س 29: ما هو مفهوم "النقد الكتابي" Biblical Criticism؟ وكيف استخدمت الكنيسة النقد الكتابي بمفهومه الإيجابي في تحديد قانونية الأسفار المقدَّسة؟
1- مفهوم "النقد" بصفة عامة أي الإدراك، والتمييز، والتقييم، وإصدار الحُكم من جهة المميزات والعيوب، و "النقد الكتابي" هو الذي يتناول نقد نصوص الكتاب المقدَّس.
2- كلمة "النقد" Critism اُستخدمت قديمًا في اللغة اليونانية تحت اسم "كريتكي" κριτικη أي: "القدرة على التمييز، وبدونه لا يكون هناك أمر محدَّد وواضح في أمر ما" Biblical Biblical Criticism In the : Interpreter's Disctionary of the Bible Vol2). (See : (103)
وكلمة " نقد" Critism مشتقة من الفعل Krino، وهو يعني: يدرك، أو يميّز، أو يحاول، أو يصدر حكمًا، أو يقرّر.
3- كلمة "النقد" في الأمور الأدبية لا تعني البحث عن الأخطاء، بل تعني التقييم العادل للمميزات والعيوب، أي إصدار حكم غير متحيّز. فالنقد يعني: " فن تمييز جيد الكلام من رديئه وصحيحه من فاسده"، وجاء في معجم المعاني الجامع: " نَقَدَ الشيء: بيَّن حَسنه ورديئه، أظهر عيوبه ومحاسنه"، و "النقد الأدبي: علم يبحث في طبيعة الأعمال الأدبية وخصائصها وقيمتها الفنية".
4ـــ تعريف "النقد الكتابي":
أ - جاء في دائرة المعارف المسيحية أن "النقد الكتابي" هو العلم الذي به نصل إلى المعرفة الكافية لأجل النص الأصلي للكتاب المقدَّس، وتاريخه، وحالته الحالية (راجع جوش مكدويل - برهان جديد يتطلب قرارًا ص 363).
ب- جاء في "ويكبيديا الموسوعة الحرة " تعريف "النقد الكتابي" من خلال الإجابة على الأسئلة الأربعة الآتية:
س (أ): ما هو النقد الكتابي؟.. " هو البحث والدراسة في الأسفار الكتابية، بقصد التوصل لأحكام مميَّزة ومستبصرة عن تلك الكتابات".
س (ب): ما هيَ تساؤلات النقد الكتابي؟.. " يسأل النقد الكتابي عن زمان ومكان صدور نص معين، وعن السبب، والكيفية، والمؤلّف والمؤلف له، وظروف إنتاج النص، والمصادر التي استعملت في تأليفه، والرسالة المقصود إيصالها".
س (ج): مع أي شيء يتعامل النقد الكتابي؟.. " يتعامل النقد الكتابي أيضًا مع النص بما في ذلك معاني الكلمات، وطريقة استعمالها، وحفظها، وتاريخها، وموثوقيتها".
س (د): ما هيَ العلوم التي يستعين بها النقد الكتابي؟.. " يستغل النقد الكتابي عدة علوم متنوعة منها علم اللسانيات، والآثار، والفلكلور، وعلم الإنسان، ودراسات التقاليد الشفهية، والدراسات التاريخية والدينية".
فالنقد الكتابي Biblical Criticism هو العلم الذي يبحث في الكتابات المقدَّسة بهدف استصدار أحكام علمية حول هذه الكتابات من حيث الزمان والمكان الذي كُتبت فيه، وكيفية الكتابة، والكاتب، ولمَن كَتَب، ولماذا كَتَب، والظروف التي أحاطت بالكتابة، كما يتناول هذا العلم النص ذاته المكتوب من حيث معاني الكلمات والمفردات المستخدمة، وتاريخها، وأصولها، ويبحث علم النقد الكتابي من خلال منظومة علمية متكاملة مثل علم الآثار، وعلم الإنسان، وعلم الفلكلور، وعلم اللغة، وعلم التاريخ، وعلم الدراسات الدينية... إلخ.
