س161: كيف يقول متى أن "يَسُوعَ الْمَسِيحِ ابْنِ دَاوُدَ" (مت 1: 1)، بينما أنكر السيد المسيح بنوته لداود (مت 22: 41 - 46)؟
سأل السيد المسيح الفريسيين: ماذا تظنون في المسيح ابن من هو؟ فقالوا: ابن داود، فسألهم: فكيف يدعوه داود بالروح ربًا قائلًا قال الرب لربي أجلس عن يميني حتى أضع أعدائك موطئًا لقدميك. فإن كان داود يدعوه ربه فكيف يكون ابنه؟!، فصمتوا ولم يجبه أحد بكلمة (راجع مت 22: 41 - 46)، فقال النُقَّاد أن المسيح هنا ينكر أنه ابن داود (راجع رحمة اللَّه خليل الهندي - إظهار الحق - تحقيق د. أحمد حجازي السقا ط 1978 ص 115، 116، والإمام أبو محمد علي بن حزم الأندلسي - الفصل في الملل والأهواء والنحل جـ2 ص 49، وموقع ابن مريم، وموقع نادي الفكر العربي).
ويقول "ع.م جمال الدين شرقاوي": " إن المسيح (عليه السلام) قد وجه استنكارًا أن يكون المسيح ابنًا لداود، ولم يتمكن الحاضرون من الإجابة... فلم يستطع أحد أن يجيبه بكلمة... ومعلوم أن داود (عليه السلام) كان نبيًا وملكًا على بني إسرائيل. فإن تكلم عن أحد أبنائه وأحفاده من بعده فلن يقول عنه سيدي ولكن سيقول ابني. وإن تكلم عن أحد من أباءه وأجداده فسيقول أبي. ولكن هنا في هذا النص قال سيدي (يقصد ربي)، وهذا معناه أن سيد داود المشار إليه هنا ليس من ذريته... فيكون الإشكال الذي أثاره المسيح هنا مكوَّن من جزئين:
إن سيد داود المنتظر لن يكون من ذرية داود.
إن سيد داود المذكور في النص لن يكون هو المسيح المنتظر...
وأنانجيل القوم تثير ذلك الإشكال وتحذف الإجابة فتترك الناس حيارى لا يعلمون شيئًا عن إجابة المسيح المحذوفة... !!
ولكن معظم علماء الغرب المسيحيي المعاصرون - نقَّادًا ومفسرين - قالوا بأن المسيح (عليه السلام) هنا في ذلك النص ينكر أنه ابن داود المنتظر. وقد اعترف بتلك الحقيقة الأب متى المسكين حيث قال في شرحه لإنجيل مرقس ص506 بما نصه: "وقد تضافر العلماء على إنكار أن المسيح ابن داود وأن المسيح نفسه - في ذلك النص - ينكر هذا النسب".
ولكن المسكين متى لا يوافق علماء المسيحية على قولهم السابق حيث لايزال يقول كما قال العُمْي والشحاذون وسائر الشهود من العامة والغوغاء والأولاد السابق ذكر شهادتهم (مت 9: 27، 20: 30، مر 10: 47، 48، لو 18: 38، مت 10: 51، 15: 22، 21: 1 - 11، 15) بأن المسيح هو ابن داود... !!" (132).
ج: 1ــ لقد أعطى اللَّه داود وعدًا غير مشروط، بأن مملكته ستدوم إلى الأبد، وأن نسله سيحكم إلى الدهر (راجع إجابة س159 ثانيًا: المسيح ابن داود). ومن الطبيعي أنه من المستحيل أن يدوم حكم داود أو مملكة داود إلى الأبد، فهذه الوعود تنطبق فقط على السيد المسيح الذي مَلَكَ ملكًا روحيًا على بيت داود، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وفيه تحقَّق قول رئيس الملائكة جبرائيل: " وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ" (لو 1: 32، 33)، وقد تغافل الناقد شهادة رئيس الملائكة وشهادات الأنبياء العظماء مثل داود وإشعياء وإرميا وحزقيال، مع رجال العهد الجديد متى ولوقا ويوحنا وبولس، مدعيًا أن الذين اعتقدوا أن المسيح هو ابن داود هم العُمْي والشحاذون وسائر الشهود من العامة والغوغاء والأولاد... وحتى لو تأمل الناقد في هذه الفئات لاكتشف الحقيقية، أنه باعترافهم الحسن هذا نالوا عطايا جزيلة وهبات عظيمة، فالعُمْي تفتَّحت أعينهم، بينما من ينكرون أن المسيح إبن داود هم في الحقيقة مبصرون ولا يبصرون، فقد إنطمست بصيرتهم عن رؤية الحقيقة، والشحاذون الذين تمسكوا بأن المسيح ابن داود كفُّوا عن الأستعطاء، والأطفال الذين هتفوا لابن داود مدحهم ملك المجد، وهلمَّ جرا...
