س237: هل يملك إبليس ممالك العالم حتى يعرضها لمن هو يملكها أصلًا (مت 4: 8، 9)؟ وكيف يسكت يسوع على هذا الافتراء الشيطاني بملكية جميع ممالك العالم؟ أم أن الشيطان قد سبق وانتزع هذه الممالك من الإله؟ وهل أسر إبليس يسوع أربعين يومًا في البرية وهو يجربه بعد أن حرمه من الطعام والشراب وحرية الإرادة والتصرف؟ وأليس اجتماع الرب مع الشيطان يعد شبهة للرب؟ وما الذي يؤكد لنا أن يسوع لم يسجد لإبليس، دون أن يوجد شاهدين على هذا؟ وكيف نعلم أن الشيطان لم يقهر الإله؟ وكيف كان يتبول الإله ويتبرز أمام إبليس؟ وكيف يطلب يسوع من إبليس أن يسجد لله (مت 4: 10) ولا يُعلِمه أنه هو الله؟ وهل الذي عاد من الأسر هو الشيطان متجسدًا في شكل يسوع؟ وهل الشيطان أحق بالعبادة لأنه أثبت أنه أقوى من الرب؟
وما أكثر الأسئلة التي طرحها "علاء أبو بكر" وهيَ تفيض بالسخرية، فقال: " س170... ما الذي يدرينا أنه لم يسجد للشيطان، فهو قد قرَّر ألا تقوم شهادة إلاَّ على اثنين أو أكثر، وقد كان الإله بمفرده مع الشيطان. وما أدراكم أن الذي رجع من الأسر هو الإله يسوع وليس الشيطان نفسه؟ وكيف نعلم أن الشيطان لم يقهر الإله أو أطعمه لوحوش البرية؟.." (470).
وقال "علاء أبو بكر" أيضًا: " س333: ثم لك أن تتعجب أيها الحبيب النصراني كيف ينام الإله لمدة أربعين يومًا أثناء أسره؟ وكيف كان يتبول؟ وكيف وأين كان يتبرَّز؟ وهل كان الشيطان يراه أم كان الإله يختبئ لقضاء حاجته من الشيطان؟ وهل كان الشيطان يتركه لقضاء حاجته؟ وأين كانت وحوش البرية لتدافع عنه" (471).
كما يقول "علاء أبو بكر": " س108... أليس اجتماع الرب مع الشيطان شبهة للرب نفسه؟ وما الذي أدراكم أن الذي عاد من الأسر ليس الشيطان نفسه متجسَّدًا في شكل يسوع، وأنتم تؤمنون بتجسد الشيطان في أشكال مختلفة، منذ تجسده في صورة الحيَّة؟" (472).
وأيضًا يقول "علاء أبو بكر": "س224: قال يسوع للشيطان: "اذْهَبْ يَاشَيْطَانُ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ" (مت 4: 10). فلو كان يسوع هو اللَّه، لكان الشيطان أحق بالعبادة والألوهية من يسوع، لأن الشيطان في هذه الحالة أثبت أنه أقوى من الرب، وأن الرب خضع له لمدة أربعين يومًا، يمنع عنه الطعام والشراب إلى أن أكمل تجاربه معه، وتركه بمحض إرادته، مع توعده أنه سوف يأتي إليه مرة أخرى، لذلك تركه إلى حين!!. ولو كان يسوع هو الإله، لكان قد أذنب في حق الشيطان، الذي ضلَّله وأمره بالسجود للرب إلهه بصيغة الغائب، ولم يعلمه أنه هو اللَّه. فتُرى لماذا لم يعلمه يسوع أنه إلهه؟ هل كان خائفًا أن يعلمه بذلك فيقتله ويحتل ملكوته كله؟ أم تُرى أنه استصغر نفسه؟ أو أصابه الخزي أن يعلمه أنه إلهه وهو تحت أسره" (473).
(راجع أيضًا البهريز جـ 1 س90 ص71، س323 ص227، جـ3 س144 ص132، س533، س534 ص288، س546 ص291، س574 ص306، جـ4 س107 ص71، س231 ص244 - ص245، س332 ص374، 375).
