س300: هل قام كل من متى ولوقا بتنقيح وتهذيب عبارات مرقس القاسية: "فَأَيْقَظُوهُ وَقَالُوا لَهُ يَا مُعَلِّمُ أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ... وَقَـالَ لَهُمْ مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هكَذَا. كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ" (مر 4: 38، 40)؟ وهل الذين تعجبوا هم التلاميذ (مر 4: 41، لو 8: 25)، أم الناس الذين كانوا في السفينة (مت 8: 27)؟ (راجع القس أندريه زكي - المسيح والنقد التاريخي ص51 - 53).
ج: 1ــ سبق الإجابة على هذا التساؤل بإستفاضة، فيُرجى الرجوع إلى مدارس النقد ــ عهد جديد - مقدمة (1) س73.
2ــ قال مارمرقس: "فَأَيْقَظُوهُ وَقَالُوا لـَهُ يَا مُعَلِّمُ أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ" (مر 4: 38)، وقال القديس متى: "فَتَقَدَّمَ تَلاَمِيذُهُ وَأَيْقَظُوهُ قَائِلِينَ يَا سَيِّدُ نَجِّنَا فَإِنَّنَا نَهْلِكُ" (مت 8: 25)، وقال القديس لوقا: "فَتَقَدَّمُوا وَأَيْقَظُوهُ قَائِلِينَ يَا مُعَلِّمُ يَا مُعَلِّمُ إِنَّنَا نَهْلِكُ" (لو 8: 24). واختلاف الأسلوب بين الأناجيل لا يُعد عيبًا، ولا يعني أن أحد الإنجيليين لم يعجبه أسلوب إنجيلي آخر، فراح يُهذّب ويُنقّح فيه، وكأن أسلوب ذاك الإنجيلي كان معيبًا يحتاج للتنقيح والتهذيب!! كيف يكون هذا والروح القدس قد صاحب كل منهم وساعده على إنتقاء الألفاظ؟!! أن الأناجيل خالية تمامًا من أي عيب سواء في المعنى أو في اللفظ والأسلوب، وهيَ متكاملة معًا ليس بينها تعارض ولا تناقض ولا أفضلية لإنجيل على آخر. وكيف يُنقّح القديس متى عبارات مرقس مع أن الذي عاين الحدث هو القديس متى وليس القديس مرقس؟!! لقد غاب على الناقد أنه في مواجهة الموت تختلف ردود الأفعال من شخص إلى آخر، فشخص يضبط مشاعره إلى حد ما، والآخر لا يستطيع، شخص يخاف وآخر يرتعب وأخر يجزع وآخر يكون مطمئنًا إلى حد بعيد، ولا نتوقع أن يكون رد فعل بطرس هو رد فعل يوحنا، أو رد فعل سمعان الغيور مثل رد أندراوس. وكانت السفينة ضخمة حملت التلاميذ مع أناس آخرين لا نعرف عددهم، فاختلفت النداءات، ربما قال بطرس: "أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟!! " فهذه لغته التي دفعته مرة إلى إنتهار السيد المسيح (مت 16:22)، وقال آخرون: "يَا سَيِّدُ نَجِّنَا فَإِنَّنَا نَهْلِكُ"، وآخرون قالوا: "يَا مُعَلِّمُ يَا مُعَلِّمُ إِنَّنَا نَهْلِكُ ".. العبارات متنوعة والمعنى واحد يحمل طلب الإستغاثة.
ويقول "القديس أغسطينوس": "إن التلاميذ قصدوا قصدًا في إيقاظهم المسيح وهو طلب الخلاص، ولا يهمنا أن نتأكد أن هذه الروايات تضمن كلامهم بلفظه في تلك الإستغاثة أو أنهم نادوا بغير ما ذكر. فالقصد والفكر واحد في الجميع، فإذًا قد ذكر كل البشيرين المعنى الواحد بكلمات مختلفة" (756).
وعبارة القديس مرقس التي رأى فيها الناقد أنها تحتاج إلى تنقيح وتهذيب، قد حملت في أعماقها معنى روحي رائع، فالقول: "أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ" فبالرغم من أي المسيح نائم في السفينة فأنه لا يخفى عليه أمر، فهو الذي أمر أو سمح بهيجان البحر، ولذلك جاءت الصرخة " أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ"؟! إلى متى تصمت وأنت ترى العاصفة تبتلعنا؟!! (راجع الأب متى المسكين - الإنجيل بحسب القديس مرقس ص 261).