2ــ كان على الناقد أن يدرك أنه بالنسبة للنصوص الإنجيلية كان يجب أن يرجع إلى تفسير أصحاب الكتاب، وكيفية فهمهم للنص محل النقد في ضوء روح الكتاب ككل، ولا يحق للناقد غير المسيحي أن يأخذ النص ويفسره كما يحلو له، طبقًا لثقافته ومعتقداته وخياله الجامح، فإنه في هذا لن يصل إلى الحقيقة، ونحن عندما نتعرض لنص قرآني لا نفسره كما يحلو لنا، بل نلجأ إلى تفسيرات كبار الأئمة، وكيفية فهمهم للنص.
3ــ دعنا نتفهم تلك الفقرة من حوار الرب يسوع مع الفريسيين، فقد حاول الفريسيون أن يصطادوا السيد المسيح بكلمة: " أَيَجُوزُ أَنْ تُعْطَى جِزْيَةٌ لِقَيْصَرَ أَمْ لاَ. فَعَلِمَ يَسُوعُ خُبْثَهُمْ وَقَالَ لِمَاذَا تُجَرِّبُونَنِي يَامُرَاؤُونَ... أَعْطُوا إِذًا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا ِللهِ ِللهِ" (مت 22: 17 - 21). ثم أراد ابن اللَّه أن يساعدهم على اكتشاف الحقيقة، ويضع أمامهم قول داود النبي في المزمور: " قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي اجْلِسْ عَنْ يَمِينِي حَتَّى أَضَعَ أَعْدَاءَكَ مَوْطِئًا لِقَدَمَيْكَ" (مز 110: 1)، فسألهم: " مَاذَا تَظُنُّونَ فِي الْمَسِيحِ؟ ابْنُ مَنْ هُوَ؟" (مت 22: 42)، فقالوا: ابن داود، فسألهم ثانية: " فَكَيْفَ يَدْعُوهُ دَاوُدُ بِالرُّوحِ رَبًّا قَائِلًا قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي اجْلِسْ عَنْ يَمِيني" (مت 22: 43، 44) فصمتوا ولم يجيبوا بكلمة... فواضح من الحوار أن السيد المسيح لم ينكر ولم يستنكر كونه ابن داود، إنما أراد أن يجذب إنتباههم إلى ربوبيته التي أشار إليها داود النبي بالروح القدس... أراد السيد المسيح أن يشرح لهم أنه ابن داود كما يعتقدون بحسب الناسوت، وهو رب داود بحسب اللاهوت، أما هم فرفضوا الجزئية الثانية، فظلت الإشكالية التي طرحها المسيح أمامهم قائمة بلا حل " فَلَمْ يَسْتَطِعْ أَحَدٌ أَنْ يُجِيبَهُ بِكَلِمَةٍ" (مت 22: 46).
4ــ جاء في "تفسير الكتاب المقدَّس": "ومغزى الاقتباس يتركز في لفظة "ربي". إن هذه الفقرة نبؤة عن جلوس المسيح الحالي عن يمين الآب، وجواب سؤال الرب يتركز في الحقيقة التي هيَ أن المسيح إله وإنسان على السواء وهنا تضمين واضح لمطلب حق اللاهوت" (133).
5ــ جاء في "تفسير العهد الجديد": "لا يُحل المشكل إلاَّ بالإقرار بلاهوت المسيح وناسوته غير أن آراء علماء اليهود من جهة شخصه وملكوته كانت قد أخفت عنهم الأمور العليا المعلنة في كتبهم المقدَّسة" (134).
6ــ جاء في "تفسير جون ويسلي": "والآن وقد اجتمعوا حوله في الهيكل في محضر الجماهير سألهم سؤالًا وقصد به أن يوصلهم إلى شيء هم يجهلونه وهو شخصية وصفات المسيا، وليترك عليهم تأثيرًا من طبيعة شخصيته الفائقة... لأنه في الواقع لا يوجد جواب عليه إلاَّ واحد هو الاعتراف بلاهوته كما بناسوته، إذ لا يوجد شيء آخر يُقال، سوى أنه رب داود حتى قبل أن يُولَد"(135).
