س 34 : هل الكتاب المقدَّس مُوحَى به من الله كما جاء في (2تي 3 : 16)، ولكنه غير معصوم من الخطأ، لأن كلمة "العصمة" باللفظ لم ترد في الأسفار المقدَّسة، كقول "رالف ويلبر "، و "هـ. ى. جونسون" و "دانيال مولر"؟ وهل يمكن استخدام تعبير "الجدارة والأهلية والثقة" بدلًا من "العصمة"؟
يوضح "جاك كاترول" فكر هؤلاء النُقَّاد في هذا فيقول أن هناك: " العشرات من المدارس اللاهوتية غير المتمسكة والتي تهاجم بلا توقف عصمة الكتاب المقدَّس، "رالف ويلبر" وهو لاهوتي في جماعة اسمها (تلاميذ المسيح) يقول في كتابه (إعادة بناء اللاهوت) أن تلاميذ اليوم يرون الكتاب المقدَّس "شهادة البشر التاريخية للأحداث"، وليس ككتاب معصوم، وفي كنائس أخرى كثيرة من الكنائس المسماة بالمسيحية، تكاد تسمع نفس النغمة... لقد كتب "هـ. ى. جونسون" لمحرر الـ (Christian Standard) يقول أن عقيدة العصمة وسلامة الكتاب لم تُعلَم في الكتاب المقدَّس، وهذه النظرية غير موجودة، لذا لا بد أن نهجرها ونتنازل عنها" (134).
وكتب "دانيال فولر" مقالًا في جريدة "التبني العلمي الأمريكي" مقالًا بعنوان: "طبيعة العصمة الكتابية" في عدد يونيو سنة 1972م، فيقول ".. أن الكتاب المقدَّس يتضمن الكثير من العبارات (عن أشياء غير معلنة) مثل علم طبقات الأرض وعلم النبات، وعلم الجغرافيا، ويقول أنه في الوقت الذي ساعد فيه الروح القدس الكتَّاب لتقديم هذه المواضع بأحسن صورة ممكنة، إلاَّ أنه لم يهتم كثيرًا بالعصمة في هذه المجالات. ومن المثير أن نجد عددًا من الكتَّاب يدافع عن فكرة العصمة أي (العصمة المحدودة) كعقيدة كتابية للكنيسة. يقول "روي" أنه يقبل العصمة الكاملة المُطلقة للكتاب في "الأشياء الهامة بالنسبة للهدف الأساسي في الكتاب". كاتب آخر "هـ. ى. جونسون" يقبل فكرة العصمة المحدودة بقـول: " أن العصمة في الكتاب تختص بإنجيل يسوع المسيح فقط" (135).
ويقول "علاء أبو بكر" ضمن س 260 : " وينهي القس شورر كلامه قائلًا: أن الهدف من القول بالوحي الكامل للكتاب المقدَّس، والمفهوم الرامي إلى أن يكون الله هو مؤلفه هو زعم باطل ويتعارض مع المبادئ الأساسية لعقل الإنسان السليم، الأمر الذي تؤكده لنا الاختلافات البيّنة للنصوص، لذلك لا يمكن أن يتبنى هذا الرأي إلاَّ إنجيليون جاهلون أو من كانت ثقافته ضحلة (ص 128)، وما يزيد دهشتنا هو أن الكنيسة الكاثوليكية ما زالت تنادي أن الله هو مؤلف الكتاب المقدَّس" (136).
ج : 1ـــ ارتبطت كلمة "مُوحَى به" بكلمة "العصمة"، لأن الكلمتين تؤديان نفس المعنى، فما دام الكتاب مُوحَى به من الله فبالضرورة يكون معصومًا، فمن المُحَال أن يكون به أي نوع من الأخطاء، فقول "دانيال فولر": "بأن الكتاب المقدَّس عندما تعرَّض لعلم طبقات الأرض وعلم النباتات وعلم الجغرافيا، فإن الروح القدس ساعد الكاتب لعرضها في أحسن صورة، غير أنه لم يهتم بموضوع العصمة الكاملة" قول جانبه الصواب، لأنه كيف يكون خبر معين يشوبه الخطأ (لأنه غير معصوم)، وفي نفس الوقت يكون في أحسن صورة؟.. هذا أشبه بقولنا: أنه خبر كاذب لكنه جميل..!! كيف نتصوَّر أن الروح القدس يُوحي للكاتب بأمور غير صادقة، أو يترك الكاتب يسجل أمورًا غير حقيقية يشوبها البطلان والكذب؟!!.