3ــ عقب تهدئة العاصفة قال السيد المسيح بحسب القديس مرقس: "مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هكَذَا؟ كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ؟" وصاغ القديس متى نفس العبارة بأسلوبه: "مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟" (مت 8: 26)، وقال القديس لوقا أن السيد المسيح: "قَالَ لَهُمْ أَيْنَ إِيمَانُكُمْ؟!" (لو 8: 25) والعبارات متقاربة تعكس معنى واحد، والعبارة الحادة التي قالها التلاميذ: "أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ" (مر 4: 38) جاء الرد عليها بعبارة حادة " مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ هكَذَا؟ كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ؟" (مر 4: 40)، فالعبارتان متناسقتان، ولاحظ تناغم عبارتي القديس متى (مت 8: 25)، (مت 8: 26)، وأيضًا تناغم عبارتي القديس لوقا (لو 8: 24)، (لو 8: 25). وعبارة القديس مرقس " كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ؟" تحمل معنى روحي خفي، فالسيد المسيح كان يتوقع أن يكون لديهم الإيمان الذي ينتهر العاصفة فتهدأ، ويقول "الأب متى المسكين": "إذًا، فالمسيح كان ينتظر من التلاميذ أن ينتهروا الريح ويزجروا البحر، هذا هو مفهوم " كَيْفَ لاَ إِيمَانَ لَكُمْ؟ ".." (757).
ويقول "الأب فاضل سيداروس": "كما قلنا مرارًا، لا تهدف الأناجيل إلى سرد حدث على طريقة التحقيق الصحفي، بل الإنجيليون يتوخون إظهار المعنى اللاهوتي الكائن في الحدث أو القول" (758). فعوضًا عن الإنشغال باختلاف الألفاظ والأسلوب، من الأفضل أن نتمعن في النص ونستشف المعاني اللاهوتية التي قصدها الكاتب، ويقول "الأب فاضل سيداروس" أيضًا: "نستخلص من ذلك طريقة قراءة الأناجيل. فهناك الحدث من جهة، ومعناه أو قصده اللاهوتي من جهة أخرى، والحدث ومعناه متلازمان، لا يقبلان أية تجزئية في قراءة أي نص من الإنجيل. فمن الخطأ قراءته لمعرفة ما حدث أو ما قيل، فالحدث تنكشف أبعاده من خلال معناه اللاهوتي. فإذا أخذنا معجزة تسكين العاصفة، فأنها لا تفيدنا شيئًا إذا فصلناها عن المعنى اللاهوتي الذي أراده الإنجيليون وأضفوه عليها. فليست الأناجيل تحقيقًا صحفيًا أو سيرة يسوع المجردة - كما سبق أن قلنا - بل هيَ " لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ" (يو 20: 31). أي أن كل قول وفعل محمَّل معنى لاهوتيًا يفيد شخص يسوع المسيح وإيمان الذين يقرأون أو يسمعون كلمته.
لذلك ينبغي البحث دومًا عن معنى الحدث ولا يكفي معرفة الحدث. وعلى نقيض ذلك، فإن من الخطأ أيضًا البحث عن معنى الحدث، بمعزل عن الحدث نفسه، فهناك من يدَّعي أن المعجزات مثلًا لم تحدث بالفعل، بل ابتدعها الإنجيليون ليظهروا قصدًا لاهوتيًا. هذه النظرة غير صائبة، لأن الإنجيليين لم يختلقوا الحدث، بل انطلقوا منه وأضفوا عليه معنى لاهوتيًا" (759).
4ــ قال مارمرقس عن التلاميذ: "فَخَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا وَقَالُوا بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ مَنْ هُوَ هذَا؟ فَإِنَّ الرِّيحَ أَيْضًا وَالْبَحْرَ يُطِيعَانِه" (مر 4: 41)، وقال القديس لوقا عن التلاميذ أيضًا: "فَخَافُوا وَتَعَجَّبُوا قَائِلِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ مَنْ هُوَ هذَا؟ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ الرِّيَاحَ أَيْضًا وَالْمَاءَ فَتُطِيعُهُ" (لو 8: 25)، وقال القديس متى: "فَتَعَجَّبَ النَّاسُ قَائِلِينَ أَيُّ إِنْسَانٍ هذَا؟ فَإِنَّ الرِّيَاحَ وَالْبَحْرَ جَمِيعًا تُطِيعُهُ" (مت 8: 27). وكون القديس متى يذكر تعجب الناس فهو لم ينفي تعجب التلاميذ، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وكون القديسين مرقس ولوقا يذكران تعجب التلاميذ، فلم ينفي أحدهما تعجب الناس. إذًا نصل للنتيجة الحتمية أن كل من التلاميذ والناس الذين في السفينة تعجبوا، ومن يرى معجزة مثل هذه ولا يتعجب؟!! بحر هائج يرغي ويزيد يريد ابتلاع السفينة ومن عليها، وفي لحظة وطرفة عين يهدأ ويسكن تمامًا!!!
_____
(756) أورده القس منسى يوحنا - ردود كتابية على مزاعم وإفتراءات خيالية ص114.
(757) الإنجيل بحسب القديس متى ص263.
(758) تكوين الأناجيل ص17.
(759) المرجع السابق ص16 ، 17.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/300.html
تقصير الرابط:
tak.la/npbx59m