقع "إسلام - ويب" ردًا على سؤال: "هل السيد من أسماء اللَّه الحسنى؟ " بتاريخ الأربعاء 22 شعبان 1431هـ - 4/8/2010م، فجاء في الفتوى رقم 138447: "فإن السيد من أسماء اللَّه الحسنى كما قال النبي (صلعم) السيد اللَّه. رواه أحمد وأبو داود وغيرهما وصححه الألباني. وهو من الأسماء المشتركة التي تُطلَق عليه سبحانه وتعالى كما تُطلَق على غيره من خلقه مثل الكبير والوكيل والسلام والعزيز. وللمزيد من الفائدة انظر الفتاوي التالية أرقامها: 58876، 131103، 29153 واللَّه أعلم".
2ــ قال السيد المسيح: "وَالآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ" (يو 5: 37).. فلمن وجه كلامه هذا؟ أنه وجه هذا الكلام لليهود الذين أبصروا المفلوج يقوم حاملًا فراشه بعد ثمانية وثلاثين سنة من المرض، وبعد كل هذا أنكروا عمل اللَّه، فقال لهم السيد المسيح: "أَبِي يَعْمَلُ حَتَّى الآنَ وَأَنَا أَعْمَلُ. فَمِنْ أَجْلِ هذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ السَّبْتَ فَقَطْ بَلْ قَالَ أَيْضًا إِنَّ اللَّه أَبُوهُ مُعَادِلًا نَفْسَهُ بِاللَّهِ" (يو 5: 17، 18)، فقول السيد المسيح لليهود المتعصبين أنهم لم يسمعوا صوت اللَّه، هذا حقيقة، وهو لم يوجه كلامه هذا لتلاميذه الثلاثة بطرس ويعقوب ويوحنا، ولا ليوحنا المعمدان، وقد سُمِع صوت الآب قائلًا في معمودية المسيح: "هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ" (مت 3: 17) وفي التجلي: "هذَا هُوَ ابْني الْحَبِيبُ الَّذِي بِهِ سُرِرْتُ. لَهُ اسْمَعُوا" (مت 17: 5)، وشهد بطرس الرسول بهذا قائلًا: "إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهذَا مِنَ الْمَجْدِ الأَسْنَى هذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ. وَنَحْنُ سَمِعْنَا هذَا الصَّوْتَ مُقْبِلًا مِنَ السَّمَاءِ إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ" (2 بط 1: 17، 18).
وعندما قال السيد المسيح لليهود: "لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ قَطُّ وَلاَ أَبْصَرْتُمْ هَيْئَتَهُ" فإن هذا لا يتناقض مع سماع الآباء والأنبياء لصوت اللَّه، مثلما سمعه نوح (تك 7: 1 - 4)، وإبراهيم (تك 12: 1ــ 3)، ويعقوب (تك 32: 24 - 30)، وموسى (خر 3: 4 - 11)، وصموئيل (1 صم 3: 4 - 14) وإيليا النبي (1 مل 17: 3 - 9)، وكثير من الأنبياء، وقال موسى النبي للشعب: "فَكَلَّمَكُمُ الرَّبُّ مِنْ وَسَطِ النَّارِ وَأَنْتُمْ سَامِعُونَ صَوْتَ كَلاَمٍ وَلكِنْ لَمْ تَرَوْا صُورَةً بَلْ صَوْتًا" (تث 4: 12).
وعندما قال السيد المسيح لليهود المعاندين له: "الآبُ نَفْسُهُ يَشْهَدُ لِي. لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ" أي لم تقبلوا شهادته لي، فإن: "اَلَّذِي مِنَ اللَّه يَسْمَعُ كَلاَمَ اللَّهِ. لِذلِكَ أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَسْمَعُونَ لأَنَّكُمْ لَسْتُمْ مِنَ اللَّه" (يو 8: 47)، وهذا يطابق قول الآب في سفر اللاويين: "لكِنْ إِنْ لَمْ تَسْمَعُوا لِي وَلَمْ تَعْمَلُوا كُلَّ هذِهِ الْوَصَايَا" (لا 26: 14)، فقد ربط السمع بالعمل وطاعة الوصايا، وفي سفر القضاة: "فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى إِسْرَائِيلَ وَقَالَ مِنْ أَجْلِ أَنَّ هذَا الشَّعْبَ قَدْ تَعَدَّوْا عَهْدِيَ الَّذِي أَوْصَيْتُ بِهِ آبَاءَهُمْ وَلَمْ يَسْمَعُوا لِصَوْتِي" (قض 2: 20)، وأيضًا قول إرميا النبي: "فَجَلَبَ الرَّبُّ وَفَعَلَ كَمَا تَكَلَّمَ لأَنَّكُمْ قَدْ أَخْطَأْتُمْ إِلَى الرَّبِّ وَلَمْ تَسْمَعُوا لِصَوْتِهِ فَحَدَثَ لَكُمْ هذَا الأَمْر" (إر 40: 3) (راجع أيضًا إر 9: 13، 42: 13، 44: 23). إذًا قول السيد المسيح لليهود: "لَمْ تَسْمَعُوا صَوْتَهُ" أي لم تقبلوا شهادة الآب لي، ولهذا لم تفهموا كلامي.
