س196: إن كان الله تجسَّد ووُلِد (مت 2: 1) من أجل خلاص الإنسان، فلماذا لم يتجسَّد منذ أيام آدم أو موسى عوضًا عن أن يملأ جهنم بالعاصين والكافرين والزناة؟ وإن كان اللَّه قد نهى عن عبادة المخلوقات، فكيف يتجسَّد في شكل إنسان مخلوق؟
يقول "علاء أبو بكر": "س624: وأين كان اللَّه كل هذا الوقت؟ لماذا تأخر كل ذلك الوقت الطويل، بين حدوث المعصية من آدم حتى أرسل ابنه ليُصلَب تكفيرًا عن تلك المعصية؟
س625: وهل من رحمة هذا الإله أن يسكت كل هذا الوقت ليملأ جهنم بالعاصين والكافرين والزناة والأنبياء والأبرار حتى ينزل ويُصلَب؟ أنها لجريمة تشين رحمة هذا الإله!" (280).
ويقول "علاء أبو بكر": " س138: لماذا لم يتجسَّد الرب لموسى وقومه؟ ولماذا حذر بني إسرائيل من عبادة الأصنام والتماثيل التي يدَّعي عابدوها أن هذه التماثيل قد تجسَّد فيها الإله؟ أي لماذا حذرهم من التجسُّد؟ هل فكَّرت أيها النصراني في هذا النص من قبل؟ ألم يدر بخلدك أن اللَّه حذر من هذا لعلمه الأزلي أنه سيأتي أناس ضالة وتقول بتجسُّد اللَّه سواء في تمثال أو بشر أو حيوانات أو غيره؟
" فَاحْتَفِظُوا جِدًّا لأَنْفُسِكُمْ. فَإِنَّكُمْ لَمْ تَرَوْا صُورَةً مَّا يَوْمَ كَلَّمَكُمُ الرَّبُّ فِي حُورِيبَ مِنْ وَسَطِ النَّارِ. لِئَلاَّ تَفْسُدُوا وَتَعْمَلُوا لأَنْفُسِكُمْ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا صُورَةَ مِثَال مَّا، شِبْـهَ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى.." (تث 4: 15 ــ 19)..
لقد أخبر ملاخي أيضًا قومه بأن اللَّه لا يتجسَّد ولا يتغير: " أَنَا الرَّبُّ لاَ أَتَغَيَّرُ" (ملا 3: 6).
ألم يحذر بولس من " الَّذِينَ اسْتَبْدَلُوا حَقَّ اللهِ بِالْكَذِبِ وَاتَّقَوْا وَعَبَدُوا الْمَخْلُوقَ دُونَ الْخَالِقِ الَّذِي هُوَ مُبَارَكٌ إِلَى الأَبَدِ" ( رو 1: 25 ).
فاللَّه منزَّه عن الشبيه وعن التجسُّد فهو ليس كمثله شيء " لَيْسَ مِثْلَ الله" (تث 33: 26)..
" فَبِمَنْ تُشَبِّهُونَ اللهَ وَأَيَّ شَبَهٍ تُعَادِلُونَ بِهِ" (إش 40: 18).
" بِمَنْ تُشَبِّهُونَنِي وَتُسَوُّونَنِي وَتُمَثِّلُونَنِي لِنَتَشَابَهَ" (إش 46: 5).." (281).
