س340: ما هيَ خطية التجديف على الروح القدس، ولماذا لا تُغفَر (مت 12: 31)؟ ولماذا كل من يقول كلمة رديئة عن الابن يغفر له، بينما من يقول كلمة على الروح القدس لا يُغفَر له في هذا العالم ولا في الآتي (مت 12: 32)؟ وهل هناك مغفرة للخطايا في العالم الآتي؟ (راجع علاء أبو بكر - البهريز جـ 5 س146).
ج: 1ــ قال السيد المسيح عن الروح القدس: "وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ الْعَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ. أَمَّا عَلَى خَطِيَّةٍ فَلأَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ بِي.." (يو 16: 8 - 11)، فالروح القدس هو الذي يبكت الإنسان الخاطئ ويدفعه تجاه الندامة والتوبة، وبالتالي فإن من يرفض التوبة فهو يرفض عمل الروح القدس، فيُحسب مُجدفًا على روح اللَّه القدوس، فهو يعاند ويكابر، ورغم معرفته بالصواب يصرُّ على فعل الخطأ، بل وقد يدافع عن تصرفه الخاطئ، فيُصاب القلب بالعمى الروحي ويسير الإنسان في طريق الهلاك، لأنه حيث لا ندامة وتوبة لا توجد مغفرة للخطايا، وجاء في "الكتاب المقدَّس الدراسي": "التجديف على الروح القدس: بمعنى رفض الروح القدس والتكلم ضده، ولكن لا يعني هذا أن اللَّه لا يريد أن يغفر له. بل يعني أن الإنسان برفضه تبكيت الروح القدس يستمر في عصيانة للَّه. فيغلق أمام نفسه باب التوبة، وبالتالي غفران اللَّه، فيكون مصيره الهلاك" (893).
ويقول "وليم باركلي": "ولكن بعض الناس إذ يرفضون قبول عمل هذا الروح، يفقدون قدرتهم على قبول الحق الإلهي وتمييزه، ففي كل ناحية من حياة الإنسان، تضيع القدرات عنده عندما يهمل استخدامها، فالذي لا يستخدم عضلة معينة في جسده يعرّضها للضعف، والذي يهمل لغة معينة سبق وتعلَّمها يعرضها للنسيان، ومن لا يعوّد نفسه سماع الموسيقى الرفيعة ويكتفي بسماع الموسيقى الرخيصة، يفقد قدرته على التذوق الموسيقي، لذلك فالإنسان إذا أغلق عينيه وأذنيه تجاه اللَّه وطريق اللَّه، واتخذ لنفسه طريقًا آخر، وإستمر زمنًا طويلًا يرفض الخضوع لإرشاد اللَّه، فأنه بعد وقت يفقد قدرته على تمييز صوت اللَّه، وحق اللَّه، وجمال اللَّه، وخير اللَّه، عندما يرى هذه الأشياء. وبذلك يصل إلى درجة يبدو له فيها الباطل في صورة الحق، والشر في صورة الخير، لأنه يفقد الوعي والإدراك الروحي.
وهذه هيَ الدرجة التي وصل إليها الكتبة والفريسيين... فالخطية ضد الروح القدس هيَ خطية رفض مشيئة اللَّه والإستمرار في ذلك حتى أن الإنسان في النهاية يفقد قدرته على تمييز مشيئة اللَّه، عندما تأتيه في أوضح الصور.
ولماذا تبقى هذه الخطية دون غفران؟ وما الذي يجعلها تختلف عن سائر الخطايا؟ والجواب بسيط، لأن الإنسان عندما يصل إلى هذه الدرجة تكون التوبة بالنسبة له أمرًا مستحيلًا... وعندما لا يستطيع الإنسان أن يميّز الشر عندما يفعله، لا يندم عليه ولا يكرهه، ولا يرغب في تركه، وبذلك لا يستطيع أن يتوب، وبالتالي لا تُغفَر له خطيته، لأن التوبة من شروط الغفران" (894).
وخطية التجديف على الروح القدس هيَ التي قال عنها يوحنا الحبيب: "تُوجَدُ خَطِيَّةٌ لِلْمَوْتِ. لَيْسَ لأَجْلِ هذِهِ أَقُولُ أَنْ يُطْلَبَ" (1 يو 5: 16). وأوضح القديس مرقس أن التجديف على الروح القدس هو قول الفريسيين بأن السيد المسيح ببعلزبول يُخرج الشياطين: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ إِنَّ جَمِيعَ الْخَطَايَا تُغْفَرُ لِبَنِي الْبَشَرِ وَالتَّجَادِيفَ الَّتِي يُجَدِّفُونَهَا. وَلكِنْ مَنْ جَدَّفَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَيْسَ لَهُ مَغْفِرَةٌ إِلَى الأَبَدِ بَلْ هُوَ مُسْتَوْجِبٌ دَيْنُونَةً أَبَدِيَّةً. لأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّ مَعَهُ رُوحًا نَجِسًا" (مر 3: 28 - 30).
