س247: هل انتشرت المسيحية بين الأدنياء من العبيد والفقراء بعيد عن السادة الأغنياء والأقوياء؟ وهل الموعظة على الجبل (مت 5 - 7) هيَ شريعة النفوس الضعيفة التي تدعوا للخضوع والخنوع والاستكانة، فهيَ تعبّر عن أخلاقيات العبيد كقول فريدريك نيتشه؟ أم أنها تعاليم مثالية يستحيل ممارستها في الحياة العملية؟
يقول "الدكتور القس صموئيل حبيب": " قال نيتشة أن الموعظة على الجبل تشجع أخلاقيات العبيد، وبالتالي تقلل من قدر الإنسان" ( Wilder. op. cit. p162 b )" (508).
وقال "شارل جينبير": " كان دعاة المسيحية الأول أناسًا من صغار القوم، فاتجهوا بادئ الأمر إلى أمثالهم من طبقات المجتمع الدنيا. والواقع أن عقيدتهم - وهيَ الداعية إلى الصبر والمساواة والتآخي - لم تكن لتحظى بأكبر قسط من القبول المُطلق إلاَّ لدى هذه الطبقات. ولكن علينا ألا نغالي في الادعاء، فقد بشر بولس وأتباعه بالمسيحية في أوساط المريدين لليهودية، ولم يكونوا جميعًا من الطبقات الدنيا، بل عُدَّ في صفوفهم نساء من علية القوم، ولا نشك أنه قد إنضم إليهم أيضًا رجال من ذوي النفوذ والثراء، والكثير من الدلائل يشير إلى بعضهم آمن واعتنق المسيحية. غير أنه من الثابت لدينا أن النبلاء من الناس، ذوي الشأن بينهم لم يشكلوا قط سوي أقلية قليلة في إطار الكنيسة... أما العبيد والعمال فكانوا "الرصيد" الأكبر لها.." (509).
ج: 1- هل المسيحية انتشرت بين الأدنياء من العبيد والفقراء؟ منذ بدأت المسيحية وجدت طريقها لجميع طبقات المجتمع العبيد والسادة، الفقراء والأثرياء، فمن تلاميذ المسيح متى العشار وكان غنيًا بدليل الوليمة التي صنعها للرب يسوع ودعى أصدقائه من العشارين، وكان يعقوب ويوحنا ابني زبدي لديهم مركب للصيد وأجراء يعملون معهم، والتف حول المسيح بعض الأغنياء مثل نيقوديموس ويوسف الرامي الذي قال عنه الإنجيل: " رَجُلٌ اسْمُهُ يُوسُفُ وَكَانَ مُشِيرًا" (لو 23: 50) وكليهما كان من أعضاء مجمع السنهدريم، وكان والد مرقس لديه بيت يعلوه عِلِّيَّة متسعة وله بستان خارج المدينة، وكانت هناك نساء غنيات قال عنهن الإنجيل: "وَيُوَنَّا امْرَأَةُ خُوزِي وَكِيلِ هِيرُودُسَ وَسُوسَنَّةُ وَأُخَرُ كَثِيرَاتٌ كُنَّ يَخْدِمْنَهُ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ" (لو 8: 3)، وكثيرًا من الأغنياء آمنوا بالمسيحية، ففي اليوم الأول لولادة الكنيسة آمن ثلاثة آلاف، وليس من المعقول أن يكونوا جميعًا من المعدمين، بل كانت نسبة الفقراء والعبيد فيهم ضئيلة، لأن الكثيرين منهم من المقتدرين الذين جاءوا من بلاد ودول أخرى ليشاركوا في احتفالات عيد الفصح وعيد الخمسين، وكان القديس برنابا غنيًا يمتلك حقلًا، باعه ووضع ثمنه عند أرجل الرسل، بل قال سفر الأعمال: " كُلَّ الَّذِينَ كَانُوا أَصْحَابَ حُقُول أَوْ بُيُوتٍ كَانُوا يَبِيعُونَهَا وَيَأْتُونَ بِأَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ. وَيَضَعُونَهَا عِنْدَ أَرْجُلِ الرُّسُلِ" (أع 4: 34، 35)، ولم يكن بولس الرسول من المعدمين، وخدم معه فريق كان منهم لوقا طبيبًا، وفليمون سيدًا، وآمنت على يديه ليديا بائعة الأرجوان، وفي رسائله أوصى بولس الرسول السادة من أهل أفسس وأهل كولوسي قائلًا: " وَأَنْتُمْ أَيُّهَا السَّادَةُ افْعَلُوا لَهُمْ هذِهِ الأُمُورَ تَارِكِينَ التَّهْدِيدَ، عَالِمِينَ أَنَّ سَيِّدَكُمْ أَنْتُمْ أَيْضًا فِي السَّمَاوَاتِ وَلَيْسَ عِنْدَهُ مُحَابَاةٌ" (أف 6: 9).. " أَيُّهَا السَّادَةُ قَدِّمُوا لِلْعَبِيدِ الْعَدْلَ وَالْمُسَاوَاةَ" (كو 4: 1)، وكثير من شهداء المسيحية منذ القرن الأول كانوا من الأغنياء.