2ـــ نعم كلمة "عصمة" لم ترد باللفظ في الكتاب المقدَّس، ولكنها وردت بالمعنى، فنحن نعلم أولًا: أن الله هو حق وكلامه حق كقول السيد المسيح لله الآب: " كَلاَمُكَ هُوَ حَق" (يو 17 : 17) وكقول داود النبي: " أَحْكَامُ الرَّبِّ حَقٌّ عَادِلَةٌ كُلُّهَا" (مز 19 : 9)، ونحن نعلم ثانيًا: أن الكتاب المقدَّس هو كلام الله. إذًا النتيجة المنطقية أن الكتاب المقدَّس هو حق، لا يقترب منه الباطل قط، وبما أنه حق فهو معصوم عصمة ليست محدودة إنما عصمة كاملة، ومثال على ذلك عندما نقول أن "الإنسان خالـد" (مقدمة عظمى) ثم أقول "أنا إنسان" (مقدمة صغرى) إذًا النتيجة المنطقية والحتمية والضرورية": "أنني خالد".
ويقول "جاك كاترول": " ما الذي تعنيه كلمة (عصمة)؟. إنها تعني "بدون خطأ ولا تناقض ولا زيف ولا تحريف".. إنها تعني: "الحق والثقة والاستحقاق والدقة والثبات". إننا عندما نقول أن الكتاب المقدَّس معصوم، فإن هذا يعني أنه الحق المُطلّق والثقة التامة في كل شيء يعلنه، أنه يعني العصمة الكلية غير المجزئة. إن العصمة ليست نظرية عن الكتاب أو فكرًا فلسفيًا منسوبًا إلى الكتاب كما يقول بعض النُقَّاد. إن عقيدة عصمة الكتاب متأصلة في تعاليم الكتاب نفسه... كل كلام الله هو حق (معصوم) ولما كان الكتاب المقدَّس هو كلمة الله لذلك فهو معصوم من الخطأ... ولقد أعلن يسوع هذا حينما علَّم أنه (لا يمكن أن يُنقض المكتوب) (يو 10 : 35). كل ما هو مكتوب في الكتاب المقدَّس هو الحق المُطلّق... والمسيح حينما يقول أنه (لا يمكن أن يُنقض الكتاب) فأنه يلخص فكرة ويُعلن مسئوليته تجاه هذا المكتوب، ويقدم لنا الأساس الصلب الذي نستند عليه في حديثنا عن عصمة الكتاب المقدَّس" (137).
3 - الاحتجاج بأن كلمة "العصمة" لم ترد في الكتاب المقدَّس باللفظ، لذلك يمكن التساهل تجاهها، يشبه احتجاج الذين يرفضون الثالوث القدوس بحجة أن كلمـة "ثالوث" أو "تثليث" لم ترد في الكتاب المقدَّس باللفظ، مع أنها وردت مرات ومرات بالمعنى، إذ أن الكتاب يعلّمنا وحدانية الله، ثم يعلّمنا أن الآب هو الله (مع خاصية الأبوة)، والابن هو الله (مع خاصة البنوة)، والروح القدس هو الله (مع خاصية الانبثاق)، ويعلّمنا أن الآب والأبن والروح القدس ليسوا ثلاثة آلهة بل إله واحد، فأوصى السيد المسيح تلاميذه أن يتلمذوا جميع الأمم ويعمدوهم " بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ" (مت 28 : 19) وقـال بِاسـم (وليس بأسماء) إشارة للوحدانية، والمعمودية تتم بِاسم الثالوث القدوس الآب والأبن والروح القدس، فالله واحد في الجوهر والطبيعة والكيان مثلث الأقانيم، ومعنى "أقنوم" ما يتميز عن غيره بدون انفصال، فالآب غير الابن غير الروح القدس، ولكن الثلاثة غير منفصلين عن بعضهم البعض، فهم واحد في الجوهر والكيان والطبيعة، وكلمة "أقنوم" تشير إلى كائن، حي، قدير، مستقل بدون انفصال، يعبر عن ذاته، والخلاصة أن عدم ورود كلمة "تثليث" باللفظ في الكتاب المقدَّس لا تُلغي عقيدة أساسية جوهرية في المسيحية عقيدة التثليث والتوحيد.
4ـــ نحن لا نؤمن بالعصمة المحدودة للكتاب المقدَّس أن هناك أمور لاهوتية وعقائدية وأخلاقية تتمتع بالعصمة، وأمور تاريخية وجغرافية وعلمية تحتمل الصواب والخطأ، ولنا عودة بنعمة المسيح لشرح هذه النظرية الجزئية للوحي الإلهي بالتفصيل. لكن ما نود أن نقوله هنا أن التشكيك في الجزء يقود للتشكيك في الكل، والذي عصم الجزء قادر أن يعصم الكل.