ويقول "البابا شنوده الثالث": "ليس التجديف على الروح القدس هو عدم الإيمان بالروح القدس ولاهوته وعمله، وليس هو أن تشتم الروح القدس! فالملحدون إذا آمنوا، يغفر اللَّه لهم عدم إيمانهم القديم وسخريتهم باللَّه وروحه القدوس... كذلك كل الذي تبعوا مقدونيوس في هرطقته وإنكاره لاهوت الروح القدس، لما تابوا قبلتهم الكنيسة وأعطتهم الحل والمغفرة.
إذًا، ما هو التجديف على الروح القدس؟ وكيف لا يُغفَر؟
التجديف على الروح القدس هو الرفض الكامل الدائم لكل عمل الروح القدس في القلب. رفض يستمر مدى الحياة. وطبعًا نتيجة لهذا الرفض لا يتوب الإنسان، فلا يغفر اللَّه له.
إن اللَّه في حنانه يقبل كل توبة ويغفر وهو الذي قال: "وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجًا" (يو 6: 37) وصدق القديسون في قولهم: "لا توجد خطية بلا مغفرة إلاَّ التي بلا توبة ". فإذا مات الإنسان في خطاياه بلا توبة، حينئذ يهلك حسب قول الرب: "إِنْ لَمْ تَتُوبُوا فَجَمِيعُكُمْ كَذلِكَ تَهْلِكُونَ" (لو 13: 5).
إذًا، عدم التوبة حتى الموت، هيَ الخطية الوحيدة التي بلا مغفرة، فإذا كان الأمر هكذا، يواجهنا هذا السؤال:
ما علاقة عدم التوبة بالتجديف على الروح القدس؟
علاقته واضحة وهيَ أن الإنسان لا يتوب إلاَّ بعمل الروح فيه، فالروح القدس هو الذي يبكّت الإنسان على الخطية (يو 16: 8) وهو الذي يقوده في الحياة الروحية ويشجعه عليها. وهو القوة التي تساعد كل عمل صالح. ولا يستطيع أحد أن يعمل عملًا روحيًا بدون شركة الروح القدس. فإذا رفض شركة الروح القدس (2 كو 13: 14) لا يمكن أن يعمل خيرًا على الاطلاق !
الذي يرفض الروح إذًا: لا يتوب ولا يأتي بثمر روحي...
فإن كان رفضه للروح، رفضًا كاملًا مدى الحياة، فمعنى ذلك أنه سيقضي حياته كلها بلا توبة، وبلا أعمال بر، وبلا ثمر الروح. وطبيعي أنه سيهلك وهذه الحالة هيَ التجديف على الروح القدس...
ماذا إذا رفض الإنسان عمل للروح، ثم عاد وقبله وتاب؟
نقول أن توبته وقبوله للروح، ولو في آخر العمر، يدلان على أن روح اللَّه ما زال يعمل فيه، ويقتاده للتوبة. إذًا لم يكن رفضه للروح رفضًا كاملًا دائمًا مدى الحياة. فحالة كهذه ليست هيَ تجديفًا على الروح القدس حسب التعريف الذي ذكرناه" (895).
2ــ قد يُخطئ الإنسان ضد اللَّه الآب، ثم يستجيب لتبكيت الروح القدس ويتوب فتُغفر خطاياه، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فالروح القدس هو الذي يحرك قلبه نحو التوبة، وأيضًا قد يُخطئ الإنسان ويجدّف على الابن، ولا سيما أنه أخلى ذاته وأخفى مجده، فظنوه نبيًا أو إنسانًا عاديًا، واعتبروه كاسر الناموس ولا يحفظ السبت، وهكذا كثيرون يطعنون في شخص المسيح وألوهيته، ومع هذا فمهما بلغت خطية الإنسان وإزدادت شناعتها ولحقت بالسماء: "لأَنَّ خَطَايَاهَا لَحِقَتِ السَّمَاءَ" (رؤ 18: 5)، فإن رحمة اللَّه أعلى من السماء: "مَنْ هُوَ إِلهٌ مِثْلُكَ غَافِرٌ الإِثْمَ" (مي 7: 18). فمتى استجاب الإنسان لعمل الروح القدس وقدم توبة فإنه تُغفَر له خطاياه. ولكن عندما يرفض الإنسان عمل الروح القدس الذي يقوده للتوبة، فكيف يخلص؟! كيف يخلص ولا توجد قوة أخرى تحركه نحو التوبة؟!! ولذلك قال الكتاب: "الْيَوْمَ إِنْ سَمِعْتُمْ صَوْتَهُ فَلاَ تُقَسُّوا قُلُوبَكُمْ" (عب 3: 15).