وتلك العظة التي قال عنها بعض النُقَّاد أنها تدعو للخضوع والخنوع والإستكانة، هيَ عظة في منتهى القوة، وقد غيَّرت وجه التاريخ، فقهرت قوة الرومان، وفلسفة اليونان، وعزّت العالم كله بروح الحب وانتشرت وأضاءت المسكونة... أنها درر ثمينة نطق بها الإله المتجسّد فاحتفظ بها التاريخ في أنصع صفحاته، فأنارت الذهن البشري من جيل إلى جيل، حتى قال عنها البعض أنها الشريعة السامية التي تفوق مستوى الطبيعة البشرية، لأنهم لم يدركوا أن اللَّه عندما أعطانا هذه الوصايا وهبنا القوة لتنفيذها. كما أن ملايين النفوس التي عاشت بهذه الوصايا وأكملت جهادها خير دليل على بطلان هذا الإتهام الموجه لهذه العظة، فبقوة الصفح وعظمة المغفرة هدموا جبال الحقد والكراهية.
2- لا يخفى على أحد مدى عداء نيتشه للَّه وللمسيحية وللكنيسة، وقد دعى نفسه تارة بديونسيوس المصلوب، وتارة بضد المسيح، وتارة باللَّه، وكان يُمهر رسائله بتوقيع ديونسيوس، وأحيانًا المصلوب، وأحيانًا بعدو المسيح، وكثيرًا ما كان يبتدر أصحابه بالتحية: " كونوا سعداء، لقد تنكرت بهذا الزي، ولكني أنا اللَّه" (510)، ونيتشه هو صاحب مقولة: " لقد مات اللَّه"، واعتبر أن الإيمان بوجود إله يُعد تحقيرًا للحياة وإزدراء بالعالم وهروبًا من المسئوليات المُلقاة على عاتق الإنسان، وهاجم المسيحية قائلًا: " لقد كانت المسيحية حتى اليوم البلية المشئومة الأكبر ضد البشرية" (511)، واعتبر المسيحية هيَ الفساد الأكبر، واللعنة الكبرى، واللطخة الأبدية فوق البشرية، والرذيلة، والتاريخ الملعون، واعتبر أن ألفاظ "اللَّه"، و"المخلص"، و"الفادي" تُستعمل كسبة وكتمييز للمجرمين (راجع جورج ميخائيل ديب - نيتشه عدو المسيح ص186، 188).
