س359: هل المرأة التي استنجدت بيسوع ليشفي ابنتها كانت: "كَنْعَانِيَّةٌ" (مت 15: 22)، أم أنها: "أُمَمِيَّةً وَفِي جِنْسِهَا فِينِيقِيَّةً سُورِيَّةً" (مر 7: 26)؟ ولماذا جاءت في بعض الطبعات " يونانية وفي جنسها فينيقية سورية" (مر 7: 26)، فهل حملت خمس جنسيات: كنعانية، أممية، فينيقية، سورية، يونانية؟ وهل السيد المسيح جاء من أجل اليهود فقط: "لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّةِ" (مت 15: 24)، أم أنه جاء من أجل العالم كله (مت 28: 19) لأنه إله العالمين؟ ولماذا تعامل السيد المسيح مع هذه المرأة المسكينة بكل هذه القساوة وهذا العنف، واحتسبها من ضمن الكلاب (مت 15: 26)؟
يقول "دكتور محمد توفيق صدقي" ساخرًا: "فانظر إلى مقدار عطفه ورحمته بالضعفاء!! وهل الرجل الذي يقولون أنه جاء لخلاص الناس أجمعين... ألا يدل ذلك على أن كل ما جاء في تعاليمه مما يفيد معنى الرحمة والمسامحة والإحسان إلى الناس ما كان يريد به إلاَّ أمته اليهودية فقط لا غيرهم من الأمم كما هو في صريح عباراته في هذه القصة التي تدل على القساوة المتناهية، حتى حركت أعماق المرأة عطف تلاميذه أنفسهم قبله ولذلك طلبوا منه إجابة طلبها فأبى أولًا. فهذه هيَ أخلاق هذا الرجل الذي يمدح نفسه بقوله (مت 11: 29) " لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ "! فهل يتفق هذا ما ما فعله مع المرأة الكنعانية؟ نعم هو وديع ومتواضع القلب ولكن مع من؟ مع الأقوياء من أمة اليهود ومع الرومانيين حكامه وحكام أمته. أما الضعفاء الأجانب فهم عنده " كلاب " !!" (969).
(راجع اللواء أحمد عبد الوهاب - اختلافات في تراجم الكتاب المقدَّس ص53، 54، ودكتورة سارة بنت حامد - التحريف والتناقض في الأناجيل الأربعة ص246، 247، وحفيظ اسليماني - الأناجيل الأربعة دراسة نقدية ص124، والأمام أبو زهرة - محاضرات في النصرانية ص101، وعلاء أبو بكر - البهريز جـ2 س360 ص371، س392 ص391، جـ3 س14 ص19، جـ4 س214 ص231، 232، س283 ص301، س312 ص359، ونبيل نيقولا جورج - الأناجيل الأربعة لماذا لا يُعوَّل عليها ص173، 174).
ج: ملاحظة مبدئية: بينما اعتاد النُقَّاد على تسجيل تساؤلاتهم في الموضوع الواحد مرة واحدة، تجد علاء أبو بكر يكرّر تساؤلاته حول الموضوع الواحد، بدون أي إضافات للمعنى، وفي مرات كثيرة يكرّر نفس التساؤلات بذات الألفاظ، ونجده هنا يكرّر ذات التساؤلات ست مرات في أماكن متفرقة عن قصد محاولًا إخفاء هذا التكرار الممل الذي يستهلك الوقت والجهد بلا طائل، وفي تساؤله حول موضوع مُعين بلغ به التكرار أحيانًا إلى أكثر من عشر مرات، ولم يكتفي أنه لم يبذل أي جهد على الإطلاق في ترتيب وتصنيف تساؤلاته، فيأتي بها تباعًا حسب تسلسلها في الأسفار المقدَّسة، أو يصنفها إلى أي مواضيع يراها، إنما إتخذ التشتُّت منهجًا له فيأتي بسؤال من الشرق وآخر من الغرب، ولم يلتزم بأي منهج علمي، إنما سلك مسلك "القص واللصق" للمبتدئين، وقد وضع أمامه هدف واحد، هو ضرب الرقم القياسي في عدد الأسئلة المطروحة.