3ــ قلنا مرارًا وتكرارًا أن انفراد أحد الإنجيليين بخبر ما لا يعني تناقضه مع الأناجيل الأخرى التي لم تذكر هذا الخبر، فإن الأناجيل الأربعة لم تُكتب لتكون نسخة واحدة وإلاَّ فما هيَ الحكمة من كتابة أربع أناجيل متطابقة بالحرف الواحد؟!!! وقد سبق مناقشة هذا الموضوع بالتفصيل فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد ــ عهد جديد - مقدمة (1) س59. والحقيقة أن الأناجيل تتكامل فيما بينها، فمثلًا القديس متى انفرد بقوله هنا: "وَلَمَّا سَمِعَ التَّلاَمِيذُ سَقَطُوا عَلَى وُجُوهِهِمْ وَخَافُوا جِدًّا. فَجَاءَ يَسُـوعُ وَلَمَسَهُمْ وَقَالَ قُومُوا وَلاَ تَخَافُوا" (مت 17: 6، 7)، وقد أشار القديس مرقس إلى هذا السقوط والخوف باختصار في قوله: "إِذْ كَانُوا مُرْتَعِبِينَ" (مر 9: 6). أما قول مارمرقس: "فَنَظَرُوا حَوْلَهُمْ بَغْتَةً وَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا غَيْرَ يَسُوعَ وَحْدَهُ مَعَهُمْ" (مر 9: 8) فإن هذا حدث بعد أن سقط التلاميذ على وجوههم وقد أقامهم يسوع وطمأنهم، وهذا ما ذكره القديس متى أيضًا بقوله: "فَرَفَعُوا أَعْيُنَهُمْ وَلَمْ يَرَوْا أَحَدًا إِلاَّ يَسُوعَ وَحْدَهُ" (مت 17: 8). كما أن التباينات في القصة توضح حقيقة القصة وتنفي شبهة التحريف، فمثلًا انفرد القديس متى بذكر قصة سقوط التلاميذ على وجوههم واقامة السيد المسيح لهم (مت 17: 6، 7)، بينما انفرد القديس مرقس بالوصف الرائع عن ثياب السيد المسيح: "وَصَارَتْ ثِيَابُهُ تَلْمَعُ بَيْضَاءَ جِدًّا كَالثَّلْجِ لاَ يَقْدِرُ قَصَّارٌ عَلَى الأَرْضِ أَنْ يُبَيِّضَ مِثْلَ ذلِكَ" (مر 9: 3)، وكذلك القديس لوقا بقوله عن موسى وإيليا: "اَللَّذَانِ ظَهَرَا بِمَجْدٍ وَتَكَلَّمَا عَنْ خُرُوجِهِ الَّذِي كَانَ عَتِيدًا أَنْ يُكَمِّلـَهُ فِي أُورُشَلِيمَ" (لو 9: 31) وأيضًا انفرد بتوضيح التوقيت الذي تحدث فيه بطرس الرسول: "وَفِيمَا هُمَا يُفَارِقَانِهِ قَالَ بُطْرُسُ لِيَسُوعَ.." (لو 9: 32).
ولا يفوتنا أن نؤكد أن السيد المسيح أوصى تلاميذه أن لا يقولوا لأحد عن هذا التجلي حتى يقوم من الأموات (مت 17: 9، مر 9: 9) لأن ساعة موته الفدائي لم تكن قد جاءت بعد، ورسالته في الكرازة لم تكن قد انتهت بعد، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فلو تفاخر التلاميذ بهذا الحدث فربما سيشعلون حقد الكتبة والفريسيين، أو يثيرون السخرية والاستهزاء بما يقولونه. بل أن بقية التلاميذ ربما لم يستوعبوا هذا الحدث العظيم، أو ربما يطمعون في مُلك أرضي.
_____
(1010) التحريف والتناقض في الأناجيل الأربعة ص125، 126.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/368.html
تقصير الرابط:
tak.la/d965pxb