س271: هل أقرَّ السيد المسيح السخرة وحض عليها، متغاضيًا عن العدل الإلهي، بقوله: "وَمَنْ سَخَّرَكَ مِيلًا وَاحِدًا فَاذْهَبْ مَعَهُ اثْنَيْنِ" (مت 5: 41)، ثم كيف يأمرنا أن نعطي كل من يسألنا بدون تمييز (مت 5: 42)، فعوضًا عن مساعدة المحتاجين نفتح الباب للمحتالين؟ وكيف يمكن أن يعطي الإنسان بلا حدود في عصر سادت فيه الماديات؟
ج: 1ــ في زمن الإمبراطورية الفارسية كان هناك نظام بريدي مُحكم تسلمته من الإمبراطورية البابلية، وكانت رحلة البريد تقسم إلى مسيرات، كل منها تمثل مسيرة الخيل ليوم واحد يقطعها ساعي البريد، وفي نهايتها يجد استراحة وطعامًا له وللخيل، ويسلم البريد لساعي آخر، فلو وصل أحد السعاة إلى محل الاستراحة ولم يجد التسهيلات، فقد أعطاه القانون الحق في أن يسخر أي إنسان يلقاه ليطعمه ويسقه ويطعم خيله، وفي عصر الإمبراطورية الرومانية التي عاش السيد المسيح في ظلالها كان القانون الروماني يسمح للجندي أن يُسخّر أي إنسان لا يحمل الجنسية اليونانية ليساعده أو يحمل معه حملًا لمسافة لا تزيد عن ميل واحد، وبنفس القانون سخَّر الجنود الرومان سمعان القيرواني ليحمل خشبة الصليب، عوضًا عن المسيح الذي إنهارت قواه الجسدية، حتى وصل بها إلى مكان الجلجثة (مر 15: 21). إذًا السيد المسيح عاش في مجتمع مارس أعمال السخرة، ولم يأتِ المسيح ثائرًا اجتماعيًا ضد الاحتلال الروماني ومساوءه، إنما جاء ليمنح الإنسان الحرية الداخلية من سلطان الموت والخطية والشيطان وحينئذ ينصلح حال المجتمع بقدر قبوله وصاياه. إذًا الإنسان اليهودي كان معرَّضًا للتسخير سواء شاء أم أبى، فعوضًا أن يعيش في حالة من الحقد والغل والغضب المكبوت على من سخَّره، أراده السيد المسيح أن يؤدي هذا العمل بإرادته واختياره، والدليل على هذا استعداده لمسيرة الميل الثاني.
ويقول "مستر جورج إسوان": "المسيح أوصى تلاميذه بأن يخضعوا لمطاليب المسخرين ويزيدوا عليها، فلا يكتفوا بإجابة طلب المسخّر في ميل واحد، بل أن يسيروا معه ميلًا آخر. هذه أسمى درجات الحكمة. لأن استعدادهم للسير هذا الميل الثاني مع مسخّريهم، يزيل عن مرارة سخرة الميل الأول، فالميل الثاني يجعلهم مُضطَهدين لا مُسخَّرين في الميل الأول. فما أجمل وما أحكم إنجيل الميل الثاني!!" (639).
وقبل عصر الشريعة نفذ يوسف إنجيل الميل الثاني، فعندما أرسله والده إلى شكيم ليسأل عن سلامة أخوته ولم يجدهم، لم يعد أدراجه، إنما سأل عليهم وبحث عنهم، حتى علم أنهم تركوا شكيم إلى دوثان، فأكمل رحلته إلى دوثان، تلك الرحلة التي انتهت به ليصير الرجل الثاني في مصر وينقذ العالم من المجاعة، حتى دعاه فرعون: "صفنات فعنيح" أي مخلص العالم (يُرجى الرجوع إلى كتاب إنجيل الميل الثاني للقمص بيشوي كامل).