1ــ لم يذهب السيد المسيح إلى تخوم صور وصيدا بهدف الكرازة للأمم والتعليم، ولم يصنع هناك معجزات كما فعل في اليهودية والجليل، بل ذهب إلى هناك ليجد فترة هدوء وراحة من مشاحنات الكتبة والفريسيين الذين تبعوه من أورشليم للجليل، ولكنهم لن يأتوا إلى مدن الأمم. وكانت صور وصيدا من مدن فينيقيا، والفينيقيون من نسل الكنعانيين، وخضعت تلك المنطقة لحكام سورية إلى أن استولى عليها الإسكندر الأكبر، فصارت خاضعة للإمبراطورية اليونانية، وصارت لغتها هي اللغة اليونانية. وفي نفس الوقت لم تكن هناك مدينة معينة تُدعى بِاسم كنعان، إنما كانت كلمة الكنعانيين تشير لتلك الشعوب التي سكنت منطقة فلسطين قبل مجيء بني إسرائيل إليها، وذكر القديس متى أنها " امْرَأَةٌ كَنْعَانِيَّةٌ" نسبة لجذورها القديمة، وهذا هو الأسلوب المتعارف عليه بين اليهود. أما القديس مرقس فقد ذكر أنها " فِي جِنْسِهَا فِينِيقِيَّةً سُورِيَّةً"، أي أنها تقطن المنطقة التي تقع شمال أرض الجليل حيث مدينتي صور وصيدا أشهر مدن فينيقيا.
إذًا هذه المرأة لم تحمل خمس جنسيات كأدعاء بعض النُقَّاد، لأن كلمتي "أممية"، و"يونانية" تؤديان نفس المعنى، أي أنها ليست من شعب اللَّه، واليونانيون في نظر اليهود هم أمم. إذًا القول أنها أممية أو يونانية سيان، والقول أنها "كنعانية" إشارة لجذورها القديمة، والقول أنها فينيقية لا يتعارض مع القول كنعانية، لأن الفينيقيين فرع من الأصل الكنعاني، والقول أنها سورية إشارة لتبعيتها لحكام سوريا.
وهذا التساؤل قديم الأيام حتى أنه سبق الإجابة عنه سنة 1900م وما قبل ذلك، فجاء في "كتاب الهداية": "إن البلاد التي كانت تشتمل على صور وصيدا كانت في يد الكنعانيين وكانت تُسمى كنعان ولا يخفى أن الفينيقيين تناسلوا من الكنعانيين، وكانت البلاد التي تشتمل على صور تسمى فينيقية أو (فينيقية سورية) ثم استولى عليها إسكندر ذو القرنين فصارت تابعة لليونان، وكانت تلك المدن في عصر المسيح يونانية، وكانت تلك المرأة أممية تحت حكومة اليونان ولغتها يونانية، فكانت فينيقية سورية مولدًا وأصلها من ذرية الكنعانيين، ولنضرب مثلًا يوضح ذلك، فنقول أن العرب التابعين للدولة العثمانية يُطلق عليهم عرب باعتبار الأصل، وعثمانيون بالنظر إلى الحكومة. ويجوز تخصيص الشخص بِاسم وطنه مسقط رأسه ومنبت غرسه بأن يُقال مكاوي (أي من مكة) فهو عربي مكاوي وعثماني. على أنه إذا فُرض أن هذه المرأة لم تكن يونانية فكانت العادة الجارية عند الأمة اليهودية أن يطلقوا لفظة اليونانية أو الأمم على كل من لم يكن يهوديًا وعلى كل حالٍ فلا يوجد في العبارة أدنى تناقض، فمن قال أنها كنعانية نظر إلى أصلها ونسبتها القديمة، ومن قال أنها فينيقية سورية نظر إلى البلاد التي وُلدت فيها، وهذا إصطلاح مرعي" (970).
