س176: كيف يشك يوسف في خطيبته مريم، حتى أنه أراد تخليتها سرًا (مت 1: 19)؟ ولماذا سرًّا؟ ولماذا لم تخبر العذراء مريم يوسف ببشارة الملاك لها؟
يقول "علاء أبو بكر": "س36:.. فتبعًا للقانون اليهودي كان لابد أن يوقع اثنان على عقد الطلاق، فكيف كان يريد تخليتها سرًَّا؟ فهل الطلاق سرًَّا يُعد من الطقوس اليهودية؟. وهل مريم لم تخبره بأمر الملاك والحمل الإعجازي إلى أن كبرت بطنها وظهر عليها الحمل؟ ولماذا ترك اليهود يوسف ولم يتهمونه أنه وراء هذا الحمل؟ فأين الشهود الذين أتيا بهم ليثبتا عفته وعفة خطيبته وبراءتهما من تهمة الزنى؟ وألست معي أن نسبة مريم إلى رجل في ظل هذه الظروف يُمحي معجزة ولادة عيسى عليه السلام؟ فمن الذي له مصلحة في ذلك إلاَّ أحد أعداء يسوع؟"(193).
كما يقول "علاء أبو بكر": "س38:.. ولماذا لم تخبره هيَ بهذا الحمل الإعجازي لتتجنب شكه فيها حيث كان عمره حينئذ (كما تقول الموسوعة الكاثوليكية على النت) يناهز الـ 92، وقد ضعفت قدراته... ويكون شكه فيها نفسيًا أيسر؟ وكيف صدق هو هذا الوحي على الأخص أنه لم يكن نبيًا ولا يعرف إن كان هذا وحيًا أو هاجسًا من الشيطان ليلبس عليه أمر هذا الحمل؟"(194).
ج: 1ــ كانت ثقة يوسف النجار في العذراء مريم عظيمة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ثقة البار في القديسة، بعد أن لمس طهارة حياتها وقداسة سيرتها، ففرح بسكناها في بيته، وسُرَّ أن يدعو اسمه عليها، وفي نفس الوقت وقف أمام لغز يصعب حله، أنها طاهرة وقديسة ولكنها حامل؟!.. لم تكن هناك سابقة في التاريخ مثل هذه ليقتدي بها، وكان الواجب يقتضي أن يعلن عما حدث ويكون أول راجميها، ولكن قلبه وعقله لا يصدقان أن فتاة بطهارة العذراء يمكن أن تسقط هذه السقطة التي عقابها الموت رجمًا، وأمام هذه التضاربات، وبعد تفكير عميق اختار يوسف الحل الوسط، فلا يجب أن تمكث في بيته بعد اليوم ولا أن تحمل اسمه، ولكيما يخلصها من الحل البديل وهو الموت أراد تخليتها سرًَّا، أي أن يفض تلك الخطبة دون أن يعلن عن السبب، لأنه لو عرف الناس بالواقع لأدانوه بشدة لأنه تهاون بأحكام الشريعة.
ولعل القديس يوسف البار بهذا التصرف أظهر عدله ورحمته في آن واحد، ظهر عدله في أنه أصرُّ على فك رباط الخطبة بعد ظهور بوادر الحمل عليها، وظهرت رحمته أنه أراد تخليتها سرًَّا ولم يشأ أن يسلمها للموت، وقال أحد الأفاضل: " رأى يوسف نفسه مضطرًا لتخليتها، وكان أمامه في ذلك طريقان. أن يحضرها للمحاكمة أمام القضاء لقصاصها، أو يُطلّقها أمام شهود ولكن بدون علة (تث 24: 1)، وهذا هو المقصود أراد تخليتها سرًَّا. وهذه أرحم طريقة فكر فيها يوسف" (195).