ج: 1ــ من الذي يحدّد الوقت المناسب لحدث معين خاص باللَّه؟.. بلا شك أن اللَّه هو الذي يحدّد الوقت المناسب، لأنه هو صاحب قضية الخلاص، وهو الكلي المعرفة، فيعرف كل ما يحيط بالحدث من ظروف وملابسات، وهو الكلي القدرة القادر على إتخاذ القرار ووضعه موضع التنفيذ، وقد اختار اللَّه وقت التجسُّد والفداء المناسب جدًا، وهذا ما أدركه بولس الرسول بالروح القدس ودعاه " مِلْءُ الزَّمَانِ ": " لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ" (غل 4: 4)، ودعنا يا صديقي ندون بعض الملاحظات عن ملء الزمان الذي تجسَّد فيه اللَّه الكلمة:
أ - عندما ولدت حواء ابنها البكر "قايين" ظنت أنه المخلص الذي وعد به اللَّه، فقالت: " اقْتَنَيْتُ رَجُلًا مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ" (تك 4: 1)، ولكنه كان أبعد ما يكون عن الخلاص، إذ تجرأ وقتل أخيه البار هابيل، وعندما ولدت "شيث" وشبَّ وبدأ يدعو بِاسم الرب ظنته أنه المخلص ولم يكن هو، وطال إنتظار البشرية والترقب: " لَيْتَكَ تَشُقُّ السَّمَاوَاتِ وَتَنْزِلُ" (إش 64: 1).. " هُوَذَا الرَّبُّ يَخْرُجُ مِنْ مَكَانِهِ وَيَنْـزِلُ وَيَمْشِي عَلَى شَوَامِخِ الأَرْضِ" (مي 1: 3).. هذا بينما تاهت البشرية وراحت تلتمس خلاصها من الطبيعة الخلابة بأنهارها وجبالها وشمسها وقمرها، والطبيعة التي سحرت الإنسان بجمالها عجزت عن أن تهبه الشفاء من داء الخطية العضَّال، وأعلن الإنسان فشله، فلم تنجح حكمة قدماء المصريين، ولا فلسفة اليونان، ولا قوة الرومان في خلاص الإنسان من ورطة الخطية، وعلى حد تعبير الكاتب الكبير "عباس محمود العقاد": " كما عجزت جميع الفلسفات عن أن تشبع الفكر أو تغذي الروح، وأفلست عن الوصول بالإنسان إلى المبادئ والقيم التي تنادي بها، وما استطاع فلاسفة الرواقية والأبيقورية أن يقودوا إلى حياة الكمال والطُهر والنقاء" (حياة المسيح - كتاب الهلال 1958م ص41) (282).
ب - لم يكن القصد الإلهي إتمام الفداء فقط، بل أيضًا كان من المهم تفهُّم البشرية فلسفة الفداء، واحتاج هذا إلى مدى زمني طويل لتهيئة الذهن البشري لقبول هذا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فلو تجسَّد اللَّه وصُلب أيام آدم أو نوح أو إبراهيم أو موسى، ما كانت البشرية تدرك هذا التجسُّد وتقبله، فكان لابد من ترسيخ فكرة الكفارة في الذهن البشري، ولذلك تعهد اللَّه البشرية بالآباء والناموس والأنبياء، وكثيرًا ما ظهر في شكل رجل لإبراهيم ويعقوب، وفي شكل نار لموسى، وعمود سحاب ونار لبني إسرائيل، وملاك الرب لجدعون ونوح، وظل اللَّه آلاف السنين يهيئ ذهن البشرية لقبول فكرة الكفارة والفداء، ولذلك أعطى للإنسان طقس الذبائح المتشعب، فهناك ذبائح تُقدم صباحًا، ومساءً، وكل سبت، وفي رأس الشهر، وفي الأعياد، وهناك ذبائح المحرقة والخطية والإثم والسلامة والدقيق... إلخ.
جـ - أعطى اللَّه الأنبياء مئات النبؤات التي تتحدث عن تجسده وحياته وكرازته ومعجزاته ومحاكماته وصلبه وموته وقيامته وصعوده ، حتى بلغت النبؤات التي تخص السيد المسيح نحو ثلاث مئة نبؤة ، منها أكثر من ثلاثين نبؤة تحقَّقت في الأربعة والعشرين ساعة الأخيرة من حياته على الأرض، وكثيرًا ما أشار السيد المسيح بنفسه لهذه النبؤات بقوله: " لكي يتم المكتوب".. " لكي تكمل الكتب"، وأيضًا أشار كتبة الأسفار المقدَّسة في العهد الجديد لكثير من هذه النبوات وتحقَّقها ولاسيما القديس متى الذي كتب لليهود المذخَّر لديهم هذه النبؤات.