ج: من الواضح أن كثرة التساؤلات وتكرارها يعكس مدى إنشغال الناقد بهذا الموضوع وانهماكه، حتى صار يمثل له أزمة نفسية، ولعل وراء هذا ما جرى للرسول على يد لبيد بن أعصم اليهودي الذي سحره، وأخفى العمل السحري في قلب جريدة نخيل صغيرة، وضعها تحت حجر (رعوفة) في بئر ذروان لدي بني زريق، فكان الرسول يتصوَّر أنه عمل عملًا وهو لم يعمله أو العكس، فجاء في "صحيح البخاري": ".. عن عائشة رضي اللَّه عنها قالت: قلت النبي (صلعم) كذا وكذا يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتي. قالت عائشة فقال في ذات يوم: يا عائشة أن اللَّه أفتاني في أمر أستقتيه فيه. أتاني رجلان فجلس أحدهما عند رجلي والآخر عند رأسي، فقال الذي عند رجلي للذي عند رأسي: ما بال الرجل؟ قال مطبوب يعني مسحور. قال: ومن طبَّه (أي من سحره)؟ قال: لبيد بن أعصم. قال: وفيمَ؟. قال في جف طلعةٍ ذكر في مشط ومشاقة تحت رعوفة في بئر ذروان. فجاء النبي (ﷺ) فقال هذه البئر التي أُريتها. كأن رؤوس نخلها رءوس الشياطين وكأن ماءها نُقاعة الحناء فأمر به النبي (صلعم) فأُخرج... فقال النبي (صلعم): أما اللَّه فقد شفاني وأما أنا فأكره أن أثير على الناس شرًا. قالت ولبيد بن أعصم رجل من بني زريق حليف ليهود" (474). (وتكرر الحديث في جـ 4 ص 112).
وما جاء في "صحيح البخاري" يعترف به علاء أبو بكر أنه من الأحاديث الصحيحة، وعلى ما أظن أن هذا يقف خلف ضيق الناقد الشديد بالأمر، إذ كيف يستطيع لبيد هذا أن يسحر الرسول ويصل به إلى هذه الدرجة، بينما يُحقّق يسوع المسيح نصرة ثلاثية على الشيطان، فبعد أن منح السيد المسيح الشيطان كامل الحرية ليفعل كل مشتهى قلبه، ويختار أرض المعركة كما يحلو له، هزمه هزيمة ساحقه وإنتهى الأمر بطرده من أمام وجهه: ""اذْهَبْ يَاشَيْطَانُ" فأسرع إبليس بالهرب يجر أذيال الخيبة، أما الناقد فيقلب الأوضاع رأسًا على عقب ويصوّر لنفسه أن إبليس هو الأقوى الذي أسر يسوع أربعين يومًا حرمه فيها من الطعام والشراب وحرية التصرف... إلخ، وفيما يلي نلخص نقاط النقد في خمس نقاط رئيسية، كل منها تحتوي نقاط نقد فرعية.