7ــ قال "القديس أغسطينوس": " المسيح هو ابن داود وربه. إنه رب داود على الدوام وابنه حسب الزمن... هو رب داود المولود من الآب، وابن داود المولود ابنًا للعذراء مريم، الذي حُبِل به منها بالروح القدس فلنتمسك بكليهما بشدة... فلو لم يهبنا ربنا يسوع المسيح أن يصير إنسانًا لهلك الإنسان" (136).
8ــ أورد الناقد عبارة مجتزءة من قول الأب متى المسكين، فقال: " لكن المسكين متى لا يوافق علماء المسيحية على قولهم السابق" ولم يكمل عبارات أبونا متى بالكامل، التي قال فيها:
" وقد تضافر العلماء على إنكار أن المسيح ابن داود وأن المسيح نفسه هنا ينكر هذا النسب، وهذا إفتراء فإليك النبوات... (وأورد القمص متى المسكين ما جاء في إش 11: 1، 2، 10، إر 23: 5، 6، حز 34: 23، 24، 37: 24، مز 89: 20، 21، 26، 27، 29). ثم قال: " فهنا أراد المسيح أن يؤكد لقبه: ابن الإنسان، وابن اللَّه، وصفتيه: الإنسان، واللَّه" (راجع الإنجيل بحسب القديس مرقس ص 506، 507).
وأيضًا في تفسيره لإنجيل متى شرح الأمر بالتفصيل فقال: " وهنا في آخر فرصة للمسيح على الأرض، يتكلم مع الفريسيين كلامًا وديًا، ليُصلح من أفكارهم الخاطئة، ويعطيهم إلهامًا عمن هو المسيا الحقيقي الذي ينبغي أن يتعرَّفوا على صفاته. فتقدَّم بسؤاله الهادئ: " مَاذَا تَظُنُّونَ فِي الْمَسِيحِ؟ ابْنُ مَنْ هُوَ؟ " سأل سؤاله وهو يعلم تمامًا بالجواب الذي سيجاوبون به أنه ابن داود، هذا حسن. ولكن هذا لا يكفي على الإطلاق للتعرُّف على المسيَّا، أن نعتمد على السلسال الجسدي فقط. فبادرهم بالسؤال الذي يتحتم عليهم رفع عقلهم مباشرة لتأمل الحقيقية التي وراءه: إذًا فكيف يخاطب داود المسيا بالروح وهو ابنه قائلًا عنه: " قَالَ الرَّبُّ لِرَبِّي اجْلِسْ عَنْ يَمِيني... ". فهنا إزدواجية، داود يخاطب المسيَّا أنه ربه مع أن المسيَّا بحسب النبؤات هو ابنه: فكيف يكون المسيَّا ابن داود ورب داود بآن واحد إلاَّ إذا كان ابنًا من جهة الجسد وربًا من جهة الروح؟ فإن كان داود يدعوه ربًَّا فكيف يكون ابنه؟ إذًا، فهو ابن داود بالجسد ولكنه رب داود بالروح!! هذا المجال للتأمل الصامت وليس مجالًا للكلام والرد على الإطلاق. فماذا يقولون؟ المسيح لم ينتظر منهم ردًَّا لأن الرد الصحيح لابد أن يكون عن استعلان الحقيقة وهيَ أمامهم واضحة ومنطوقة، وإلاَّ فليسألوه مرة أخرى عن الإجابة، وكان على استعداد للإعلان، ولكنهم أخفقوا أن يلتقطوا من كلام المسيح الحقيقة. لماذا؟ لأنهم أضمروا الشرَّ به، أضمروا قتله واتفقوا وخططوا وإنتهوا!!. ولكن المسيح كان بهذا السؤال رائعًا حقًا، فلم ينكر نفسه إلى النهاية" (137).
_____
(132) هاروني أم داودي ط 2006 ص 98، 99.
(133) مركز المطبوعات المسيحية جـ 5 ص73.
(134) تفسير العهد الجديد - إصدار دار الثقافة المسيحية ص63.
(135) تفسير جون ويسلي للعهد الجديد - تفسير إنجيل متى ص221.
(136) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير إنجيل متى ص473.
(137) الإنجيل بحسب القديس متى ص606.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/161.html
تقصير الرابط:
tak.la/vda645g