س32 : كيف وُلِد "النقد الأعلى"؟ وكيف انتشر من إنجلترا لفرنسا لألمانيا؟ ولماذا انتعش في ألمانيا وانتشر منها كالوباء إلى كل أوروبا؟
أولًا:
مصدر النقد الأعلى
1- الحركة العقلانية
2ــ الفلسفة المثالية
ثانيًا: انتشار وباء
النقد الكتابي
1ـــ الصراع بين الأرية
والسامية
2ـــ الصراع بين
الإمبراطورية والبابوية
نستطيع أن نقول أن "النقد الأعلى" وُلِد من أبوين شرعيين هما:
نظرًا للظروف التي مرّت بها قارة أوروبا في القرن السادس عشر وما بعده من الانشقاق البروتستانتي عن الكنيسة الكاثوليكية، وما دار بينهما من صراع رهيب، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ودور الراهب الثائر أُغسطينوس الأُغسطيني (مارتن لوثر) في تشجيع الفلاحين على ثورتهم ضد الأمراء والإكليروس قائلًا للأمراء أن غضب الفلاحين يعلن لكم عن غضب الله مما ترتب عليه من قتل وسلب وحرق وتدمير، وأصدر مارتن لوثر بيانه في 26 أبريل يحفز الفلاحين: " تقدموا... تقدموا إلى الأمام ولتظل سيوفكم ساخنة بالدماء وبدون شفقة". ثم إذ رأى مارتن لوثر أن الدفة دارت على الفلاحين عندما أجر الأمراء مقاتلين إيطاليين إنقلب هو أيضًا عليهم وصرخ صرخته للأمراء، تلك الصرخة التي سجلها التاريخ: " قاتلوا هؤلاء الفلاحين ككلاب مسعورة " (راجع الدكتور القس حنا جرجس الخضري - مارتن لوثر ص 135). وكان نتيجة هذه الثورة مائة ألف قتيل، وفي هجوم أتباع لوثر على روما إذ استباحوا المدينة بما فيها كنيسة القديس بطرس وهم يصرخون: " لوثر بابا روما"، وفعلوا ما فعلوا مع الكرادلة والأساقفة والرهبان والراهبات والأطفال والنساء، ما يندى له الجبين، وكانت النتيجة قتل ثلاثة وخمسون ألفًا (راجع دكتور عزت زكي - تاريخ المسيحية جـ 3 ص 78، 79). وما تبع ذلك من حرب الثلاثين عامًا (1618 - 1648م) وقتل ثلث شباب ألمانيا، ومائة ألف بأيرلندا وخسائر عظيمة في دول أوروبا (راجع كتابنا: يا أخوتنا البروتستانت... هلموا نتحاور جـ 1)، وكان نتيجة كل هذه الأحداث أن كره الناس الدين والكتاب المقدَّس والله، وفي نفس الوقت ظهرت قيمة العقل في الثورة الصناعية، فما كان ينتجه بجهد يدوي كبير ووقت طويل صار ينتجه بجهد وفي وقت أقل بكثير جدًا، فسيَّد الإنسان وألَّه العقل وعبده، فأنكر الوحي، ورفض المعجزات لأنها ضد نواميس الطبيعة الثابتة، وأنكروا الملائكة والأرواح والحياة الأخرى لأنها أمور لا تُرى، وتفننوا في نقد الأسفار المقدَّسة، وسخروا من الأمور الروحية... إلخ (راجع مدارس النقد والتشكيك جـ 2 ص 324 - 412).
أسَّسها الفيلسوف الألماني "عمانوئيل كانط" (1724 - 1804م) الذي أسَّس المذهب الأخلاقي، فالأولوية للمُثل والأخلاق، فالكتاب المقدَّس كتاب أخلاقي ألَّفته مجموعة من البشر، ويخضع للنقد مثله مثل أي كتاب آخر، والأمور اللاهوتية والعقائدية في الكتاب ليس الإنسان في حاجة إليها، لأن الإنسان يستطيع أن يخلق الدين ويطوّره، فالدين ينبع من عقل الإنسان وقلبه، فهو ليس في حاجة إلى كتاب معين ليعرف الإيمان بالله، وبرَّر هذا بأن معرفة الله أعظم من أن تُحَد بكتاب معين. وأيد ليسينج Lessing كانط في الفصل بين الدين والكتاب المقدَّس وانتقد كانط الإيمان المسيحي والعقائد الكنسية، حتى أنه نظر لصلب المسيح أنه ضد مبادئ الأخلاق وأمر منافٍ للعقل، ونظر كانط للسيد المسيح على أنه رجل الأخلاق والممثل الأعلى للفضيلة، والإنسان ليس في حاجة للمسيح الإله المتجسد من أجل خلاصه، لأن الإنسان لديه الإحساس بما هو صواب ولديه حرية الإرادة. وتأثر كانط بالمذهب الطبيعي الذي ينادي بأن الله خلق الكون، وسنَّ له القوانين الطبيعية التي تسيّره وأهمله، فالله هو الخالق ولكنه ليس هو الحاضر في خليقته يدبر كل شيء ويضبط كل شيء، وقالوا أن أي كسر لنواميس الطبيعة يعد انتهاك لحرمة الله ذاته، وما دامت المعجزات تُعد انتهاكًا ضد نواميس الطبيعة، فهيَ إذًا ضد الله الذي وضع هذه النواميس، ولذلك أنكروا حدوث المعجزات الكتابية.