1- كيف يهب الشيطان ممالك الأرض لمن هو يملكها أصلًا؟ وكيف يصمت يسوع إزاء هذا الإفتراء الشيطاني بإدعاء ملكيته لجميع ممالك العالم؟ وهل انتزع الشيطان هذه الممالك من الإله، وعاد يعرضها عليه مقابل أن يسجد له؟
تعليق: أ - جميع ممالك الأرض هيَ للرب وحده، فقال الرب لبني إسرائيل: " فَإِنَّ لِي كُلَّ الأَرْض" (خر 19: 5)، وقال الرب لأيوب: " مَا تَحْتَ كُلِّ السَّمَاوَاتِ هُوَ لِي" (أي 41: 11)، وقال موسى النبي: " هُوَذَا لِلرَّبِّ إِلهِكَ السَّمَاوَاتُ وَسَمَاءُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضُ وَكُلُّ مَا فِيهَا" (تث 10: 14)، وقال داود النبي: " لِلرَّبِّ الأَرْضُ وَمِلْؤُهَا. الْمَسْكُونَةُ وَكُلُّ السَّاكِنِينَ فِيهَا" (مز 24: 1)، وفي نهاية الأيام عندما يبوّق الملاك السابع ستُسمع: " أَصْوَاتٌ عَظِيمَةٌ فِي السَّمَاءِ قَائِلَةً قَدْ صَارَتْ مَمَالِكُ الْعَالَمِ لِرَبِّنَا وَمَسِيحِهِ فَسَيَمْلِكُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ" (رؤ 11: 15).. فإن كانت ممالك الأرض للرب وحده، وهو الذي يقيم الممالك وينهيها، فلماذا يدَّعي إبليس أنه يمتلك جميع هذه الممالك؟.. ذلك لأنه كذاب، وقال عنه الرب يسوع: " لَمْ يَثْبُتْ فِي الْحَقِّ لأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ حَق. مَتَى تَكَلَّمَ بِالْكَذِبِ فَإِنَّمَا يَتَكَلَّمُ مِمَّا لَهُ لأَنَّهُ كَذَّابٌ وَأَبُو الْكَذَّاب" (يو 8: 44) فهو لا يملك هذه الممالك إنما له تأثيره القوي على الملوك والأشرار فيحرك الأمور كما يشاء، داخل دائرة الضبط الإلهي، ومن أجل تأثيره السيئ هذا دُعي "رئيس هذا العالم".
ب - إن كان إبليس لا يمتلك جميع ممالك العالم، فلماذا صمت يسوع إزاء هذا الإفتراء؟.. ذلك لأن السيد المسيح أخفى لاهوته ومجده وقوته وعظمته عن الشيطان، إذ لم يشأ أن يعرف الشيطان شخصه الإلهي، حتى لا يهرب من أمام وجهه، وتُحرَم البشرية من فرحة الإنتصار عليه، التي حقَّقها السيد المسيح لصالح البشرية.
جـ - هل انتزع الشيطان هذه الممالك من الإله؟.. لا لم ينتزعها منه فإن اللَّه هو الذي أوجدها من العدم، فهو المالك الحقيقي لهذه الممالك، وإن خضعت للشيطان فبسبب خطية الإنسان: " كُلَّ مَنْ يَعْمَلُ الْخَطِيَّةَ هُوَ عَبْدٌ لِلْخَطِيَّة" (يو 8: 34).. " أَنْتُمْ عَبِيدٌ لِلَّذِي تُطِيعُونَـهُ" (رو 6: 16)، وقد دُعيَّ الشيطان: " رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ" (يو 14: 30).. " وَأُعْطِيَ سُلْطَانًا عَلَى كُلِّ قَبِيلَةٍ وَلِسَانٍ وَأُمَّة" (رؤ 13: 7) وكما قلنا هذا لا يعني أن رئاسته مطلقة إنما هيَ داخل دائرة الضبط الإلهي. ويقول "القديس جيروم": " يالك من متعجرف متكبر! فإن إبليس لا يملك العالم كله ليعطي ممالكه، وإنما كما تعلم أن اللَّه هو الذي يهب الملكوت لكثيرين" (475).
ويقول "متى هنري": " وما هيَ "هذه جميعها"؟. هيَ مجرد خريطة، صورة، مجرد طيف خيال، ليس فيها شيء من الحقيقة، ليست شيئًا ملموسًا، هذا ما أراد أن يعطي، كمكافأة عظيمة، وهذا هو ما يقدمه الشيطان عادة" (476).