د - رتب اللَّه ترجمة أسفار العهد القديم من العبرية لليونانية بأمر بطليموس فيلادلفيوس ملك مصر، وقام بالترجمة سبعون شيخًا من أفضل شيوخ اليهود، فجاءت هذه الترجمة السبعينية في منتهى الدقة، سرَّ وفرح بها يهود الشتات، ووضعت في مكتبة الإسكندرية أعظم مكتبة حينذاك فأطلعت عليها الأمم، وتسلمت الكنيسة هذه الترجمة وأكملت عليها أسفار العهد الجديد.
هـ - رتب الرب "ملء الزمان" الذي يولد فيه كل شخصيات الميلاد والكرازة، مثل يوسف النجار والعذراء مريم أطهر نساء العالم، ويوحنا المعمدان والتلاميذ الأطهار وبولس الرسول... إلخ.
و - ارتبط بملء الزمان ما قام به الإسكندر الأكبر قبل الميلاد بأكثر من ثلاثة مئة عام، حيث نشر سياسة الإنفتاح على العالم، وتقارب الحضارات عوضًا عن صراع الحضارات، ونشر اللغة اليونانية فصارت وسيلة التفاهم في كل مكان في العالم، وهيَ اللغة التي كُتبت بها جميع أسفار العهد الجديد.
ز - ارتبط بملء الزمان مد شبكة طرق ضخمة ربطت أجزاء العالم، حتى قيل المثل أن " كل الطرق تؤدي إلى روما" ، ونجحت الإمبراطورية الرومانية في نشر لواء السلام، عندما قضت على القراصنة وقُطَّاع الطريق، فصار التنقل من مكان إلى مكان آمنًا، وانتشرت التجارة بين دول العالم، وعلى هذه الطرق سار رُسل الحمل ينشرون نور الإنجيل (يُرجى الرجوع إلى مدارس النقد - العهد الجديد - مقدمة (1) س27).
2ــ يقول الناقد أن اللَّه تأخر في تجسده كثيرًا ليملًا جهنم من العاصين والكافرين والزناة، وهذا يتعارض مع رحمة اللَّه، وهذا القول يظهر سطحية الفكر، فلو ألقى الناقد نظرة على العالم الحالي بعد التجسد بنحو ألفي عام، ولاحظ مدى تفشي الشرور والخطايا والآثام، وكيف يسعى الكثيرون نحو الملذات والأهواء والماديات والجسديات والترابيات، لأدرك أن العيب ليس على الإطلاق في اللَّه بل في الإنسان، فماذا يفعل اللَّه أكثر من هذا؟!.. بعد قصة التجسد والفداء والبشر يهلكون بالملايين، ولو كانت نتيجة التجسد الإلهي خلاص الجميع لكان يحق للناقد طرح تساؤله هذا... ألم يقرأ الناقد مرة واحدة قول رب المجد يسوع: " اُدْخُلُوا مِنَ الْبَاب الضَّيِّقِ لأَنَّهُ وَاسِعٌ الْبَابُ وَرَحْبٌ الطَّرِيقُ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْهَلاَكِ وَكَثِيرُونَ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ مِنْهُ. مَا أَضْيَقَ الْبَابَ وَأَكْرَبَ الطَّرِيقَ الَّذِي يُؤَدِّي إِلَى الْحَيَاةِ وَقَلِيلُونَ هُمُ الَّذِينَ يَجِدُونَهُ" (مت 7: 13، 14).
3ــ خلط الناقد الحابل بالنابل، عندما خلط بين نهي اللَّه عن عبادة المخلوقات متمثلة في الأصنام والأوثان، وبين التجسد الإلهي، وشتان بين هذا وذاك، فمثلًا:
أ - نهى اللَّه عن عبادة المخلوقات منذ أن أعطى الوصايا العشر المكتوبة: " لاَ يَكُنْ لَكَ آلِهَةٌ أُخْرَى أَمَامِي. لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ. لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ" (خر 20: 3 - 5)، وما أكثر الآيات التي تنهي عن عبادة المخلوقات، والتجسُّد ليس من قبيل هذه المخلوقات المُنهى عن عبادتها، لأن الذي تجسَّد هو الخالق وليس المخلوق، هو اللَّه الحي الأزلي، هو هو اللَّه قبل التجسد وبعده.