وربما كان أمام يوسف خيارين لا ثالث لهما إما أن يسلم القديسة مريم الطاهرة للموت رجمًا، أو أن يطلّقها دون أن يُعلن السبب. أما السماء فكانت لها خيارًا ثالثًا، وهو أن يحتفظ بها كزوجة أمينة لأنها حوت في بطنها كنزًا عظيمًا تتضاءل أمامه كل كنوز الأرض، وجاء في "التفسير التطبيقي": " قرَّر يوسف أن يفسخ الخطبة، ولكنه صمَّم أن يفعل هذا بأسلوب لا يجلب فضيحة لمريم. كان ينوي أن يتصرف بالعدل والمحبة. وهنا أرسل اللَّه ملاكًا ليوسف ليؤيد قصة العذراء مريم، وليفتح ليوسف طريقًا آخر للتصالح، فأطاع يوسف اللَّه" (196).
2ــ يصور "القديس يعقوب السروجي" ذاك الموقف المربك الذي وقع فيه يوسف البار، فيقول: " نظر الشيخ إلى بطنها، تلك المخطوبة له، وتعجب الصديق!
رأى صبية خجولة عاقلة، فبقى داهِشًا في عقله!
شكلها متضع، وبطنها مملوءة، فتحير ماذا يصنع؟!
منظرها طاهر ورؤيتها هادئة، والذي في بطنها يتحرك !
طاهرة بجسدها، وحبلها طاهر، فتعجب من عفتها والمجد الذي لها، وبسبب حملها كان غاضبًا...
كان البار حزين القلب على حبل العذراء النقية، وأراد أن يسألها فاستحى... وفكر أن يطلّقها سرًّا" (197).
3ــ لماذا لم تخبر مريم يوسف ببشارة الملاك لها؟
لأن الموضوع فوق مستوى الإدراك البشري، كيف تجرؤ أن تقول أنها حامل بابن اللَّه؟!.. ولو قالت هذا، تُرى هل يصدقها يوسف أم أنه يشك أنها تخترع كذبًا لتنجو بحياتها؟!.. أن العذراء مريم عندما قبلت البشارة وقالت للملاك: " هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ" (لو 1: 38) قد وضعت كل أمور حياتها تحت تصرف الإله القدير يفعل ما يشاء، فهو الذي وضعها في هذا المأزق، فلابد أنه سيتصرف، فلن يسلمها للرجم كزانية... كانت ثقتها في اللَّه بلا حدود، لذلك آثرت الصمت، فتحركت السماء لتُظهِر مثل نور الشمس برها أمام يوسف البار، فمنذ أن دخل البكر إلى العالم، وقد صدرت الأوامر الإلهيَّة للملائكة بخدمته، وبعد أن كانت كلمة اللَّه عزيزة وانقطع الوحي مئات السنين عادت السماء تتحدث مع البشر، وسرّ رئيس الملائكة ببشارة زكريا ثم العذراء مريم، والخطاب اليوم ليوسف البار في حلم صادق، وقد أدرك يوسف البار أنه حلم صادق وليس أضغاث أحلام.
4ــ ليس في الطقوس اليهودية ما يُدعى الطلاق السري، ولكن المقصود بتخليتها سرًَّا كما قلنا أن يكتب لها كتاب طلاق دون أن يفصح عن السبب الحقيقي الذي دعاه لهذا... وكما قلنا أن الخطبة في اليهودية تضع الخطيبة في موضع الزوجة، حتى أنه إذا قضت الخطبة لأي سبب تحصل المخطوبة على كتاب طلاق، وإذا مات خطيبها تُحسب أرملة، فلا يفرق بين المخطوبة والمتزوجة سوى حفلة الزفاف (راجع س174)، فلو تجاوز الشيخ العجوز يوسف حفل ليلة الزفاف، فإن هذا لا يعطي المبرر لأحد للطعن في شرفه وشرف زوجته. لقد صار معلومًا لدى الجميع، بعد أن ظلت العذراء مريم بعد حبلها في بيت يوسف، علم الجميع أنها زوجته، وعلم الجميع أن يسوع ابن يوسف البار والقديسة مريم، وبالطبع فإن هذا لا يُلغي حقيقة بتولية العذراء مريم الدائمة، ولا حقيقة ولادة يسوع المسيح بدون زرع بشر.
_____
(193) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ 2 ص56.
(194) المرجع السابق ص58.
(195) سلسلة تفسير جون ويسلي للعهد الجديد - تفسير إنجيل متى ص9.
(196) التفسير التطبيقي ص1869.
(197) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص46، 47.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/176.html
تقصير الرابط:
tak.la/nkz2952