س279: عندما نُصلي: "خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا الْيَوْمَ" (مت 6: 11) أي خبز هو المقصود هنا، هل "الخبز" كتعبير عن الأمور السمائية أم الأمور الأرضية؟ وهل "خُبْزَنَا كَفَافَنَا" أم "خبزنا الذي للغد"؟ ولو كان المقصود بالخبز الأمور الأرضية ألا يعتبر هذا تناقض مع وصية: "لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ" (مت 6: 25)؟ وما دام اللَّه يعرف كل احتياجاتنا المادية فما الداعي للصلاة من أجلها؟
ج: 1ــ الأصل اليوناني لكلمة " خُبْزَنَا كَفَافَنَا" تحتمل أكثر من معنى، فترجمها القديس جيروم، وكذلك العلامة أوريجانوس إلى "الخبز الجوهري"، ويقول "القديس جيروم": "الإنجيل العبري حسب متى يُقرأ هكذا: "خبزنا الذي للغد أعطنا اليوم "، بمعنى آخر أن الخبز الذي ستهبه لنا في ملكوتك أمنحه إيانا اليوم" (669). وترجمها القديس أغسطينوس والقديس غريغوريوس أسقف نيصص "الخبز اليومي" أو "خبز الكفاف" Our daily bread، وهكذا استخدمها القديس يوحنا ذهبي الفم، وجاءت في الترجمة القبطية: "خبزنا الذي للغد" أو " خبزنا الآتي" وهكذا جاءت في الترجمة الإنجليزية (Revised Standard Version) R.S.V.
وفسر البعض هذا الخبز بالأفخارستيا، أو بكلمة اللَّه، أو بالسيد المسيح ذاته " خُبْزُ الْحَيَاةِ" (يو 6: 33 - 35)، أو الخبز السمائي (لو 14: 15)، وجاء في حاشية "الترجمة اليسوعية": "خبز يومنا هيَ ترجمة لكلمة يونانية يصعب تفسيرها. أن العودة إلى أصل الكلمة يضعنا أمام ثلاث خيارات: "اليوم "، أو "الغد "، أو "الجوهري ". ولذلك وبصرف النظر عن العودة إلى أصل الكلمة فهناك تفسير قديم يرى في هذا الطلب إشارة إلى خبز الأفخارستيا، لا بل إلى كلمة اللَّه. يدعو يسوع تلاميذه إلى طلب ما يحتاجون إليه من الطعام يومًا بعد يوم، مع التيقن من أن اللَّه يرزقهم إياه كل يوم، كما أنه أطعم إسرائيل في البرية بالمن المُعطى يومًا بعد يوم (خر 16)"(670).
ويقول "القديس أغسطينوس": "1ــ قد يُقصَد بالخبز اليومي الاحتياجات الضرورية لهذه الحياة، فقد أشارت هذه الطلبة إلى قول السيد: "لا تهتموا للغد" بقولها " أعطنا اليوم ".
2ــ وقد يُقصَد به التناول من جسد ربنا يسوع المسيح الذي نأخذه يوميًا.
3ــ وقد يُقصَد به الغذاء الروحي إذ قال الرب: "اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ" (يو 6: 27)، ولكن السؤال موضع الاعتبار هو أي وجهات النظر الثلاثة أصوب؟ لأن البعض يندهشون كيف نصلي من أجل الاحتياجات المادية اللازمة لهذه الحياة كالطعام والملبس مثلًا، بينما يقول الرب: "لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ" (مت 6: 25).." (671).
2ــ يقول "قداسة المتنيح البابا شنوده الثالث": "خبزنا كفافنا أم خبزنا الذي للغد؟ تختلف ترجمات الصلاة الربية، فالبعض يقول " خبزنا كفافنا "، والبعض يقول " خبزنا الذي للغد" فأيهما أصح؟ لست أريد هنا أن أدخل معكم في بحث لغوي... ويكفي هنا أن نفهم حقيقة أساسية تنفعنا وقت الصلاة وهيَ:
الخبز الذي تطلبه هو الخبز الروحي اللازم لأبديتنا.