2ــ جاء السيد المسيح للعالم كله، فقال: "لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللَّه ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ" (يو 3: 17).. " لَمْ آتِ لأَدِينَ الْعَالَمَ بَلْ لأُخَلِّصَ الْعَالَمَ" (يو 12: 47)، وقال يوحنا الحبيب: "وَنَحْنُ قَدْ نَظَرْنَا وَنَشْهَدُ أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَ الابْنَ مُخَلِّصًا لِلْعَالَمِ" (1 يو 4: 14). وعندما بدأ السيد المسيح كرازته وخدمته كان ذلك وسط شعبه اليهودي كمرحلة أولى، فهم الشعب الوحيد الذي كان يعرف اللَّه دون بقية شعوب العالم التي سقطت في الوثنية المرذولة. فقد اختار اللَّه هذا الشعب ليكون الخميرة التي تخمر العجين كله، واختار السيد المسيح تلاميذه الاثني عشر وجميعهم من بني جلدته، وبالرغم من أن الرب يسوع خدم خدمة جبارة وسط شعبه وصنع معجزات لم يصنعها قط أحد قبله ولا بعده، فأنه قوبل بالرفض وأُتهم إتهامات باطلة: "إِلَى خَاصَّتِهِ جَاءَ وَخَاصَّتُهُ لَمْ تَقْبَلْهُ" (يو 1: 11)، حتى بنو مدينته قد رفضوه: "وَأَمَّا يَسُوعُ فَقَالَ لَهُمْ لَيْسَ نَبِيٌّ بِلاَ كَرَامَةٍ إِلاَّ فِي وَطَنِهِ وَفِي بَيْتِهِ" (مت 13: 57). وبدأ الرسل خدمتهم وسط الشعب اليهودي وكذلك بولس الرسول، وعندما رُفِضوا اتجهوا للأمم (أع 28: 25 - 28)، فالبشارة للأمم كانت في الخطة الإلهيَّة، حتى أنه قال في سفر التثنية: "هُمْ أَغَارُونِي بِمَا لَيْسَ إِلهًا أَغَاظُونِي بِأَبَاطِيلِهِمْ. فَأَنَا أُغِيرُهُمْ بِمَا لَيْسَ شَعْبًا بِأُمَّةٍ غَبِيَّةٍ أُغِيظُهُمْ" (تث 32: 21)، وقال داود النبي: "تَذْكُرُ وَتَرْجعُ إِلَى الرَّبِّ كُلُّ أَقَاصِي الأَرْضِ وَتَسْجُدُ قُدَّامَكَ كُلُّ قَبَائِلِ الأُمَمِ" (مز 22: 27). وقد أرسل السيد المسيح تلاميذه ليكرزوا للعالم كله (مت 28: 19، مر 16: 15) وقد منحهم قوة للكرازة من روحه القدوس فنشروا نور الإيمان في أرجاء العالم.
3ــ في حديث السيد المسيح أقنوم الحكمة مع المرأة الكنعانية يحسن بنا أن ندون الملاحظات الآتية، لنتعرَّف على طبيعة ذاك اللقاء:
أ - لم تشاهد هذه المرأة السيد المسيح من قبل ولم ترى شيئًا من معجزاته ولكنها سمعت عنه، لأن سُمْعته عمَّت الآفاق، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ويقول "القمص تادرس يعقوب": "لقد حُرِمت زمانها كله من سماع كلمة اللَّه ولم تتسلم الناموس ولا ظهر في وسطها أنبياء بل عاشت حياتها في عبادة الأوثان، لكنها بالسماع عرفت القليل عن المسيا "ابن داود" فخرجت من تخومها كما من كفرها وعبادتها الوثنية لتلتقي به. رفضه الذين لديهم قوائم الأنساب وبين أيديهم الرموز والنبؤات تحدد شخصه، وجاءت إليه غريبة الجنس لا لتدخل في مناقشات غبية ومجادلات إنما لتغتصب حبه الإلهي ومراحمه لينقذ ابنتها المجنونة جدًا. لقد قبلته مخلصًا لها، إذ شعرت بالحاجة إليه لأن نفسها كابنة لها مجنونة جدًا، فقد فقدت تعقلها وحكمتها" (971).
