س278: في طلبة: "لِيَأْتِ مَلَكُوتكَ" (مت 6: 10) ما المقصود بالملكوت؟ وإن كان ملكوت اللَّه في السماء فقط، وقال السيد المسيح: "مَمْلَكَتِي لَيْسَتْ مِنْ هذَا الْعَالَمِ" (يو 18: 36) فلماذا نُصلي ونطلب: "لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ"؟ وهل يمكن أن مشيئة اللَّه تنفذ على الأرض كما هيَ نافذة في السموات؟
ج: 1ــ المعنى اللغوي لكلمة "ملكوت اللَّه" في اللغة العبرية "مالكوت" وفي اللغة الأرامية "مالكوتا"، وتعني سلطان اللَّه وحكمه. وفي اللغة اليونانية "فاسيليا" وتعني مملكة أو ملكوت، وملكوت اللَّه منذ الأزل والآن وإلى الأبد، ففي العهد القديم يشير ملكوت اللَّه إلى: "حكم اللَّه وسلطانه الشامل وسيادته على الناس والأمم والزمن في الماضي والحاضر والمستقبل، أي التاريخ، الذي يحدد مساره ويحقّق فيه إرادته، والطبيعة، والكون كله، في السماء وعلى الأرض، فهو خالق الكون ومدبره والمهيمن عليه" (موقع أبونا - يصدر من المركز الكاثوليكي للدراسات والأعلام - الأردن - رئيس التحرير الأب رفعت بدر).
وقديمًا قال داود النبي عن هذا الملكوت: "يَحْمَدُكَ يَارَبُّ كُلُّ أَعْمَالِكَ وَيُبَارِكُكَ أَتْقِيَاؤُكَ... مُلْكُكَ مُلْكُ كُلِّ الدُّهُورِ وَسُلْطَانُكَ فِي كُلِّ دَوْرٍ فَدَوْرٍ" (مز 145: 10، 13)، وقال دانيال النبي: "لِيَكُنِ اسْمُ اللَّه مُبَارَكًا مِنَ الأَزَلِ وَإِلَى الأَبَدِ لأَنَّ لَهُ الْحِكْمَةَ وَالْجَبَرُوتَ. وَهُوَ يُغَيِّرُ الأَوْقَاتَ وَالأَزْمِنَةَ. يَعْزِلُ مُلُوكًا وَيُنَصِّبُ مُلُوكًا" (دا 2: 20، 21). أما في العهد الجديد فقد وردت كلمة " مَلَكُوتُ اللَّهِ" أو " مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ" نحو 125 مرة، وأوضح السيد المسيح أن المقصود بملكوت اللَّه حكمه وسلطانه الإلهي: "وَلكِنْ إِنْ كُنْتُ بِأَصْبعِ اللَّه أُخْرِجُ الشَّيَاطِينَ فَقَدْ أَقْبَلَ عَلَيْكُمْ مَلَكُوتُ اللَّهِ" (لو 11: 20)، وهو ملكوت روحي لا يعتمد على السيف والرمح، وكثيرًا ما تحدث السيد المسيح عن ملكوت اللَّه بأمثال للشعب، وفسَّرها لتلاميذه قائلًا: "لأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ" (مت 13: 11)، والآن ملكوت اللَّه يشمل الطغمات السمائية وأيضًا قلوب المؤمنين بأسمه القدوس، دون الشياطين والأشرار (عب 2: 8)، ولكن في المجيء الثاني يعم مُلكه حيث: "تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَــنْ تَحْــتَ الأَرْضِ" (في 2: 10).
2ــ بالتجسد حلَّ ملكوت السموات على الأرض، ولذلك كان محور كرازة السابق الصابغ: "تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ" (مت 3: 2)، وبعد أن قبض عليه هيرودس الملك: "مِنْ ذلِكَ الزَّمَانِ ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَكْرِزُ وَيَقُولُ تُوبُوا لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ" (مت 4: 17).. " وَلَمَّا سَأَلَهُ الْفَرِّيسِيُّونَ مَتَى يَأْتِي مَلَكُوتُ اللَّه أَجَابَهُمْ وَقَالَ لاَ يَأْتِي مَلَكُوتُ اللَّه بِمُرَاقَبَةٍ. وَلاَ يَقُولُونَ هُـوَذَا ههُنَا أَوْ هُوَذَا هُنَاكَ لأَنْ هَا مَلَكُوتُ اللَّه دَاخِلَكُمْ" (لو 17: 20، 21). ونحن نُصلي " لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ" أي أن اللَّه يملك على قلوبنا ومشاعرنا وأفكارنا وأعمالنا وكل حياتنا، نحن وجميع أخوتنا، سواء على المستوى الفردي، أو على مستوى الكنيسة ككل.
ويبدأ الملكوت السمائي هنا على الأرض، حتى أن من لم يبدأ الملكوت في حياته هنا فلن يكون له نصيب في الأبدية السعيدة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ويقول "الخوري بولس الفغالي": "الملكوت الأسكاتولوجي، ملكوت الأزمنة الأخيرة، هو حاضر هنا، وقد أُعطي منذ الآن واقعه الديني كما في آخر الأزمنة، ولكنه أُعطي كنبتة، كبذار متواضع، ينمو على مهل وشكل تدريجي إلى أن يصبح شجرة كبيرة، أو هو مثل خمير وضعته امرأة في العجين فخمَّر العجين كله، فالملكوت الذي أُعطي منذ الآن في المسيح، فينتظر وقت كماله النهائي حين يأتي المسيح في المجد، إلى هذا المجيء الأخير توجه الصلاة الربية أنظارنا، ونحن نصلي من أجل هذا الملكوت" (665).