ورأى نيتشه في الأخلاق المسيحية أنها أخلاق العبيد، وأن الموعظة على الجبل تشمل أخلاقيات العبيد، لأنها تحط من قدر الإنسان، وقال "الدكتور لويس عوض" عن نيتشه: "من فرط خشيته أن يكون قديسًا أثر أن يكون شيطانًا. وقد كان نيتشه شيطانًا بالفكر"(512).. " لذلك تدور أكثر كتابات نيتشه حول فكرة واحدة وهيَ تحرير الإنسانية من الأخلاق المسيحية... فالأخلاق كلمة لا معنى لها إلاَّ في قاموس العبيد، والفضيلة عُملة يشتري بها الضعفاء السعادة في الحياة الدنيا أو في الدار الآخرة" (513). وبسبب أفكار نيتشه الهدامة خسر أصدقاؤه الواحد تلو الآخر، حتى انفضوا من حوله، فكتب يقول: " إنني أشتاق إلى الكائنات البشرية وأبحث عنهم، لكني دائمًا أجد نفسي فقط... لم يعد أحد يأتي إليَّ، وقد ذهبت إليهم جميعًا ولم أجد أحدًا".. " الآن لم يعد أحد يحبني، فكيف أستمر في حبي للحياة؟".. " آه لو كان في استطاعتي إعطاؤك فكرة عن إحساسي بالوحدة، فلست أجد من بين الأحياء ولا الأموات من أحسُّ بأن بيني وبينه شبهًا وقرابة. وهذا مُخيف، مُخيف جدًا جدًا" (514) (راجع كتابنا: رحلة إلى قلب الإلحاد جـ1... بذار ورجال ص147 - 186).
3- لا أحد يستطيع أن يُنكر فضل المسيحية على الحضارة الإنسانية من جهة المرأة والأطفال والعبيد والأسرة والمجتمع والأخلاق والفنون والموسيقى واللغة والتعليم والعلوم والعمارة وحقوق الإنسان والقانون... إلخ.، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. والعظة على الجبل تُعبّر عن عمق وجمال المبادئ المسيحية الراقية التي وجدت قبولًا لدى النفوس النبيلة سواء من الفقراء أو الأغنياء، العبيد أو السادة، فأحد العبيد الهاربين من أسيادهم كان أنسيموس الذي التقى مع بولس الرسول فصار أسقفًا قديسًا... هذه الموعظة هيَ خطاب العرش الذي ألقاه رب المجد يسوع فوق الجبل، فهيَ دستور الملكوت السمائي، فلم توجد موعظة أثرت في الفكر البشري على مدار التاريخ كله مثل هذه الموعظة، فقد حوت القواعد الاسترشادية التي تعين النفوس السائرة في دروب الملكوت.
قال "القديس أغسطينوس" عن الموعظة على الجبل: " من أراد أن يقرّظ عظة المسيح على الجبل كما جاءت في إنجيل ق. متى بصبر وإحساس من التقوى فسيجد فيها أعلى الأخلاقيات وأكمل مستوى للحياة المسيحية" (515). كما يقول "القديس أغسطينوس" أيضًا: "فالعظة كاملة من حيث شمولها جميع الوصايا التي توجه الحياة. لهذا قال الرب: " فَكُلُّ مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هذِهِ وَيَعْمَلُ بِهَا أُشَبِّهُهُ بِرَجُل عَاقِل بَنَى بَيْتَهُ عَلَى الصَّخْرِ. فَنَزَلَ الْمَطَرُ وَجَاءَتِ الأَنْهَارُ وَهَبَّتِ الرِّيَاحُ وَوَقَعَتْ عَلَى ذلِكَ الْبَيْتِ فَلَمْ يَسْقُطْ لأَنَّهُ كَانَ مُؤَسَّسًا عَلَى الصَّخْرِ ".. إذ لم يقل الرب: " مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي " فقط، بل أضاف " مَنْ يَسْمَعُ أَقْوَالِي هذِهِ ويَعمَلْ بها "، لذلك أظن أنه أشار بما فيه الكفاية إلى أن هذه العظة التي نطق بها على الجبل تقود الراغبين في السلوك بموجبها إلى حياة الكمال" (516). وبالرغم من أن " رينان " كان مُلحدًا إلاَّ أنه مدح هذه العظة وقال أنه لا يضاهيها قول ولا يسمو فوقها تعليم، وأوصى قبل موته بأسبوعين أن يُكتَب على قبره: " أيها السيد الرب أنا أؤمن ولكن أعن عدم إيماني. لقد أكد لي قلبي أن إنجيل يسوع المسيح يتحتم أن يكون عملًا إلهيًا، وعظة الجبل فيه مُحال أن تكون عمل إنسان، وهذا هو إيماني الذي نبع من عمق ضميري، وكل التاريخ يثبت ذلك (15 أكتوبر 1852)" (517). وقال الزعيم الهندي "المهاتما غاندي": " إن الكتاب المقدَّس هو تاج الكتب والموعظة على الجبل درة في هذا الكتاب".