2- هل أسر إبليس يسوع أربعين يومًا في البرية يجربه، مانعًا عنه الطعام والشراب، وحرية الإرادة والتصرف، وكيف كان ينام الإله ويتبول ويتبرز أمام الشيطان؟
تعليق: أ - لم يذهب يسوع للبرية ليُجرَّب من إبليس قسرًا ورغمًا عنه، إنما أُقتيد بالروح القدس (لو 4: 1)، فروح اللَّه القدوس هو الذي قاده للبرية لينازل إبليس ويهزمه لصالح البشرية، والروح القدس ليس غريبًا عن الابن الكلمة المتجسد لأنه روحه. وبالطبع كان من المستحيل أن يأسر إبليس الرب يسوع، لأنه ليس له فيه شيء، وقال الرب يسوع: " رَئِيسَ هذَا الْعَالَمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ" (يو 14: 30). وإن كان الناقد لم يقرأ الإنجيل لأنه يعتقد أنه محرَّف، فأنه لو أدرك عقيدته هو وماذا يقول الإسلام عن السيد المسيح ما كان إنزلق في هذا المنحدر الخطير للدرجة التي يدَّعي فيها أن إبليس أسر يسوع أربعين يومًا، وهذا أمر غريب ليس على المسيحية فقط بل على الإسلام أيضًا. ألم يقرأ من قبل قول "الإمام فخر الدين الرازي" الذي قال: " إن عيسى عند ولادته أُعطي لقب المسيح لأنه منزَّه عن الخطأ، وكلمة المسيح معناها أنه هو الشخص الذي بلا خطية ليس فقط في ولادته ولكن أيضًا خلال مدة حياته على الأرض". كما قال الإمام الرازي أيضًا: " إنه سُمي المسيح لأنه مُسِح من الأوزار والآثام" (راجع القمص بولس باسيلي - المسيح... من هو؟ ص199).
وجاء في "صحيح البخاري": ".. إن النبي قال ما من مولود يُولَد إلاَّ والشيطان يمسه حين يُولَد فيستهل صارخًا من مس الشيطان إياه إلاَّ مريم وابنها" (477). وفي حديث آخر رواه البخاري أيضًا أن الرسول قال: " كل ابن آدم يطعنه الشيطان في جنبه متى يُولَد غير عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب". ويقول "الإمام الغزالي": " ولما وُلِد عيسى ابن مريم عليه السلام أتت الشياطين إبليس، فقالت: لقد أصبحت الأصنام منكسة الرؤوس. فقال: هذا حادث قد حدث. مكانكم حتى آتي خافقي الأرض، فذهب فلم يجد شيئًا. ثم وجد عيسى عليه السلام قد وُلِد والملائكة حانين عليه، فرجع إليهم فقال: أن نبيًا قد وُلِد البارحة ما حملت أنثى قط ولا وضعت إلاَّ أنا حضارها إلاَّ هذا. فايأسوا من أن تعبد الأصنام بعد هذه الليلة" (478).
ب - من أين أتى الناقد بأن إبليس منع يسوع عن الطعام والشراب وقيد حريته في التصرف؟.. لقد امتنع السيد المسيح عن الطعام والشراب بإرادته، لأنه صام عنا، فترك لنا رصيدًا لا يفنى، وفي كل مرة نصوم فيها يضم لرصيدنا صوم المسيح القوي، فيأتي الصوم فاعليته. ولم يرد لا في الإنجيل ولا في غيره أن إبليس قيَّد حرية المسيح أثناء التجربة، فإبليس لا يجرؤ أن يتعدى الخطوط التي وضعها اللَّه.
جـ - حديث الناقد عن البول والبراز ومثل هذه الأمور الجسدية راجع لاهتمام الأحاديث بهذه الأمور، والنظر إليها على أنها نجاسة، مع أن عملية التبول والإخراج هذه عمليات حيوية تكشف عن براعة الخالق، وليست مجالًا للتهكم والسخرية. كما أن تساؤل الناقد عن الإله إن كان يتبول ويتبرز أمام الشيطان، تساؤل غير بريء، فهو يقصد الاستهزاء بالإله الذي نؤمن به كمسيحيين، والحقيقة أن اللَّه في جوهر لاهوته لا يمارس هذه الأفعال، ولكن عندما تجسد ارتضى أن يشابهنا في كل شيء. ولعل تساؤل الناقد عما إذا كان المسيح يتبول ويتبرز أمام الشيطان يرجع إلى اعتقاده بأن الشياطين تسكن في أماكن قضاء الحاجة، فقال النبي (صعلم): " إن هذه الحشوش محتضرة فإذا أتى أحدكم الخلاء فليقل: أعوذ باللَّه من الخبث والخبائث" وإن الإنسان عند قضاء حاجته يدخل المكان برجله اليسرى ويتخذ اتجاهًا معينًا في جلسته طبقًا للحديث: ".. فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببول ولا غائط ولكن شرّقوا أو غرّبوا" ولا يستخدم الإنسان يده اليمنى، فلا يستنجي ولا يستجمر بيده اليمنى، ويستجمر بالماء أو بالحجر... إلخ.