ب - جميع العبادات الوثنية هيَ من أعمال الشيطان، فخلف كل وثن شيطان، ولذلك حذر اللَّه شعبه قبل أن يدخلهم أرض الموعد بتجنب عبادة الأمم حتى لا تلفظهم الأرض كما لفظت الذين قبلهم، ووضع عقوبات صارمة على من يتجرأون ويعبدون آلهة الأمم. بينما التجسد أمر مختلف تمامًا، فنحن في التجسد لا نضيف إلهًا جديدًا، ولا نؤلّه إنسانًا فنجعله إلهًا، إنما نحن ندرك ونعي أن التجسد هو تنازل اللَّه من مجده الأسنى ليأخذ طبيعتنا ويحيا كحياتنا، ويسلم نفسه للموت من أجلا خلاصنا، فالتجسد علامة محبة اللَّه اللانهائية للإنسان، ولكل إنسانٍ على حدى: " الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي" (غل 2: 20).
جـ- في عبادة المخلوقات نصطدم بتعدد الآلهة وصراعاتها، وجميعها من وحي الخيال الشيطاني، أما في التجسد فنحن أمام اللَّه الواحد، الذي لا شريك له، اللَّه قبل التجسد هو هو اللَّه بعد التجسد، لم يطرأ عليه أي تغيير ولا ظل دوران... إلخ.
4ــ عندما إنحط البشر في عبادة المخلوقات دون الخالق، تجسَّد اللَّه ليجذب هؤلاء إليه وينتشلهم من هوة الحسيات الخادعة، فقال "البابا أثناسيوس الرسولي": " 2ــ ولأن البشر قد تركوا التأمل في اللَّه وانحطت نظراتهم إلى أسفل كأنهم قد غاصوا في الأعماق باحثين عن اللَّه في عالم الحسيَّات، صانعين لأنفسهم آلهة من البشر المائتين ومن الشياطين، لهذا فإن مُحب البشر ومُخلص الجميع كلمة اللَّه أخذ لنفسه جسدًا ومشى كإنسان بين البشر، وجذب أحاسيس كل البشر نحو نفسه، لكي يستطيع أولئك الذين يظنون أن اللَّه له جسد مادي، أن يدركوا الحق عن طريق الأفعال التي يعملها الرب بواسطة جسده، وعن طريقه يعرفون الآب" (أف 15: 2) (283).
وما أروع كلمات "القديس مار أفرام السرياني":
" رأى اللَّه أن البشرية تتعبد للمخلوقات، فأخذ جسدًا مخلوقًا حتى يأسرنا بعاداتنا!
وإذا أخذ شكلنا الذي خلقنا به، بهذا أبرأنا!
إذا أخذ شكل المخلوق، قدم لنا الخالق الحياة!
أنه لم يجذبنا بالقوة ! مبارك هذا الذي جاء في الذي لنا لكي يجعلنا نتحد معه في الذي له..!
لقد عبدوا المخلوقات بسبب غباوتهم، إذ عبدوا كل شيء إلاَّ الواحد، فنزل الواحد إليهم برحمته وكسر عنهم نير عبوديتهم!
مبارك ذالك الذي يشفي آلامنا" (284).
_____
(280) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ3 ص315، 316.
(281) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ 4 ص100 - 102.
(282) أورده القمص إبراهيم جبره - المولود من العذراء ص47.
(283) ترجمة دكتور جوزيف موريس فلتس - تجسد الكلمة ص43 ، 44.
(284) أورده القمص تادرس يعقوب - ميامر الميلاد للقديس مار أفرام السرياني ص42 ، 43.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/196.html
تقصير الرابط:
tak.la/j9bfzms