نقول هذا ونضع أمامنا النقط الآتية:
(1) الصلاة الربية تشمل 7 طلبات: الثلاث طلبات الأولى منها خاصة باللَّه وهيَ: ليتقدس اسمك، ليأتِ ملكوتك، لتكن مشيئتك...
والأربع طلبات الباقية خاصة بنا، وأولها: خبزنا...
ومن غير المعقول أن يكون الخبز المادي هو أول طلباتنا، نطلبه قبل مغفرة الخطايا، وقبل طلب النجاة من التجارب والشرير...
(2) كما أن هذا يتعارض مع قول الرب: "لاَ تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ... فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ مَاذَا نَأْكُلُ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ... فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لكِنِ اطْلُبُوا أَوَّلًا مَلَكُوتَ اللَّه وَبِرَّهُ وَهذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ" (مت 6: 25، 31 - 33). " اِعْمَلُوا لاَ لِلطَّعَامِ الْبَائِدِ، بَلْ لِلطَّعَامِ الْبَاقِي" (يو 6: 27).
(3) ومع ذلك، إن كان يعوزنا الخبز فلنطلبه...
ولكن نطلب حينئذ الخبز اليومي، ولا نهتم بما للغد...
فهكذا قال القديس غريغوريوس أسقف نيصص، والقديس يوحنا ذهبي الفم، ذاكرين أننا هنا نطلب مجرد الخبز، وليس التنعم من الأطعمة.
(4) إن قلنا خبزنا الذي للغد، ماذا نقصد حينئذ؟
نقصد الخبز اللازم لأرواحنا، الذي لأبديتنا، اللازم للحياة المقبلة، للغد...
وهنا نضع في قلوبنا أن نطلب كل غذاء الروح كالصلاة والتأمل، وكمحبة اللَّه والإلتصاق باللَّه، وكالتناول من الأسرار المقدَّسة. ونلاحظ هنا أن الترجمة القبطية كانت روحية في فهمها للطلبة.
(5) وإن قال البعض "اليوم أو الكفاف" فماذا يقصدون؟
يقصدون الخبز المادي، إن كان ينقصهم... (وهذه درجة ناقصة).
أو الخبز الروحي اللازم لكفافهم: لا ينقص حتى لا يقعوا في الخطية أو الفتور، ولا يزيد عن مستواهم حتى لا يقعوا في المجد الباطل والغرور" (672).
3ــ إن كنا نطلب من أجل أجسادنا، فذلك له ما يبرّره لأن الجسد هو الذي يحمل الروح، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ونلاحظ:
أ - أننا نطلب ما هو ضروري لحياتنا وهو الخبز وليس ما لذ وطاب، بل ما يكفي لقوت أجسادنا: "فَإِنْ كَانَ لَنَا قُوتٌ وَكِسْوَةٌ فَلْنَكْتَفِ بِهِمَا" (1 تي 6: 8).
ب - أننا نطلب فقط خبز اليوم، كما كان اللَّه يعطي شعبه قديمًا المن يومًا فيومًا " أَطْعِمْنِي خُبْزَ فَرِيضَتِي" (أم 30: 8) تاركين المستقبل في يد اللَّه.
جـ - أننا نطلب طعامنا من يد اللَّه، فلا نأكل من تعب أيدينا بل نتقبل كل شيء من يد اللَّه، فالتلاميذ على بحيرة طبرية إصطادوا سمكًا كثيرًا، ومع هذا أكلوا مما أعده الرب يسوع لهم.
د - يُعبّر الخبز عن احتياجاتنا الضرورية سواء الجسدية مثل الطعام والشراب والثياب، أو احتياجات نفسية مثل الإحساس بالأمان والطمأنينة وتحقيق الذات، أو احتياجات روحية مثل السعي نحو الأبدية.