3- من الذي يدرينا أن يسوع لم يسجد لإبليس دون أن يتوفر شاهدين على ما حدث؟ وكيف نعلم أن الشيطان لم يقهر الإله، أو قد أطعمه لوحوش البرية؟ وأين وحوش البرية لتدافع عن ربها؟.
تعليق: أ - جميع ما كُتب في الإنجيل هو صادق وأمين، ليس فيه أي شيء من الزيف، فقد ذكر الإنجيليون الأحداث كما جرت تمامًا. وأيضًا شهادة المسيح لنفسه هيَ حق لأن الآب يشهد معه، وهو قال: " لأَنَّ الأَعْمَالَ الَّتِي أَعْطَانِي الآبُ لأُكَمِّلَهَا هذِهِ الأَعْمَالُ بِعَيْنِهَا الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا هِيَ تَشْهَدُ لِي أَنَّ الآبَ قَدْ أَرْسَلَنِي. وَالآبُ نَفْسُهُ الَّذِي أَرْسَلَنِي يَشْهَدُ لِي" (يو 5: 36، 37)، وعندما قال الفريسيون للسيد المسيح شهادتك ليست حقًا لأنك تشهد لنفسك: " أَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ وَإِنْ كُنْتُ أَشْهَدُ لِنَفْسِي فَشَهَادَتِي حَق. أَنَا هُوَ الشَّاهِدُ لِنَفْسِي وَيَشْهَدُ لِي الآبُ الَّذِي أَرْسَلَنِي" (يو 8: 14، 18). وقد أوضح العهد القديم أن شهادة اللَّه دائمًا حق: " وَالشَّاهِدُ فِي السَّمَاءِ أَمِينٌ" (مز 89: 37).. " لِيَكُنِ الرَّبُّ بَيْنَنَا شَاهِدًا صَادِقًا وَأَمِينًا" (إر 42: 5)، وتحدث الكتاب المقدَّس عن شهادة المذبح (يش 22: 8)، وشهادة الناموس (خر 25: 21) حتى دعا لوحي الوصايا: " لَوْحَا الشَّهَادَة" (خر 34: 29)، ودُعي تابوت العهد أيضًا " تَابُوتِ الشَّهَادَة" (خر 25: 22).
ب - لو أن إبليس هزم المسيح، وتحققت أمنية الناقد قبل أن يُولَد، فليقل لنا الناقد: إذًا بأي سلطان كان يأمر السيد المسيح وينتهر ويطرد ويبكم إبليس وجنوده أثناء كرازته بملكوت السموات، حتى أن الإنجيل يقول: " لأَنَّهُ بِسُلْطَانٍ يَأْمُرُ حَتَّى الأَرْوَاحَ النَّجِسَةَ فَتُطِيعُهُ" (مر 1: 27).. " وَلَمْ يَدَعِ الشَّيَاطِينَ يَتَكَلَّمُونَ" (مر 1: 34).. " وَكَانَتْ شَيَاطِينُ أَيْضًا تَخْرُجُ مِنْ كَثِيرِينَ وَهِيَ تَصْرُخُ وَتَقُولُ أَنْتَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّه فَانْتَهَرَهُمْ وَلَمْ يَدَعْهُمْ يَتَكَلَّمُونَ لأَنَّهُمْ عَرَفُوهُ أَنَّهُ الْمَسِيحُ" (لو 4: 41).
