St-Takla.org  >   books  >   helmy-elkommos  >   biblical-criticism  >   new-testament
 

مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية

كتاب النقد الكتابي: مدارس النقد والتشكيك والرد عليها (العهد الجديد من الكتاب المقدس) - أ. حلمي القمص يعقوب

31- هل مصطلح "النقد العالي" يحمل مفهومًا سلبيًا؟ وهل ألغت المسيحية دور العقل في فحص وإدراك الأمور الإيمانية؟

 

س 31 : هل مصطلح "النقد العالي" يحمل مفهومًا سلبيًا؟ وهل ألغت المسيحية دور العقل في فحص وإدراك الأمور الإيمانية؟

St-Takla.org                     Divider of Saint TaklaHaymanot's website فاصل - موقع الأنبا تكلاهيمانوت

 ج: أولًا: هل مصطلح "النقد العالي" يحمل مفهومًا سلبيًا؟

 مصطلح "النقد العالي" لا يحمل في ذاته مفهومًا سلبيًا، فهو يعني الفحص الدقيق لوقائع وأحداث الكتاب المقدَّس بهدف الوصول إلى حكم نهائي عن المؤلَّف، والمؤلّف، والعصر الذي كتَب فيه، والأسلوب الذي كتَب به، وظروف إنتاج النص، والمصادر التي اُستخدمت في تأليفه، والهدف منه... إلخ، ولكن بسبب ارتباط أصحاب مدرسة النقد الأعلى بنقد الكتاب بطريقة سلبية، لذلك صار المصطلح يعني نقض الكتاب المقدَّس، فالذين يعملون بالنقد الأعلى لا يهتمون بوحدة الكتاب، ولا بالوحي الإلهي، فجاءت نظرتهم للكتاب خالية من التقدير والاحترام، وكأنه ليس كلمة الله، فهم ينظرون إليه كأي مؤلَّف أدبي آخر، كل عملهم عمل عقلاني بعيد عن روح الصلاح والتقوى، ولذلك إن كان للنقد الأعلى جوانب ضئيلة حسنة، فإن نقاط ضعفه كثيرة وخطيرة، هو لا يسعى لإظهار غنى وعظمة ومجد الكتاب المقدَّس، كتراث ديني وأدبي وحضاري لا غنى للإنسان عنه، بقدر ما يسعى لتفكيك وحدة الكتاب والتشكيك في وحيه والطعن في مصداقيته، وبينما يدرس أصحاب النقد العالي الأسفار المقدَّسة والأمور اللاهوتية، فهم أبعد ما يكون عن هذا، فيُعثَرون ويُعثِرون، مستخدمين عبارات صادمة مثل: "شخصية يسوع الخرافية"، و "خدعة القيامة".. إلخ. أنه نقد سلبي، يمثل نزوة شيطانية تسعى نحو تأليه العقل، ومحو الإيمان بالله وبالأسفار المقدَّسة، وتدمير فكرة الوحي الإلهي.

 ويقول "الأب ثيؤدور ستيليانوبولوس": " لقد كان اللاهوت مسألة إيمان شخصي عميق مكرَّس لتغذية حياة الكنيسة، على العكس، الدراسات اللاهوتية المعاصرة تجد بيتها في الصفوف ومؤسسات التعليم العالي، حيث التركيز أقل على الصلاة والحياة المسيحية وأكثر مع إتمام البرامج الأكاديمية ومنح الدراسات العليا... في احتفالات التخرج، تصفق للإنجازات الأكاديمية ونادرًا ما يسأل أحد ما إذا كان خريج المدرسة اللاهوتية قد تعلَّم الصلاة...