تركز النقد الكتابي في القرن السادس عشر في إنجلترا، وفي القرن السابع عشر في فرنسا ولم يترك إنجلترا، وفي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر تركّز وانتعش في ألمانيا، دون أن يفارق إنجلترا وفرنسا... فلماذا ألمانيا بالذات؟
يُكنى عن الألمان بالأريين وعن اليهود بالساميين، وفي القرن 18، 19 سيطر اليهود على النواحي الاقتصادية في ألمانيا، وأشاع اليهود عن أنفسهم أنهم شعب الله المختار، فهم جنس مختار مميز على كل شعوب الأرض، واستخدموا في هذا بعض آيات العهد القديم الذي يؤمن به المسيحيون أيضًا، مما أشغل غضب الألمان الذي يعتقدون أنهم الجنس الأري أفضل أجناس الأرض، ومن المفروض أن جميع الأجناس تخضع لهم، فرفع اليهود شعار السامية، ورفع الألمان شعار الأرية، ولا للسامية، وهذا ما عبر عنه "فون جوبينو" Von Gobino (1816 - 1882م) و"بــول دي لاجارد" P. D. Laguard (1827 - 1891م) و "هوستوت ستيوارت" H. Stywart (1855 - 1927م) الذي حاول إثبات أن السيد المسيح لم يكن من الجنس اليهودي، وفيما كان يهاجم النُقَّاد الألمان اليهود هاجموا العهد القديم بقسوة.
فكان الباباوات هم الذين ينصّبون الأباطرة وهم الذين يعزلونهم، فكلمة واحدة من البابا للإمبراطور (أنت محروم) تجعل الإمبراطور بلا إمبراطورية، ولذلك سعى ملوك ألمانيا للتخلُّص من سلطان روما، فاستأجروا أقلام الكتَّاب والنُقَّاد، وبينما هم يهاجمون الباباوية هاجموا أسفار العهد الجديد.
وقد ظن مفكري ونُقَّاد الغرب أنهم الوحيدون القادرون على تقييم الكتاب المقدَّس، فتعاملوا معه باستخفاف، ويقول "جون درين" تحت عنوان "الإمبريالية الفكرية" : "أحد أسباب نشوء جدلية من هذا النوع هو أن مفكري الغرب طالما ظنوا أنهم الوحيدون القادرون على ممارسة هذا النوع من التعليم المنطقي لأمور كهذه. كما أن هناك اتجاهًا للحديث عن المؤرخين الرومان باستخفاف وكأن التسجيل التاريخي الدقيق لم يكن شيئًا معروفًا لديهم. هذه الكبرياء العنصرية جعلت أهل الغرب البيض في القرون الحديثة يظنون أنهم متفوقون على باقي أجناس العالم. بالطبع لم يكن في متناول يد المؤرخين القدامى الوسائل الحديثة المتوفرة الآن. ولكن هذا لا يعني عدم درايتهم بالحاجة لفحص الأمور كما هو الحال الآن. كانت لهم طرقهم وأدواتهم الخاصة... فالمؤرخون اللاتين واليونانيون ألزموا أنفسهم بمستوى عالٍ من الحزم لتقييم معلوماتهم، واتبعوا لأجل هذا، طرقًا معقدة، فالمبادئ التـي حـددها تاسيوس (460 - 395 ق.م) توضح تمامًا أنه عمل من خلال خطوط إرشادية لا زالت لها قيمتها حتى الآن" (124).
_____
(124) مدخل العهد الجديد ص 212.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/32.html
تقصير الرابط:
tak.la/2yctqhf