جـ - تارة يتهيأ للناقد أن إبليس قد قهر يسوع، بل قد يكون جعله طعامًا لوحوش البرية، ولم يسأل نفسه: لو أن الوحوش إلتهمت يسوع فمن الذي عاد من التجربة وملأ الدنيا كرازة وبشارة بملكوت السموات وهدم مملكة الظلمة، مُخضِعًا إبليس وجنوده تحت قدميه. وتارة أخرى يتهيأ للناقد أن وحوش البرية ستهب لتدافع عن ربها وتلتهم إبليس، ولم يسأل نفسه: كيف للوحوش أن تشتبك مع إبليس أو تلتهمه وهو روح لا جسد له؟!
4- كيف يطلب يسوع من إبليس أن يسجد للَّه (مت 4: 10)، ولا يُعلِمه أنه هو اللَّه؟ أم أنه كان خائفًا منه لئلا يقتله ويرث ملكوته؟ أم أنه أستصغر نفسه، أو قد أصابه الخزي لأنه تحت أسره؟.
تعليق: أ - كيف يطلب الناقد من يسوع أن يعلن عن لاهوته للشيطان؟! وهل لو أعلن السيد المسيح عن لاهوته كان الشيطان سيثبت أمامه، أم أنه يفر هاربًا؟! ومن هو الخاسر لو هرب إبليس من المواجهة؟ أليس الإنسان الذي تحقَّقت النصرة في النهاية لصالحه؟. لقد حجب السيد المسيح لاهوته من خلال ناسوته، وذهب إلى إبليس في عرينه، وترك له نفسه ليجرّبه كما يشاء، ويختار أرض المعركة كما يحلو له، وفي كل هذه هزمه هزيمة ثلاثية نكراء، وحُسبت النصرة على إبليس لصالح البشرية، لأن السيد المسيح دحره وهو كإنسان، ولم يستخدم لاهوته قط في سحق الشيطان، فصار إبليس عدوًا مهزومًا، وأسد بلا أسنان، وجندي بلا سلاح، وأي طفل مسيحي صغير يغلبه بالإيمان.
ب - لو كان يسوع خائفًا من الشيطان لئلا يقتله، فكيف ذهب إليه في عرينه في البرية؟! وكيف تركه ليوقفه على جناح الهيكل؟!.. ليس للشيطان أي سلطان على يسوع المسيح القدوس الذي بلا خطية وحده، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ولذلك لم يفكر إبليس عندما أوقف يسوع على جناح الهيكل أن يدفعه إلى أسفل ويخلص منه للأبد، فما دام ليس له فيه شيئًا فمن المستحيل أن يمد له يد الأذى.
جـ - لو أن المسيح إستصغر نفسه أمام إبليس، أو أصابه الخزي لأنه تحت أسره، فكيف عاد يسوع من التجربة يبدأ كرازته بهدم مملكة إبليس وجنوده؟! وكيف يأمر إبليس وينتهره ولا يدع الشياطين ينطقون؟!.. قال السيد المسيح: " أَمْ كَيْفَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَ الْقَوِيِّ وَيَنْهَبَ أَمْتِعَتَهُ إِنْ لَمْ يَرْبِطِ الْقَوِيَّ أَوَّلًا وَحِينَئِذٍ يَنْهَبُ بَيْتَهُ" (مت 12: 29) والقوي هنا إشارة للشيطان. وأعطى السيد المسيح تلاميذه السلطان على الأرواح النجسة والشياطين: " وَدَعَا تَلاَمِيذَهُ الاثْنَيْ عَشَرَ وَأَعْطَاهُمْ قُوَّةً وَسُلْطَانًا عَلَى جَمِيعِ الشَّيَاطِين" (لو 9: 1)، وبعد إرسالية السبعين: " فَرَجَعَ السَّبْعُونَ بِفَرَحٍ قَائِلِينَ يَارَبُّ، حَتَّى الشَّيَاطِينُ تَخْضَعُ لَنَا بِاسْمِكَ" (لو 10: 17).