 في الواقع يشوب الإسراف في الدراسات الكتابية نوع من السلبية والسخرية... هذه السلبية تتخطى حتى الحياد المهني، إلى الرطانة، والتخمينات المفرطة والتأملات الفارغة... والعبارات الاستفزازية مثل "المسيح الخرافة"، و "عدم وحدة العهد الجديد"، و "تشريح" هذا أو ذاك من الكتاب المقدَّس. هذه كلها، بدون شك، تربك الطلاب وتصيبهم بالخيبة وهم قد انضموا إلى الصفوف الكتابية مفكرين بإيجاد بعض الاكتفاء الذاتي والقيمة الحياتية في هذه الصفوف التي يعلّمها خبراء، لكن بدون طائل. علاوة على هذه العوائق المهنية كلها، يكتشف المرء أحيانًا بين بعض العلماء عداء لصُلب الموضوع عينه أي الإنجيل ودعوته. ممكن أن نرى هذا في اللذة الفاسدة، سواء المخبأة أو العلنية، في هز إيمان الطلاب الضعيف أو القليل المعرفة. وراء هذه المواقف تقف شئون الباحث الشخصية... من عقدة النقص في وجه المذهب العقلي السائد... هذا بالحقيقة هو اختصاص مؤذ ومدمر يسئ بشكل عظيم إلى الإنجيل ولكل الذين يدرسونه أكاديميًا... منذ " هيرمان صموئيل ريماروس " Herman Samuel Reimarus (1694 - 1768م) إلى المشاركين الحاليين في منتدى يسوع (جماعة سيمنار يسوع) Jesus Seminary " (121).

 

St-Takla.org Image: A man thinking, hesitation, hesitate, a farmer. صورة في موقع الأنبا تكلا: رجل يفكر، التردد، متردد، مزارع.

St-Takla.org Image: A man thinking, hesitation, hesitate, a farmer.

صورة في موقع الأنبا تكلا: رجل يفكر، التردد، متردد، مزارع.

ثانيًا: هل ألغت المسيحية دور العقل في فحص وإدراك الأمور اللاهوتية:

 لم تلغي المسيحية دور العقل ولم تقلل من شأنه، إنما تعطي للعقل دوره الطبيعي، وتوظفه في حدود إمكاناته، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فمثلًا عند دراسة الأسفار الإلهيَّة يجتهد العقل في الفهم والاستيعاب وربط الحقائق والخروج بنتائج إيجابية على قدر طاقته، والمجال أمامه مفتوح في البحث والدرس والفحص والتمحيص بعيدًا عن روح الريبة والشك، ومتى كانت اهتمامات العقل إيجابية فأنه يستفيد ويستنير ويُفيد الآخرين، فمثلًا البحث في علم المخطوطات وتدقيقها وتحديد أعمارها ودراسة لغتها هو أمر عقلاني لا غنى عنه، وأيضًا دراسة الخلفيات الجغرافية والتاريخية والحضارية التي دُوّنت فيها الأسفار كما رأينا في الباب الأول هو أمر في غاية الأهمية... وهلم جرا، فطالما العقل يعرف حدوده، ويوقن بعصمة الكتاب المقدَّس عصمة كاملة شاملة، فهو لن يرتئي فوق ما ينبغي أن يرتئي بل يرتئي إلى التعقل، وهذا عين ما اهتمت به مدرسة النقد الأدنى، وما لا يدركه الإنسان بعقله يصدقه بالإيمان، فإن كان العقل أشبه بالعين المجردة التي لا ترى الكائنات الدقيقة ولا الكائنات البعيدة فإن الإيمان يشبه الميكروسكوب الذي يكشف الكائنات الدقيقة، والتليسكوب الذي يكشف الكائنات البعيدة.

 ويقول "الأب ثيؤدور ستيليانوبولوس": " ولكن إذا أصر العقل بعناد على طرح أسئلة راديكالية مُشكَكة، وإذا تجرأ العقل على اعتبار نفسه قادرًا على وضع عمل الله الخلاصي وحضوره موضوع (موضع) تَفحُّص عقلي، عندئذ يكون قد تخطى حدوده بعمل جنوني من العمل الفلسفي. فهو يصبح أداة مدمرة أكثر منها بناءة في معالجة الكتاب، وعندئذ يستعمل البحث العلمي العقل بهذه الطريقة، يخلق علنيًّا أو ضمنيًّا جوًا من الشك في قضايا الكتاب الأساسية بهذا يضعف سلطته ككلمة الله. النتيجة الفلسفية هيَ أن عدم قدرة العقلانية على التعاطي (التعامل) مع الحقيقة المطلقة، وفوق كل شيء مع سر الله، تظهر كضعف في الحقائق المسيحية... مأساة الأوجه الراديكالية للنقد الكتابي هيَ أنه فيما يصبو الناقد إلى توضيح الشهادة الكتابية، فهو أو هيَ ينتهي إلى "رمي الطفل من الوعاء". بل المرء نحو التشكيك والإلحاد" (122).