هـ - ليس معنى هذه الصلاة أن نتقاعس ونتخاذل عن العمل ونستسلم للكسل والخمول، لأن الكتاب يقول: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضًا" (2 تس 3: 10).
ويقول "متى هنري": "لأن كياننا الطبيعي ضروري لخيرنا الروحي في هذا العالم، فأننا بعد أن نطلب ما يتعلق بمجد اللَّه وملكوته ومشيئته، نطلب الأشياء الضرورية لهذه الحياة الحاضرة التي هيَ عطية اللَّه والتي يجب أن تُطلَب منه.
" خبزنا كفافنا أعطنا اليوم" أو" خبزنا لليوم القادم" أو " خبزنا الذي للغد" (حسب الترجمة القبطية)، أي خبزنا لبقية الحياة، خبزنا للأيام القادمة، خبزنا اللازم لكياننا ووجودنا الذي يتناسب مع حالتنا في هذا العالم (أم 30: 8).. ومع كل كلمة من هذه الطلبة نستطيع أن نتعلم درسًا:
(1) أننا نطلب " الخبز" وهذه تعلمنا القناعة والإعتدال، لأننا نطلب " الخبز" لا الأطايب ولا الكماليات، نطلب ما هو ضروري للحياة للحياة ولو لم يكن شهيًا.
(2) نطلب "خبزنا" وهذه تعلمنا الأمانة والجد، فنحن لا نطلب الخبز من أفواه الآخرين، ولا " خبز الكذب" (أم 20: 17)، ولا " خبز الكسل" (أم 31: 27)، بل الخبز الذي نحصل عليه بأمانة.
(3) ونطلب خبزنا "كفافنا" أو "اليومي" أو "يوما بيوم" وهذه تعلمنا أن لا نهتم بالغد، بل لنتكل على العناية الإلهيَّة على الدوام كمن يعيشون لحظة بلحظة.
(4) ونحن نتوسل إلى اللَّه أن "يعطيه" إيانا... يعطيه لنا منحة. إن أعظم الناس يجب أن يشعروا أنهم مدينون للَّه بخبزهم اليومي.
(5) ونحن نبتهل إلى اللَّه أن يمنحه "لنا" فأنني لا أقول "أعطني" أنا وحدي، بل "أعطنا" أي لي وللآخرين أيضًا، وهذه تعلمنا الشفقة بالفقير والمحتاج والعطف عليهما.
(6) ونحن نبتهل أن يعطينا اللَّه إياه " اليوم"، وهذه تعلمنا أنه كلما تحددت حاجات أجسادنا وجب أن تتجدد رغبات أنفسنا نحو اللَّه... إن كنا لا نستطيع أن نسير يومًا واحدًا بدون طعام فنحن لا نستطيع أن نسير يومًا واحدًا بدون صلاة" (673).
4ــ يتساءل البعض: ما دام اللَّه يعلم احتياجاتنا فلماذا نطلبها؟ قال السيد المسيح: "لأَنَّ أَبَاكُمْ يَعْلَمُ مَا تَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ قَبْلَ أَنْ تَسْأَلُوهُ" (مت 6: 8)، وكذلك: "فَلاَ تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ مَاذَا نَأْكُلُ أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ. فَإِنَّ هذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا الأُمَمُ. لأَنَّ أَبَاكُمُ السَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هذِهِ كُلِّهَا" (مت 6: 31، 32)، وفي هذه لم يُنهي السيد المسيح عن طلب الاحتياجات المادية، بل قال في الأصحاح التالي: "اِسْأَلُوا تُعْطَوْا. اُطْلُبُوا تَجِدُوا. اِقْرَعُوا يُفْتَحْ لَكُمْ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ يَسْأَلُ يَأْخُذُ وَمَـنْ يَطْلُبُ يَجِدُ وَمَنْ يَقْرَعُ يُفْتَحُ لَهُ" (مت 7: 7، 8)، والكنيسة تصلي في القداس الإلهي من أجل الفقراء والغرباء والأيتام والأرامل، بل والمياه والهواء وأهوية السماء والزروع... إلخ.