5- من الذي يدرينا أن الذي رجع من الأسر ليس هو الشيطان متجسَّدًا في شكل يسوع؟ وهل الشيطان أحق بالعبادة لأنه أثبت أنه أقوى من الرب، فتركه بمحض إرادته، متوعدًا إياه بالعودة إليه ثانية؟.
تعليق: أ - ماذا يريد أن يقول الناقد؟ هل يريد أن يقول أن الشيطان رجع من التجربة منتصرًا متهللًا وله شكل يسوع؟ وبشكل يسوع هذا راح يكرز ويبشر ويكرز بملكوت السموات؟!.. شيطان يكرز بالملكوت!!. بل أنه ينتهر الشياطين ويخرج الأرواح الشريرة، وبهذا تنقسم مملكته إلى نصفين ولا تثبت بل تنهار سريعًا... وهل من عاقل يعتقد أن الشيطان يعمل ضد نفسه بهذه الكيفية الساذجة؟! وهل من عاقل يظن أن إبليس يهدم مملكته بيده ويبشر بملكوت السموات؟! وهل من عاقل يعتقد أن الشيطان هو الذي أعطى دستور الملكوت متمثلًا في العظة على الجبل؟! وهل من عاقل يفكر أن الشيطان قد أسلم نفسه للموت من أجل حياة العالم؟!!. هل هكذا يفكر الناقد؟!!!.
ب - كيف يمكن أن يتخذ الشيطان شكل يسوع، وهل ألقى اللَّه شبه يسوع على الشيطان؟!.. ألم يعلم الناقد أن القول بنظرية إلقاء الشبه قول باطل وبالي، فقديمًا عندما أُغتيل "يوليوس قيصر" كتب "أوفيد" Ovid قصيدته Festi (3: 701)، وقال أن الإلهة فيستا Vesta قد حملت يوليوس قيصر قبل اغتياله إلى معهد جوبتر في السماء، أي رُفِع للسماء، وأن من طُعِن فهو خيال يوليوس، وعلى كلٍ فإن إلقاء شبه يسوع على الشيطان وقت الصلب إدعاء قديم، قال به شهاب الدين أحمد بن ادريس القرافي الذي قال: " يُحتمل أن اللَّه صوَّر لهم شيطانًا أو غيره بصورته وصلبوه ورُفِع المسيح" (الأجوبة الفاخرة - دار الكتب العلمية - بيروت. لبنان ص58، وكتاب الإعلان للقرطبي - تحقيق د. أحمد حجازي السقا ص416) (479).
وإلقاء شبه المسيح على آخر وقت الصلب قصة شائعة، وهيَ تمثل معجزة فطيس، فلو أراد اللَّه أن ينجي المسيح من الموت ويرفعه، لماذا لم يرفعه جهارًا نهارًا، حتى لا يُسقِط الملايين في التلبس، ويصمت على الاعتقاد الخاطئ، ثم يتكلم بعد ستمائة عام، بعد أن عضَّد أتباع المصلوب وانتشرت المسيحية في جميع أرجاء العالم. كما أن المفسرين لم يتفقوا على من وقع الشبه عليه، حتى ظهر نحو عشرين رأيًا تتوه في ثناياها (راجع كتابنا: أسئلة حول الصليب ط (3) عام 2015م س47 ص 312 - 324). وعندما درس الإمام فخر الدين الرازي قصة إلقاء الشبه بطريقة عقلانية إنتهى إلى عدم معقوليتها، ووضع ستة إشكالات تقف ضد تصديق القصة، ومن العبارات القوية التي دوَّنها: " إن جاز أن يُقال أن اللَّه تعالي يُلقي شبه إنسان على إنسان آخر، فهذا يفتح باب السفسطة، فإني إن رأيت ولدي ثم رأيته ثانيًا، فحينئذ أجوز أن يكون هذا الذي رأيته ثانيًا ليس بولدي بل هو إنسان أُلقي شبهه عليه... فالصحابة الذين رأوا محمدًا (صلعم) يأمرهم وينهاهم وجب أن لا يعرفوا أنه محمد لاحتمال أنه أُلقي شبهه على غيره. وذلك يفضي إلى سقوط الشرائع.." (التفسير الكبير 7: 70 - 71) (480).