فقد استخدمت الكنيسة قديمًا "النقد الكتابي" في مفهومه الإيجابي في تحديد الأسفار القانونية، أي الموحى بها والمعصومة من الخطأ، فقبلت كنيسة العهد القديم 46 سفرًا، ورفضت أسفار كثيرة مثل آدم، وشيث، وأخنوخ، ونوح، وإبراهيم، وعزدراس، وجاء في بعض كتب أبو كريفا أن الروح القدس أملى عزرا الكاهن 70 سفرًا لا يطلع عليها إلاَّ الحكماء، ومعنى "أبو كريفا" أي خفي أو غامض أو مُبهم أو عويص، فكان لدى اليونانيين معرفة مباحة للجميع، ومعرفة خاصة لا يطلع عليها إلاَّ العارفين. وقبلت كنيسة العهد الجديد 27 سفرًا ورفضت عشرات الأسفار من أسفار أبو كريفا مثل إنجيل العبرانييـن، والمصريين، والاثنى عشر، وبطرس، وتوما ومريم المجدلية، ويعقوب، وفيلبس، ونيقوديموس، ويهوذا الإسخريوطي، وإنجيل الطفولة... إلخ.
الأسفار القانونية " Canon "، وكلمة " Canon " مشتقة من الكلمة الإنجليزية " Cane " أي قصبة (في اللغة العبرية Kaneh، وفي اليونانية Kanon) حيث استخدمت القصبة كقضيب للقياس، ثم أصبحت تعني معيار فكلمة " Canon " تعني "قصبة القياس" أو "عصا مستقيمة"، أو "قاعدة للقياس أو للحكم"، وقد أستخدمها بولس الرسول للتعبير عن "قاعدة السلوك والعقيدة" عندما قال: " وَلكِنْ نَحْنُ لاَ نَفْتَخِرُ إِلَى مَا لاَ يُقَاسُ بَلْ حَسَبَ قِيَاسِ الْقَانُونِ الَّذِي قَسَمَهُ لَنَا اللهُ" (2كو 10 : 13 - 16) " فَكُلُّ الَّذِينَ يَسْلُكُونَ بِحَسَبِ هذَا الْقَانُونِ عَلَيْهِمْ سَلاَمٌ وَرَحْمَةٌ" (غل 6 : 16).. " فَلْنَسْلُكْ بِحَسَبِ ذلِكَ الْقَانُونِ عَيْنِهِ" (في3 : 16) واستخدمها "القديس أيرينيؤس" فدعَى الأسفار المقدَّسة "قانون الحق"، ودعاها أكليمنضس السكندري "القانون الإنجيلي الحقيقي"، ودعاها يوسابيوس القيصري "القانون الكنائسي"، وصارت الأسفار القانونية هيَ المعيار الصحيح للإيمان المستقيم والعقيدة الصحيحة، فاعتبر "القديس أكليمنضس السكندري" أن القانون أو القاعدة للحُكم على أي سفر هو مدى توافقه مع العهدين القديم والجديد، وكذلك أي عقيدة لا بد أن تتوافق مع الكتاب المقدَّس، فيقول : " أن الآباء الأولين لم يتصوَّروا قط شيئًا يُدعى عقيدة لا يمكن إثباتها من الكتب المقدَّسة... فلا يوجد أمر يمكن أن نُعلّم به الآن أو في أي زمن مضى بعد العهد الرسولي إلاَّ ويكون الحُكم عليه من الكتب المقدَّسة" (ANF, vol II. P 557) (104).