3ــ قول السيد المسيح: "وَأَمَّا مَنْ قَالَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ لاَ فِي هذَا الْعَالَمِ وَلاَ فِي الآتِي" (مت 12: 32) جعل البعض يظنون أن هناك احتمال للمغفرة في العالم الآتي، وقد أشار لهذا القديس أغسطينوس في كتابه "مدينة اللَّه" (21: 24)، ووجد الأخوة الكاثوليك في هذه الآية إشارة وإثبات لعقيدة المطهر (راجع الخوري بولس الفغالي - تفسير إنجيل متى جـ 2 سر الملكوت ص147). والحقيقة أن السيد المسيح قصد من قوله هذا استحالة المغفرة في هذا العالم، وبالتالي تظل خطية الإنسان ملتصقة به في العالم الآتي، وهذا ما أوضحه إنجيل مرقس: "وَلكِنْ مَنْ جَدَّفَ عَلَى الرُّوحِ الْقُدُسِ فَلَيْسَ لَهُ مَغْفِرَةٌ إِلَى الأَبَدِ بَلْ هُوَ مُسْتَوْجِبٌ دَيْنُونَةً أَبَدِيَّةً" (مر 3: 29) وقول السيد المسيح " فَلَيْسَ لَهُ مَغْفِرَةٌ إِلَى الأَبَد" تنفي تمامًا احتمال وجود مغفرة في العالم الآتي. وقال بولس الرسول: "فَإِنَّهُ إِنْ أَخْطَأْنَا بِاخْتِيَارِنَا بَعْدَمَا أَخَذْنَا مَعْرِفَةَ الْحَقِّ لاَ تَبْقَى بَعْدُ ذَبِيحَةٌ عَنِ الْخَطَايَا. بَلْ قُبُولُ دَيْنُونَةٍ مُخِيفٌ وَغَيْرَةُ نَارٍ عَتِيدَةٍ أَنْ تَأْكُلَ الْمُضَادِّينَ. مَنْ خَالَفَ نَامُوسَ مُوسَى فَعَلَى شَاهِدَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةِ شُهُودٍ يَمُوتُ بِدُونِ رَأْفَةٍ. فَكَمْ عِقَابًا أَشَرَّ تَظُنُّونَ أَنَّهُ يُحْسَبُ مُسْتَحِقًّا مَنْ دَاسَ ابْنَ اللَّه وَحَسِبَ دَمَ الْعَهْدِ الَّذِي قُدِّسَ بِهِ دَنِسًا وَازْدَرَى بِرُوحِ النِّعْمَة" (عب 10: 26 - 29)، فمن هو الذي يدوس ابن اللَّه ويستهين بدمه المسفوك عنا إلاَّ الإنسان الذي يرفض التوبة طوال حياته؟!
وقد قال السيد المسيح: "كُلُّ مَا تَرْبِطُونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَرْبُوطًا فِي السَّمَاءِ وَكُلُّ مَا تَحُلُّونَهُ عَلَى الأَرْضِ يَكُونُ مَحْلُولًا فِي السَّمَاء" (مت 18: 18)، فمن يجدف على الروح القدس الذي يقود الإنسان للهداية والتوبة لن يحصل على المغفرة في هذا العالم الحاضر، وبالتالي تظل خطاياه مربوطة عليه في الدهر الآتي ولا يُغفَر له، فمن غُفِر له على الأرض يُغفَر له في السماء ومن لا يُغفَر له على الأرض لا يُغفَر له في السماء. وقول السيد المسيح: "فَلَنْ يُغْفَرَ لَهُ لاَ فِي هذَا الْعَالَمِ وَلاَ فِي الآتِي" فكلمة "الدهر" تكرَّرت مرتين تعبّر عن الزمان وليس المكان، بينما الذين يعتقدون بالمطهر يعتقدون أنه مكان.
وقد يتوب الإنسان ولا يتمكن من سماع كلمة المغفرة من أب اعترافه أو من الذي أخطأ في حقه في هذا الدهر، فيسمعها في الدهر الآتي، ومن أمثلة ذلك:
أ - لو انتقل أحد الآباء القديسين المتوحدين أو السواح في وحدته ولم يسمع كلمة المغفرة من أب اعترافه عن السهوات التي سقط فيها أو خطايا الأفكار المعرَّض لها، فأنه يسمعها في الدهر الآتي.
ب - لو انتقل شخص في حادث مفاجئ، ولم يسمح كلمة المغفرة من أب اعترافه هنا، وهو يعيش حياة مرضية للَّه، يسمعها في الدهر الآتي.
جـ - لو انتقل شخص وهو في مكان بعيد عن أب اعترافه، فلم يسمع كلمة المغفرة في هذا الدهر، فأنه يسمعها في الدهر الآتي.
د - لو أخطأ شخص في حق الآخر، وتاب وذهب ليعتذر للآخر فوجده قد فارق هذا العالم، فلم يسمع منه كلمة المغفرة في هذا الدهر، فأنه يسمعها في الدهر الآتي.
هـ - لو مات إنسان وهو محروم من الكنيسة ظلمًا، ولم يسمع كلمة المغفرة من هذا العالم، فأنه يسمعها في الدهر الآتي.
(راجع كتابنا: يا إخوتنا الكاثوليك... متى يكون اللقاء؟ جـ2 أضواء على آراء ــ الفصل السادس).
_____
(893) الكتاب المقدَّس الدراسي ص2284.
(894) تفسير العهد الجديد جـ 1 ص258، 259.
(895) سنوات مع أسئلة الناس الجزء الأول ص22، 23.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/340.html
تقصير الرابط:
tak.la/8q7fwh5