2ــ قال السيد المسيح: "مَنْ سَأَلَكَ فَأَعْطِهِ وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَقْتَرِضَ مِنْكَ فَلاَ تَرُدَّهُ" (مت 5: 42) ولم يقل قط أفعل ذلك "بدون تمييز" كما قال الناقد، فالسيد المسيح يخاطب إناسًا يعقلون ويدركون ويميّزون ويفهمون ويعلمون أنه لم يُقصَد قط أن نعطي بلا تمييز... فهل لو طلب منا إنسان مالًا ليصرفه على الخمور والمخدرات، ونحن نعلم ذلك، هل نعطيه ما سأله تطبيقًا لهذا الوصية؟! بالقطع لا، فلا ينبغي أن تتحوَّل الفضيلة إلى رذيلة، فلابد من روح الحكمة والإفراز، بل أن كل فضيلة تخلو من روح الإفراز تتحوَّل إلى رذيلة، وهل لو سألنا إنسان محتال متكاسل متواكل، هل نعطيه ما سأله بحجة هذه الوصية؟ كلا، لأن الكتاب قال أيضًا: "إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ أَنْ يَشْتَغِلَ فَلاَ يَأْكُلْ أَيْضًا" (2 تس 3: 10)، وهل إذا سألنا إنسان لص نعطه ما سأله؟ كلاَّ، لأن الكتاب قال: "لاَ يَسْرِقِ السَّارِقُ فِي مَا بَعْدُ بَلْ بِالْحَرِيِّ يَتْعَبُ عَامِلًا الصَّالِحَ بِيَدَيْهِ لِيَكُونَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ لَهُ احْتِيَاجٌ" (أف 4: 28).
وقد يتساءل البعض: كيف يستطيع الإنسان أن يعطي كل من يسأله بلا حدود في زمن سادت فيه الماديات؟ إن كانت هذه الوصية مفتوحة لا حدود لها، لكن كل إنسان حسب طاقته وحسب قامته الروحية، فقال الكتاب: "فَإِذًا حَسْبَمَا لَنَا فُرْصَةٌ فَلْنَعْمَلِ الْخَيْرَ لِلْجَمِيعِ وَلاَ سِيَّمَا لأَهْلِ الإِيمَانِ" (غل 6: 10)، ويقول "وليم ماكدونالد": "إن إنشغالنا بالخيرات المادية والممتلكات، يجعلنا نتراجع عن فكرة التنازل عما إمتلكناه، ومع ذلك، فبإمكاننا أن نأخذ هذا التعليم بشكل حرفي إذا كنا مستعين للتركيز على الكنوز التي لنا في السماء والإكتفاء بالقوت والكسوة الضروريين فقط. وقول يسوع هذا يفترض مسبَّقًا أن الإنسان الذي يطلب المساعدة لديه حاجة حقيقية ومشروعة في كل الحالات، فمن الأفضل (كما قال أحدهم) " مساعدة العديد من الشحاتين المحتالين على المخاطرة برد واحد له حاجة حقيقية ". مثل هذا السلوك الذي يدعو الرب إليه هنا مستحيل من وجهة النظر البشرية، لكن الإنسان الذي يعيش تحت سيطرة الروح القدس هو فقط الذي يقدر أن يحيا حياة التضحية من أجل الآخرين" (640).
ويقول "بنيامين بنكرتن": "لا يُخفى أن كثيرين يقتبسون من أقوال الرب قولًا مثل هذا الذي نحن بصدده، ليس بقصد الاستفادة منه، بل ليدللوا منه على عدم إمكانية العمل بمثل هذه الوصايا زاعمين أننا إذا حاولنا أن نسك بموجبها فلابد أن نفرق كل ما عندنا من المال في أقرب وقت، إذ سيجتمع علينا المحتاجون حالًا، بل والمحتالون أيضًا، ويأخذون كل أموالنا بموجب أمر الرب فأقول، طوبى للعبد الذي قد عرف أنه هو وماله للرب الذي اشتراه، والذي لو أمره سيده بتفريق ماله لا يسوء ذلك في عينه. لأن الفقر الناتج عن ذلك مغبوط (2 كو 8: 9). ولأن وصايا الرب في شأن العطاء كسائر وصاياه ليست ثقيلة إلاَّ مع قليل المحبة له (1 يو 5: 3، يو 14: 15، 23، 24)" (641).
_____
(639) المرشد الأمين في شرح الإنجيل المبين جـ 1 شرح بشارة متى ص69، 70.
(640) تفسير الكتاب المقدَّس - العهد الجديد جـ 1 ص54.
(641) تفسير إنجيل متى ص89.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/271.html
تقصير الرابط:
tak.la/htg65mz