وعندما نصلي: "لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ" فنحن نصلي من أجل إنتشار البشارة بملكوت اللَّه: "اِهْتِفِي ِللهِ يَاكُلَّ الأَرْضِ... كُلُّ الأَرْضِ تَسْجُدُ لَكَ وَتُرَنِّمُ لَكَ... بَارِكُوا إِلهَنَا يَا أَيُّهَا الشُّعُوبُ" (مز 66: 1 - 8)، لأن: "لِلرَّبِّ الأَرْضُ وَمِلْؤُهَا. الْمَسْكُونَةُ وَكُلُّ السَّاكِنِينَ فِيهَا" (مز 24: 1). ويقول "القديس أغسطينوس": "المعنى الصحيح له (لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ) هو أنه ليُعلَن ملكوتك للبشر، مثال ذلك النور الذي يبدو للأعمى والذي يغمض عينيه كما لو كان غير موجود. هكذا يبدو هذا الملكوت غير واضح لمن يجهلونه"(666).
3ــ نحن نصلي " لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ" من أجل نفاذ مشيئة اللَّه الصالحة بالنسبة لنا وبالنسبة للآخرين " كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ" (مت 6: 10) أي أعطنا يارب أن نطيع وصاياك ونسير حسب إرادتك ونسرع بتنفيذ مشيئتك مثل السمائيين، فإرادتك ومشيئتك يا رب نافذة وسريعة في السماء، فجميع صفوف السمائيين على أهبة الإستعداد لسماع أوامرك كقول المرنم: "بَارِكُوا الرَّبَّ يَامَلاَئِكَتَهُ الْمُقْتَدِرِينَ قُوَّةً الْفَاعِلِينَ أَمْرَهُ عِنْدَ سَمَاعِ صَوْتِ كَلاَمِهِ" (مز 103: 20). ونحن نصلي أيضًا: "لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ" نطلب لكيما تنفُذ مشيئة اللَّه لا مشيئتنا، وأمامنا المثال الأسمى لهذه الصلاة هو صلاة الرب يسوع في جثسيماني: "لَيْسَ كَمَا أُرِيدُ أَنَا بَلْ كَمَا تُرِيدُ أَنْتَ" (مت 26: 39).
والحقيقة أن عبارة: "كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ" تنتهي ضمنًا بالطلبات الثلاث، أي:
لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ. كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ.
لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ. كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ.
لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ. كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ.
فمن جانب نرى الطلبتان الأولى والثالثة تُحيطان بالثانية الخاصة بالملكوت، أي ليتقدس اسمك يا رب، ولتكن مشيئتك يا رب، لكيما يتم ملكوتك على الأرض فينا وبنا، ومن الجانب الآخر فأنه لكيما ينتشر ملكوت اللَّه يجب أن نقدَّس اسمه، وننفِذ مشيئته، وملكوت اللَّه هو عطية الآب السماوي لنا: "لاَ تَخَفْ أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ" (لو 12: 32)، بل أن الملكوت هو المسيح ذاته، فالوجود في حضرته هو الوجود في الملكوت.
ويقول "القديس أغسطينوس": "أـ فكما تعمل إرادتك في الملائكة سكان السماء، حتى أنهم ملتصقون بك تمامًا ويتمتعون بك كلية، ولا تشوب حكمتهم خطأ، ولا يمس سعادتهم شقاءً، هكذا لتكن إرادتك أيضًا في قديسيك قاطني الأرض... فعندما تسير إرادتنا وفق إرادة اللَّه، حينئذ تكمل إرادته فينا، كما هيَ كاملة في الملائكة السمائيين...
ب - يمكن أيضًا فهم هذه الطلبة على أننا نطلب أن تُطاع وصايا اللَّه كما في السماء كذلك على الأرض، أي كما تطيع الملائكة وصايا اللَّه هكذا فليطعها البشر أيضًا"(667).
ويقول "الخوري بولس الفغالي": "وكما أن اللَّه يتقدَّس إذ نحن انفتحنا على فيض قداسته. وكما أن الملكوت يتحقَّق بقدر ما نتقبله فعلًا في قلوبنا، هكذا تتم مشيئة اللَّه الخلاصية إذ صارت هذه المشيئة مشيئتنا في التعلق باللَّه والطاعة له. ولا يدخل الملكوت إلاَّ الذين يعملون مشيئة اللَّه (مت 7: 21، 21: 31).. وبمختصر الكلام، يطلب المسيحي أن تتم مشيئة الآب الخلاصية، وهو يحاول أن يتوافق مع هذه المشيئة في الصلاة والطاعة" (668).
_____
(665) دراسات بيبلية - 14 - إنجيل متى جـ 1 ص324.
(666) ترجمة القمص تادرس يعقوب - الموعظة على الجبل ص181.
(667) ترجمة القمص تادرس يعقوب - الموعظة على الجبل ص182، 183.
(668) دراسات بيبلية - 14ــ إنجيل متى جـ1 ص326.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/278.html
تقصير الرابط:
tak.la/b82pvcf