وهذه المرأة تعرف أنها كوثنية فإن اليهود ينظرون إليها نظرتهم للكلاب، فهيَ تتفهم هذا، ولكن محبتها لابنتها دفعتها أن تفعل أي شيء من أجل شفائها، هذا من جهة هذه المرأة الكنعانية، أما من جهة السيد المسيح فلأول مرة يلجأ إليه إنسان ويتأنى عليه وكأنه يرفض طلبه، لأنه أراد أن يُظهر بريق معدنها الذهبي، وهو كطبيب حكيم ماهر استخدم المشرط ليكشف عما بداخلها من فضائل عظيمة، ويقول "متى هنري": "تعودت أذناه أن تنفتحا دوامًا وتصغيا لصراخ كل الملتجئين إليه، وتعودت شفتاه التي تقطران عسلًا أن تكونا مستعدتين أن تجيبا بالسلام. أما هذه المرأة فقد صم لها أذنيه فلم تجد منه لا رحمة ولا إجابة. ومن الغريب جدًا أنها لم تنصرف في تبرُّم قائلة: أهذا هو الذي أُشتهر بالرحمة والحلم واللطف؟ أيمكن أن يكون قد سمع الكثيرين واستجاب لندائهم وهم يتكلمون وأكون أنا أول من رفض طلبها؟ لماذا يتباعد عني هكذا إن كان صحيحًا ما قيل من أنه قد تنازل إلى الكثيرين؟ على أن يسوع كان يعرف ما يفعل، ولذلك لم يجبها، لكي تزداد لجاجة في الصلاة. لقد سمعها، وسرَّ بها، وشجعها، ووهبها قوة في نفسها لكي تستمر في طلبتها" (972).
ويقول "وليم ماكدونالد": "ولكي يمتحن عمق إيمان المرأة، قال لها: "لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب ". وإن كان هذا يبدو مزعجًا ومؤلمًا بالنسبة لنا، فعلينا أن نتذكر أنه كان مثل مشرط الجراح الذي لم يكن يقصد منه الأذى بل الشفاء. فقد كانت المرأة أممية، وكان اليهود ينظرون إلى الأمم ككلاب القمامة التي تطوف الشوارع من أجل فضلات الطعام. ومع ذلك فإن يسوع استعمل كلمة تُعبّر عن كلاب صغيرة أليفة" (973).
ب - لقد أشفق التلاميذ على هذه المرأة، كما أنهم انزعجوا من صراخها فقالوا للسيد المسيح اصرفها لأنها تصيح وراءنا، وكلمة "تصيح" تُعبّر عن صوتها المرتفع، فقال لهم السيد المسيح: "لَمْ أُرْسَلْ إِلاَّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّة" (مت 15: 24)، مثلما أرسلهم للكرازة في المرة الأولى وأوصاهم قائلًا: "إِلَى طَرِيقِ أُمَمٍ لاَ تَمْضُوا وَإِلَى مَدِينَةٍ لِلسَّامِرِيِّينَ لاَ تَدْخُلُوا. بَلِ اذْهَبُوا بِالْحَرِيِّ إِلَى خِرَافِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ الضَّالَّة" (مت 10: 5، 6)، فالكرازة للأمم لم يحن وقتها الآن، إنما تأتي في الخطوة التالية (راجع س319)، وقد أشاد السيد المسيح بإيمان أهل نينوى وملكة التيمن (مت 12: 41، 42). كما قال: "وَلِي خِرَافٌ أُخَرُ لَيْسَتْ مِنْ هذِهِ الْحَظِيرَةِ يَنْبَغِي أَنْ آتِيَ بِتِلْكَ أَيْضًا" (يو 10: 16)، ومن هذه الخراف هذه المرأة العظيمة، فالسيد المسيح يدرك بسابق علمه نهاية القصة السعيدة، وهو لا يريد أن يبخث هذه المرأة حقها في المديح، ومن هو الذي يمدحها؟! أنه اللَّه المتجسّد ذاته!!!
جـ - لم يستخدم السيد المسيح كلمة "الكلاب" الدالة على كلاب الأزقة الضالة والشرسة، إنما استخدم كلمة "الكلاب" التي تُعبّر في أصلها اليوناني عن الكلاب الصغيرة الأليفة، التي يربيها أصحابها للمتعة والتسلية وليس للحراسة، ويقول "وليم باركلي": "والتعبير الذي استخدمه يسوع عندما قال "الكلاب" يدل على الكلاب المدلَّلة في البيت، وليس على الكلاب الضالة المتشردة في الشوارع... وقد كان اليهود يصفون الأمم بأنهم (كلاب) لتحقيرهم والإقلال من شأنهم، لكن استخدام يسوع للفظ التصغير لكلمة (كلاب) والطريقة الحادثة الرزينة المبتسمة التي نطق بها هذا القول، يغير كثيرًا من الموقف... ففي كل اللغات تستخدم بعض الكلمات ذات المدلول الرديء لوصف بعض من هم أهل للمحبة، كقولنا لطفل أنه " شقي ". ولعلنا نلاحظ أن المرأة وقد لمست القصد الصالح في لهجة يسوع ردت عليه سريعًا بقولها: "نَعَمْ يَا سَيِّدُ وَالْكِلاَبُ أَيْضًا تَأْكُلُ مِنَ الْفُتَاتِ الَّذِي يَسْقُطُ مِنْ مَائِدَةِ أَرْبَابِهَا.." (974).