واستخدم أوريجانوس كلمة "قانون" بالنسبة للأسفار المقدَّسة، كما استخدمها البابا أثناسيوس الرسولي نحو سنة 350م عندما صرَّح أن كتاب الراعي لهرماس ليس ضمن القانون، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. كما استخدمها في رسالته الفصحية (39) سنة 367م للتعبير عن الأسفار المقدَّسة الموحى بها من الله، وأيضًا استخدمها مجمع لادوكية (اللاذقية) سنة 363م حيث جاء في المادة 56 أن كلمة "قانون" تُطلق على: الأسفار المقبولة المقدَّسة، وفي القرن الرابع كان استخدام هذه الكلمة شائعًا في الشرق وفي الغرب أيضًا، فالأسفار القانونية هيَ الأسفار المقدَّسة المُوحَى بها من الله والتي قبلتها الكنيسة، وقد استخدمت الكنيسة خمسة معايير للتمييز بين الأسفار القانونية وأسفار أبو كريفا المزيفة، اثنان من هذه المعايير يختصان بالكاتب، وثلاثة تختص بالسفر، وهذه المعايير هيَ:
1 - أن يكون كاتب السفر من رجال الله القديسين، سواء من أنبياء العهد القديم أو من رسل العهد الجديد، لا يتحدث بِاسمه الخاص بل بِاسم الله، ولا يعلن إرادته الخاصة بل إرادة الله.
2 - أن يكون للكاتب حياته المقدَّسة المُرضية أمام الله، وليس معنى هذا أنه لم يخطئ، لأنه ليس إنسان بلا خطية، ولكنه إنسان تائب، ونحن لا نؤمن بعصمة أي إنسان إلاَّ في حالة واحدة، وهيَ لحظات تسجيله الأسفار المقدَّسة حيث يعصمه الروح القدس من أي شطط.
3 ـ أن السفر يُعلّم طريق الله بالحق والاستقامة، فالسفر يخلو تمامًا من أي تناقضات أو ضعفات أو سهوات أو شوائب أو خرافات أو أساطير أو أي نوع من العيوب، بعيد تمامًا عن أي كذب أو افتراء، لأن السفر يحوي كــلام الله و" لاَ يُمْكِنُ أَنَّ اللهَ يَكْذِبُ" (عب 6 : 18)، فمثلًا قبلت الكنيسة إنجيلي مرقس ولوقا وهما ليسا من الرسل بينما رفضت أسفار نُسبت للرسل مثل إنجيل بطرس، وإنجيل يعقوب، وإنجيل توما.
4 - أن يكون للسفر تأثيره على النفس البشرية: " لأَنَّ كَلِمَةَ اللهِ حَيَّةٌ وَفَعَّالَةٌ وَأَمْضَى مِنْ كُلِّ سَيْفٍ ذِي حَدَّيْنِ" (عب 4 : 12) فهيَ تعمل في الإنسان وتغير حياتــه للأفضل: " لِكَيْ يَكُونَ إِنْسَانُ اللهِ كَامِلًا مُتَأَهِّبًا لِكُلِّ عَمَل صَالِحٍ" (2تي 3 : 17)، متوافق تمامًا مع روح الكتاب.
5 - قبول المعاصرين للسفر كسفر مقدَّس، مثلما قبل أهل تسالونيكي رسالة بولس الرسول لهم ككلمة الله: " إِذْ تَسَلَّمْتُمْ مِنَّا كَلِمَةَ خَبَرٍ مِنَ اللهِ قَبِلْتُمُوهَا لاَ كَكَلِمَةِ أُنَاسٍ بَلْ كَمَا هِيَ بِالْحَقِيقَةِ كَكَلِمَةِ اللهِ الَّتِي تَعْمَلُ أَيْضًا فِيكُمْ أَنْتُمُ الْمُؤْمِنِينَ" (1تس 2 : 13)، ومثلما قبل بطرس الرسول كتابات بولس الرسول: " كَمَا كَتَبَ إِلَيْكُمْ أَخُونَا الْحَبِيبُ بُولُسُ أَيْضًا بِحَسَبِ الْحِكْمَةِ الْمُعْطَاةِ لَهُ. Pكَمَا فِي الرَّسَائِلِ كُلِّهَا أَيْضًا... الَّتِي فِيهَا أَشْيَاءُ عَسِرَةُ الْفَهْمِ يُحَرِّفُهَا غَيْرُ الْعُلَمَاءِ وَغَيْرُ الثَّابِتِينَ كَبَاقِي الْكُتُبِ أَيْضًا لِهَلاَكِ أَنْفُسِهِمْ" (2بط 3 : 15، 16).