ويقول "القديس أغسطينوس": "يحتاج الجاهل إلى كلمات كثيرة ليتعلم ويتثقف، ولكن ما حاجة اللَّه إلى مثل هذه الكلمات وهو العالِم بكل شيء؟! فكل الأمور الماضية والمستقبلة لا تختفي عن معرفته وحكمته، بل هيَ ماثلة أمامه...
إن كان رب المجد يعلمنا أن نُصلي بكلمات قليلة، فعلمنا الصلاة الربانية، فما هيَ الحاجة إليها طالما هو يعلم بكل الأمور قبل كونها، ويعلم ما نحتاج إليه قبل أن نسأله؟ ما الحاجة للصلاة كلية، سواء أكانت بالفكر أو باللسان، ما دام اللَّه يعلم ما نحتاج إليه قبل أن نسأله، اللهم إلاَّ إذا كان في مجرد وقوفنا للصلاة ما يهدي قلوبنا وينقيها ويجعلها أكثر استعدادًا لقبول عطايا اللَّه الروحية التي تتدفق علينا، فاللَّه مستعد أن يُعطي على الدوام نوره العقلي الروحي، لكننا نحن غير مستعدين دومًا لقبول هذا النور، وذلك بسبب محبتنا للأمور الزمنية، وبسبب ظلمتنا النابعة من إشتهائنا للزمنيات. ومن ثم وجب علينا أن نسعى للصلاة، حتى ترتفع قلوبنا إلى الرب المستعد على الدوام أن يعطينا، إن أردنا أخذ ما يعطيه إيانا"(674).
ويقول "بنيامين بنكرتن": "ربما يقول قائل: ولماذا لا يعطينا بغير صلاة؟ فأقول أنه قد عيَّن هذه الطريقة لكي يمنحنا بها، ويربي فينا العواطف الناتجة عن روح البنوة، وهيَ الدالة والثقة، ويُحقّق لنا أنه يحبنا ويعتني بنا في كل أحوالنا. لأننا عندما نرى أجوبة مؤكدة من عنده، نزداد ثقة فيه. لكن لو باركنا بغير صلاة، لكنا نتمتع بخيراته بدون أن نعرفه"(675).
ويقول "الدكتور القس منيس عبد النور": "ألا يعلم اللَّه كل احتياجاتنا؟ فلماذا إذًا نستمر في تكرار الطلب والتضرع إليه؟ الرد هو أن المسيح يعلمنا أنه من الخطأ أن نظن أن كثرة الكلام تزيد اللَّه علمًا باحتياجاتنا، فمن هذا القبيل لا حاجة إلى الكلام مطلقًا، لأن اللَّه يعلم كل احتياجاتنا قبل أن نعرفها نحن. ولكن في (1تس 5: 17) يتكلم بولس عن حالة القلب، فيحضنا أن نحيا دائمًا في جو الصلاة، فنفتكر عن اللَّه وننشغل به كما يفعل الطفل من جهة أبويه. فيجب أن نرغب على الدوام في بسط كل مسائلنا ومشاكلنا أمامه، والانقياد على الدوام بكلمته وروحه"(676).
_____
(669) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص154.
(670) الكتاب المقدَّس - العهد الجديد - مطبعة دار المشرق بيروت 1991م ص52.
(672) سنوات مع أسئلة الناس - أسئلة خاصة بالكتاب المقدَّس ص100 - 102.
(673) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير الكتاب المقدَّس - تفسير إنجيل متى جـ 1 ص185، 186.
(674) ترجمة القمص تادرس يعقوب - الموعظة على الجبل ص173، 174.
(675) تفسير إنجيل متى ص96، 97.
(676) شبهات وهمية حول الكتاب المقدَّس ص296.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/279.html
تقصير الرابط:
tak.la/3zsak48