والاقتراح باستخدام تعبير "الجدارة والأهلية والثقة" بدلًا من "العصمة"، فإن هذا لا يغير من الحقيقة في شيء، لأن كل ما هو جدير بالثقة لا بُد أن يكون صادق وأمين وحق، أي معصوم عصمة تامة، وكل ما شابه خطأ أو عيب فهو ليس جديرًا بالثقة.
ويقول "جاك كاترول": " إن قال أحدهم أن الكتاب المقدَّس جدير بالثقة وهو حق ما عدا هذه النقطة أو تلك فأنه توجد بعض الأخطاء، فهو هنا يقول ببساطة وصراحة أن الكتاب غير جدير بالثقة المُطلقة، وعصمته جزئية ومحدودة، ومهما كانت محاولة تقديم وتقريب هذه العصمة الجزئية إلى عقولنا، إلاَّ أننا لا بد أن نقول بكل وضوح أنها مرفوضة، مرفوضة، وتوجد أسباب قوية لهذا الرفض:
أولًا: لا توجد أي أُسس كتابية أو نظرية أو علمية للتفريق بين الفقرات المُوحَى بها والمعصومة، وبين ما تسمى بالفقرات غير المُوحَى بها وغير معصومة... لا بد أن نتذكر أن يسوع وعد تلاميذه أن الروح القدس سيحفظ ذاكرتهم من الخطأ (يو 14 : 26)، ولذلك فإن الرسل عندما بدأوا في تسجيل كلمة الله، فإن الروح القدس ذكَّرهم تفصيليًا بكل ما أرادهم الله أن يدونوا. لا بد من إدراك أن هدفًا أساسيًا من أهداف الوحي هو حفظ الكتاب معصومًا من الخطأ. وبالرغم من شمولية الوحي بالنسبة للمكتوب، إلاَّ أنه من الضروري أن نعرف أن هذه الشمولية قد احتوت في مراحلها على الأجزاء التاريخية والعقائدية والتعليمية، وأيضًا احتوت على الأفكار وعلى الكلمات... لا توجد استثناءات إطلاقًا، الكل مُوحَى به، والكل معصوم.
ثانيًا: إذا اعتقدنا أن بعض الكتاب أو أغلبه حق، فإننا لن نستطيع أن نثق فيه أبدًا، لأننا لا نعرف ولن نقدر على التمييز بين ما هو حق وما هو زائف...
ثالثًا: رفضنا لفكرة العصمة الجزئية أساسه عجزنا عن الدفاع عن هذه الفكرة، أو بمعنى أدق عدم وجود أسانيد وبراهين تُعطي للفكرة قوتها... يبدو أن البديل هو إما العصمة الكلية والمُطلقة وإما اللاعصمة ولا شيء بينهما. أما أن الكتاب معصوم من الخطأ في كل شيء يقدمه، وإما أنه لا ضمان لأي شيء يقدمه أو يقوله" (138).
5ـــ فكرة العصمة الكاملة التامة والشاملة للكتاب المقدَّس ليست فكرة جديدة مستحدثة، بل هيَ فكرة مستقرة في وجدان الآباء منذ القدم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى... كتب "القديس أكليمنضس الروماني" في أوائل سنة 95م يقول: " أنتم قد درستم الكتاب المقدَّس الذي هو حق ومُوحَى به من الروح القدس، أنتم لا شك قد عرفتم أن ما كُتِب فيه لم يكـــن أبدًا مناقضًا للحق والعدل"، وكتب "القديس إيرينيؤس" في القرن الثاني الميلادي يقول: " أن الكتاب المقدَّس بالحق كتاب كامل لأنه كلام الله وروحه". (راجع جاك كاترول - سلطان الكتاب المقدَّس ص 36).
وكتب "القديس أُغسطينوس" في القرن الخامس يقول: " إني أعترف إني قد تعلّمت أن أخضع باحترام وبتقدير للكتب القانونية المقدَّسة، ولهذا فإني أؤمن بقوة أن الكتاب المقدَّس وكتَّابه كانوا خاليين من الخطأ".. " إن القديس أُوغسطينوس في رسالته إلى القديس جيروم، قد وضع حقيقة بديهية وهيَ أن الكتاب المقدَّس كتاب معصوم"، وقال القديس أُغسطينوس أيضًا: أن كلمة الله كاملة، إنها الحق نفسه، إنها لا تحتوي على زيف".. " إن المكتوب لم يخطئ أبدًا"، وأيضًا: "أن كلمة الله يستحيل أن تخطئ" (راجع جاك كاترول - سلطان الكتاب المقدَّس ص 36).
_____
(134) ترجمة منى مرتجي بطرس - سلطان الكتاب المقدَّس ص 31.
(135) ترجمة منى مرتجي بطرس - سلطان الكتاب المقدَّس ص 32.
(136) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ 4 ص 314.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/34.html
تقصير الرابط:
tak.la/2as74bj