جـ - في التجربتين الأولى والثانية تقدم إبليس المحتال الحيَّة القديمة بدهاء ومُكر وخداع كصديق، وهو يهدف لإسقاط آدم الثاني، فظهر كصديق يقدم نصائحه لإنسان جائع محتاج للطعام، ثم يعرض عليه إنتزاع إعجاب الجماهير مما يسهل عليه نشر رسالته بأن يُلقي بنفسه من على جناح الهيكل. أما في هذه التجربة الثالثة فقد كشف إبليس عن وجهه القبيح رافعًا برقع الحياء، وبكل جسارة يطلب من يسوع أن يسجد له، مدَّعيًا ملكيته لكل ممالك العالم، ويقول "متى هنري" عن هذه التجربة: " أنها تبدو قبيحة لأول وهلة ولهذا رُفضت من البرهة الأولى. إن عَرَضَ علينا أصدق صديق في العالم أمرًا كهذا " نذهب ونعبد آلهة أخرى " وجب أن لا نصبر حتى نستمع إليه (تث 13: 6، 8). في بعض التجارب ترى شرها مكتوبًا على جباهها، نراه مفضوحًا قبل أوانه" (481).
وجاء رد فعل السيد المسيح سريعًا إذ طرد إبليس من أمام وجهه آمرًا إياه: " اذْهَبْ يَاشَيْطَانُ لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ لِلرَّبِّ إِلهِكَ تَسْجُدُ وَإِيَّاهُ وَحْدَهُ تَعْبُدُ" (مت 4: 10) وقال القديس لوقا: " وَلَمَّا أَكْمَلَ إِبْلِيسُ كُلَّ تَجْرِبَةٍ فَارَقَهُ إِلَى حِين" (لو 4: 13). لم يفارقه بمحض إرادته كقول الناقد، إنما طُرد من أمام السيد المسيح شر طردة بعد أن أمره: " اذْهَبْ يَا شَيْطَانُ".. ولا أدري كيف انقلبت الموازين في عين الناقد؟!!.. أيهما أقوى الطارد أم المطرود؟!! ويقول الناقد أن إبليس توعد يسوع، فهل سمعه وهو يتوعَّده؟! هل قرأ في أي مكان في الأسفار المقدَّسة أو حتى خارجها أن إبليس توعَّد يسوع؟!.. لقد فارقه إبليس إلى حين، وحين عاد كانت غلطة عمره، وكم ندم على عودته ليسوع ثانية، وإذ أعدَّ الصليب ليخلص منه فإذ به يُسمَّر عليه، وعلى الصليب اكتشف الشيطان أنه هو هو اللَّه الظاهر في الجسد، وإذ ضُبط متلبسًا بالتعدي على الذات الإلهيَّة أمسك به المسيح وقيده وجرده من سلطاته، واقتحم بيته وهو سجن الجحيم وأطلق جميع الذين ماتوا على الرجاء، وصار إبليس مسخًا يستهزي به أن طفل مسيحي مؤمن ويسخر منه ويطرده بعلامة الصليب. (راجع مهاجمة الأنبا شنودة رئيس المتوحدين للشيطان - تعريب يوسف حبيب).
_____
(470) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ 2 ص352.
(471) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ 4 ص377.
(472) المرجع السابق ص71.
(473) البهريز في الكلام اللي يغيظ س238.
(474) صحيح البخاري جـ 4 ص60.
(475) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص88.
(476) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير إنجيل متى جـ 1 ص97.
(477) صحيح البخاري جـ 3 ص110.
(478) أحباء علوم الدين جـ 3 ص37.
(479) أورده د. فريز صموئيل - من هو المصلوب؟ ص49.
(480) أورده جمال محمد أبو زيد - الأسبوع الأخير للمسيح بين المسيحية والإسلام ص85 - 88.
(481) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير إنجيل متى جـ 1 ص98.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/237.html
تقصير الرابط:
tak.la/jg4ryx6