د - لو سمعنا نبرات صوت المسيح وهو يتحدث معها، ورأينا هدوء ملامحه، ولمسنا وداعته وكأنه يريد أن يقول لها: حاولي أن تفهمي، لأدركنا المعاني وأنه لم يقصد على الإطلاق إهانة المرأة بل هدف توضيح الحقيقة لها، فعبادتها الوثنية ارتبطت بالنجاسة، وكان في معبد أرطاميس في أفسس ألف كاهنة يمارسن العهر المقدَّس كنوع من العبادة، بينما جاء في الناموس: "لا تُدْخِلْ أُجْرَةَ زَانِيَةٍ وَلاَ ثَمَنَ كَلْبٍ إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ إِلهِكَ عَنْ نَذْرٍ مَّا لأَنَّهُمَا كِلَيْهِمَا رِجْسٌ لَدَى الرَّبِّ إِلهِكَ" (تث 23: 18) فربط بين الزنا والكلاب، وقال السيد المسيح: "لاَ تُعْطُوا الْقُدْسَ لِلْكِلاَب" (مت 7: 6).
ويقول "القس سمعان كلهون": "هذه هيَ المرة الأولى التي ظهر فيها يسوع غير متأثر من استغاثة أحد المصابين، ومن الغريب أنها لم تتركه، فلا بد أن في قلبها حياة روحية وإيمان مميَّز بطبيعة المسيح فتحقَّقت أنه لا يرفض طلبها، ويُحتمَل أنها رأت في سكونه ما لا يراه غيرها ممن ليس لهم الإيمان، فعَلِمت أنه لا بد أن يستمع لها، فاستمرت تصرخ إليه... ومع أنه أجابها بعد تكرار طلبها أنه ليس حسنًا أن يؤخذ خبر البنين ويُطرَح للكلاب، إلاَّ أنها لم تفشل، بل كان جوابها من أعجب أجوبة البشر المذكورة في الإنجيل، عامرًا بالتقوى والإيمان غير المتزعزع في يسوع المسيح، وهو قولها: "نعم يا سيد. والكلاب أيضًا تأكل من فتات البنين! فكما قال بعضهم أنها أمسكت المسيح من إجابته، وبرهنت أن هذه الإجابة ليست سببًا لرفضها بل لقبولها. فكأنها قالت: الكلاب (وفي الأصل الكلاب الصغيرة أو الأليفة) تأكل من فتات البنين، وأنا واحدة منها. إذًا يجوز أن يكون لي أقل ما يكون، فتيتة واحدة! ولا بد أن هذه النتيجة التي لم يتوقع الرسل سماعها من هذه المرأة أفرحتهم جدًا. ومن يقدر أن يصف سرور المسيح وهو يقول: يا امرأة عظيم إيمانك ليكن لك كما تريدين، ليس الفتات فقط بل خبز البنين والكل" (975).
هـ - عجيبة هيَ هذه المرأة في صبرها وثباتها ومثابرتها وطرْقَها على الأبواب المُغلقة حتى أنها انفتحت أمامها على مصراعيها، ويقول "القديس أغسطينوس": "أنها لم تثر ولا غضبت لأجل دعوتها ككلب عندما طلبت البركة وسألت الرحمة، بل قالت: "نعم يا سيد " لقد دعوتني كلبًا وبالحق أنا هكذا فأنني أعرف لقبي! أنك تنطق بالحق، لكن ينبغي ألاَّ أُحرم من البركة بسبب هذا... فإن الكلاب أيضًا تأكل من الفتات الساقط من مائدة أربابها. ما أرغبه هو البركة بقدر معتدل، فأنني لا أزحم المائدة إنما أبحث فقط عن الفتات. انظروا أيها الأخوة عظمة الإتضاع الذي أمامنا! إذ عرفت نفسها قال الرب في الحال: يا امرأة عظيم هو إيمانك ليكن لك كما تريدين (ع 28). لقد قلت عن نفسكِ أنكِ " كلبًا " لكنني أعرفك أنكِ " إنسانة ".. لقد سألتي وطلبتي وقرعتي، فيُعطى لكِ وتجدين ويُفتح لكِ" (976).