 فعدم قدرة العقل على إدراك الحقائق الإيمانية يُظهر هذه الحقائق وكأنها ضعيفة وغير منطقية ويجب رفضها، هكذا ظن البعض أن قضية الصلب والفداء عثرة وجهالة، ويقول "القديس غريغوريوس النينزنزي": " وهكذا فعندما نقدم سلطان التحليل العقلي ونهمل الإيمان، عندما نبطل سلطان الروح بتحرياتنا، ويكون التحليل العقلي من دون عظمة الموضوع وسيكون كذلك على كل حال لأنه ثمرة أداة ضعيفة هيَ عقلنا البشري، فماذا يجري والحالة هذه؟ أن الاستدلال يبدو كالسر ضعيفًا. وهكذا فأن ذمة التحليل العقلي تظهر "بطلان الصليب" على حد ما يرى بولس" (الخطب 27-31 اللاهوتية نقلها من اليونانية للعربية الأب يوحنا الفاخوري ص 104، 105) (123).

 

ويجب أن نعي أن هناك فرقًا شاسعًا بين تعاملنا مع الأمور العلمية والأمور الإيمانية:

أ - تبدأ الأمور العلمية بالشك في صحتها، أمَّا الأمور الإيمانية فإننا نصدقها ونقبلها مؤمنين بصحتها، فالشك مفيد في الأمور العلمية، ولكنه في منتهى الخطورة في الأمور الإيمانية، ومن السهل تسلُّل الشك إلى قلب الإنسان وعقله ومن الصعب التخلُّص منه، ولهذا ينصحنا الآباء بأنه متى تعرضنا لحرب الشك فيجب ألاَّ نواجهها بـل نهملها فتموت في مهدها، لأن الأخذ والرد في الشكوك يزيد من سعيرها.

ب - يُخضِع الإنسان الأمور العلمية للفحص والتمحيص والتجربة حتى تثبت صحتها، أمَّا الأمور الإيمانية فإننا نقبلها ونتفهمها بالإيمان مع الدراسة والبحث في روح الصلاة والاتضاع.

جـ - يقبل الإنسان الأمور العلمية بعد الاقتناع بصحتها، أمَّا الأمور الإيمانية فإننا نقبلها حتى لو كانت فوق مستوى العقل والإدراك والحواس، فنحن نؤمن بوجود الله والملائكة والأرواح والحياة الأخرى وإن كنا لا نراها بالحواس المادية.

د - الأمور العلمية محدودة لأنها تختص بالكون والإنسان وكليهما محدود، أمَّا الأمور الإيمانية فهيَ غير محدودة لأنها تتعلق بالله غير المحدود وغير المتناه.

هـ - تعتمد الأمور الإيمانية على إعلانات الله لنا، فعندما آمن بطرس واعترف بألوهية السيد المسيح، لم يكن هذا الاعتراف وليد عقله، إنما كان بإعلان سمائي، ولذلك قال له الرب يسوع: " طُوبَى لَكَ يَاسِمْعَانُ بْنَ يُونَا إِنَّ لَحْمًا وَدَمًا لَمْ يُعْلِنْ لَكَ لكِنَّ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (مت 16 : 17)، وقال الرب يسوع أيضًا: " لَيْسَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الابْنَ إِلاَّ الآبُ وَلاَ أَحَدٌ يَعْرِفُ الآبَ إِلاَّ الابْنُ وَمَنْ أَرَادَ الابْنُ أَنْ يُعْلِنَ لَهُ" (مت 11 : 27)، وقال بولس الرسول: " وَلَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَقُولَ يَسُوعُ رَبٌّ إِلاَّ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ" (1كو 12 : 3).

_____

الحواشي والمراجع لهذه الصفحة هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت:

 (121) ترجمة الأب أنطوان ملكي - العهد الجديد - نظرة أرثوذكسية ص 145 - 147.

 (122) ترجمة الأب أنطوان ملكي - العهد الجديد - نظرة أرثوذكسية ص 97 .

(123) أورده الأب ثيؤدور ستيليانوبولوس - العهد الجديد - نظرة أرثوذكسية ص 97، 98.


الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع

https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/31.html

تقصير الرابط:
tak.la/3xymy6v