ويقول "الأب ثيودور ستيليانوبولس" أن "Gamble" حدَّد: " أربعة معايير للقانونية: الرسولية، الجامعة، الأرثوذكسية (صحة الإيمان) والاستعمال التقليدي... كانت الوثيقة تعتبر رسولية إذ ارتبط مصدرها برسول أو بزمان الرسل. كي كون الوثيقة جامعة يجب أن تكون معروفة ووثيقة الصلة بالكنيسة الكبرى. كي تكون أرثوذكسية يجب أن تتوافق مع ما تفهمه الكنيسة على أنه التعليم الصحيح.." (105).
وكان المبدأ الذي تمسك به آباء الكنيسة عند تحديد قانونية سفر ما، هو: " إذا خامرك الشك في سفر فالقه جانبًا" (راجـع جوش مكدويل - برهان جديد يتطلب قرارًا ص 66، 67، وإيريل كيرنز - ترجمة عاطف سامـي - المسيحية عبر العصور ص 134، 135) وإذا تساءلنا: أيهما أسبق قانونية السفر أم قبول الكنيسة للسفر كسفر قانوني؟.. نعلم جيدًا أن قانونية السفر هيَ الأسبق وهيَ الأساس، ومن أجل هذا قبلته الكنيسة، وبما أن الكنيسة قد قبلته كسفر قانوني فلا يصح أن يشكّك أحد فيه، وما دامت الكنيسة كشفت عن قانونية السفر وقبلته فلا يصح أن يطعن أحد في مصداقيته. إذًا قولنا أن الكنيسة حدَّدت قانونية الأسفار لا يعني أن الكنيسة أسبغت عليها قانونيتها، بل يعني أن الكنيسة كشفت عن قانونيتها، فأولًا: السفر هو كلمة الله وقد أخذ قانونيته من الله، وثانيًا: لأنه كلمة الله قبلته الكنيسة سفـرًا قانونيًا، فالسفر لم يعد قانونيًا لأن الكنيسة قبلته، إنما الكنيسة قبلته لأنه في الأصل هو سفر قانوني موحَى به ومعصوم من الخطأ.
ويقول "دكتور موريس تاوضروس": " والكنيسة ليس من سلطتها أن تحذف شيئًا من الكتاب المقدَّس مُنكِرة قانونيته، كذلك ليس من سلطتها أن تقرَّ كتابًا على أنه مُوحىَ به من الله وتضيفه إلى الكتاب المقدَّس" (106).
ويقول "القمص عبد المسيح بسيط": "من الذي قرَّر صحة ووحي وقانونية أسفار العهد الجديد؟.. هل الكنيسة أم القانونية وحاكمتها وقاضيتها ومنظمتها وسيدتها، كما يتصوَّر البعض من النُقَّاد؟. والإجابة التي يؤكدها التاريخ والتقليد والأسفار المقدَّسة نفسها هيَ: كلاَّ، فالكنيسة مبنية على أساس كلمة الله في هذه الأسفار المقدَّسة وليست مقرّرة لها: "مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَـرُ الزَّاوِيَةِ "(أف 2 : 20)، فقد أقرت الكنيسة الأولى بصحة ووحي هذه الأسفار وأدركتها وشهدت لها وبشرت بها وحفظتها بالروح القدس وسلمتها للأجيال التالية كما تسلمتها هيَ من السيد المسيح ولم تقرّرها" (107).
_____
(103) أورده د. چوزيف موريس فلتس - مؤتمر العقيدة (6) 22 - 25/9/2003م طبعة تمهيدية ص 128.
(104) دير القديس أنبا مقار - فكرة عامة عن الكتاب المقدَّس ص 25.
(105) ترجمة الأب أنطوان ملكي - العهد الجديد - نظرة أرثوذكسية ص 63.
(106) موسوعة علم اللاهوت العقيدي - المجلد الأول ص 85.
(107) الوحي الإلهي واستحالة تحريف الإنجيل ص 93.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/29.html
تقصير الرابط:
tak.la/84t67kq