ويقول "الأب متى المسكين": " إن عظة الجبل عند ق. متى هيَ أولًا وأخيرًا لمواطن الملكوت! الإنسان النازح من الأرض نحو اللَّه يطلب وجهه" (518).
ويقول "الدكتور القس صموئيل حبيب": " والموعظة، كلمات المسيح ألقاها قطعًا أدبية جميلة. بعضها شعر، وبعضها نثر، واحتوت الموعظة على روعة اللغة، ولباقة الدراسة والفن، وعُمق الفكر... ومن خلال المعرفة الكاملة للسيد المسيح بالعهد القديم، وتحليله اللاهوتي، ونصائحه العملية في الحياة البشرية، قدم المسيح فكره وتعليمه، تاجًا جديدًا، يُكمل التعليم القديم إلى درجة الكمال...
كان السيد المسيح واضحًا في حديثه، وكان جذابًا، يستهوي الجماهير، وكانت الجماهير تتبعه لأنها تجد متعة في أقواله، كما تجد فيها حياة لذاتها... هذا هو المسيح يسوع الذي صنع التاريخ، ومن أقواله، ما غيَّر مجريات الأمور، لا في العصر الذي جاء فيه فحسب، وإنما في كل العصور التالية، فرسالته هيَ رسالة كل العصور" (519).
وقال الصحفي الشهير "إبراهيم عيسى" في برنامج "القاهرة والناس" بمناسبة عيد القيامة نحو عام 2017م: " عظة الجبل هيَ واحدة من أعظم ما يمكن أن تسمعه أو تقرأه في حياتك... هيَ تعاليم وخلاصة نبويَّة إلهيَّة كاشفة لعمق النفس الإنسانية كلها، مسلميها قبل مسيحييها... (يا ليتهم) يتكشفوا أنوار هذه العظة، عظة الجبل المُدرَك الأعلى في الرسالة الإلهيَّة... هذه الروعة العظيمة المُبدِرة للحكمة الخالصة الشافية الصافية... مفتاح لفهم النفس البشرية... نحن في حاجة ماسة أن نستلهم هذه المبادئ وهذه التعاليم لأننا أبعد ما نكون عنها الآن... نور هذه الكلمات في عظة الجبل!!". وفي س262 ستجد يا صديقي أقوالًا رائعة سجلها الأديب الكبير "عباس محمود العقاد" عن موعظة الجبل في كتابه: "حياة المسيح في التاريخ وكشوف العصر الحديث" ص142، 143، 148.
_____
(508) الموعظة على الجبل شريعة أم طريق حياة؟ ص99.
(509) المسيحية نشأتها وتطورها - تقديم الإمام عبد الحليم محمود ص155.
(510) أورده بولس سلامة - الصراع مع الوجود ص217.
(511) أورده عبد الرحمن بدوي - نيتشه ط 1939م ص148.
(512) أورده القمص بولس عطية - دراسات في علم اللاهوت ص161.
(513) أورده عبد الرحمن بدوي - نيتشه ط 1956م ص84.
(514) المرجع السابق ص75.
(515) أورده الأب متى المسكين - الإنجيل بحسب القديس متى ص208.
(516) ترجمة القمص تادرس يعقوب - الموعظة على الجبل ط 1962 ص40، 41.
(517) أورده الأب متى المسكين - الإنجيل بحسب القديس متى ص209.
(518) المرجع السابق ص216.
(519) الموعظة على الجبل شريعة أم طريق حياة؟ ص13 - 15.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/247.html
تقصير الرابط:
tak.la/vq8j4cd