لقد كشف السيد المسيح عن محبة هذه المرأة لابنتها، واتضاعها، وحكمتها وإيمانها، وإصرارها ومثابرتها ولجاجتها، ورجاؤها. ويقول "وليم باركلي": "لقد تميَّزت هذه المرأة بطابع الابتهاج، فمع أنها كانت في ضيقة، ومع أنها كانت تسعى بشغف واهتمام لتنال الشفاء لابنتها... لكنها مع ذلك كانت تستطيع أن تبتسم، واللَّه يحب الإيمان المبتهج، الإيمان الذي يضيء عيناه بنور الرجاء والأمل، الإيمان الذي يضيء ابتسامة الظلام" (977).
و - عندما قال السيد المسيح للمرأة: "لَيْسَ حَسَنًا أَنْ يُؤْخَذَ خُبْزُ الْبَنِينَ وَيُطْرَحَ لِلْكِلاَب" قصد أن يضرب عصفورين بحجر واحد، العصفور الأول أنه أظهر نجاسة العبادة الوثنية وأن هذه المرأة هيَ من نسل كنعان الملعون، والعصفور الثاني أظهر وأوضح لليهود أن الزواني والعشارين والخطاة والأمم يسبقونهم للملكوت، وأن بني الملكوت يُطرحون خارجًا، فهوذا الكنعانية التي ينظرون إليها نظرتهم للكلاب قد فاقتهم جميعًا في الإيمان والحكمة والإتضاع. وجاء في "التفسير التطبيقي": "اعتاد اليهود أن يطلقوا كلمة " كلب " على أي أممي (كل من هو غير يهودي) لأن اليهود لا يعتبروا أولئك الشعوب الوثنيين أكثر من كلاب من جهة نوال بركة اللَّه فلم يكن الرب يسوع يهين المرأة بهذه العبارة، بل كان يعكس موقف اليهود ليبين الفرق بين موقفهم وموقفه. ولم تجادل المرأة بل استخدمت الكلمات التي اختارها يسوع، ووافقت أن تُعتبَر كلبًا ما دامت تستطيع أن تحصل على بركة اللَّه لابنتها" (978).
ويقول "ر. ت. فرانس": "ويصف "بيّر" Beare هذا القول بأنه "قول فظيع" يعبر عن "إهانة بالغة " ويقوم على أساس أسوأ أنواع التعصب العرقي والغلو في القومية. "كلاب" كان تعبيرًا يهوديًا شائعًا لشتم الأمميين... وهكذا، كان يسوع يعبر عن موقف اليهود الذي يحتقر الأمم... إلاَّ أن نعمة الكلام ما كان يجب أن تحمل تحقيرًا أو إهانة" (979).
زـ لا يجب أن نأخذ جزء من القصة ونترك بقية القصة، ولا يجب أن نأخذ القصة بمعزل عن معاملات السيد المسيح ككل مع الذين إلتجأوا إليه، فكم كانت محبة الرب يسوع للخطاة والعشارين، وكم حنَّت أحشاءه تجاه المرضى والعمي والخرس والمفلوجين والذين أتعبتهم الأرواح الشريرة !!
_____
(969) نظرة في كتب العهد الجديد وعقائد النصرانية ص141.
(970) الهداية جـ 1 ص242، 243.
(971) تفسير إنجيل متى ص347.
(972) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ 2 ص26.
(973) تفسير الكتاب المقدَّس للمؤمن - العهد الجديد جـ 1 ص112.
(974) تفسير العهد الجديد جـ 1 ص304.
(975) اتفاق البشيرين ص282.
(976) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص349.
(977) تفسير العهد الجديد جـ 1 ص304.
(978) التفسير التطبيقي ص1923.
(979) تعريب أديبة شكري - التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - العهد الجديد - إنجيل متى ص273، 274.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/359.html
تقصير الرابط:
tak.la/q8ba6wx