س147: أين إنجيل متى الأرامي الذي ذكره بابياس وبنتينوس وغيرهما؟ وإذا كان متى وقومه يتكلمون الأرامية فلماذا كتب إنجيله باللغة العبرانية، ولم يكن هناك من يتحدث بها حينذاك؟ وكيف يُفقد إنجيلًا موحى به من اللَّه ليحل بدلًا منه إنجيل متى اليوناني؟
يقول "علاء أبو بكر" عن القديس متى: "س250: وإذا كانت لغته هيَ الأرامية، فلماذا كتب متى إنجيله بالعبرانية؟ ولمن إذًا، إذا كانت هذه اللغة لا يتكلم بها أحد" (35).
(راجع أيضًا جـ 3 س384 - البهريز جـ 4 ص 428).
كما يقول "علاء أبو بكر": "س385: ولماذا لم يحفظ الرب الكتاب الذي أوحاه بالعبرانية، حيث لا توجد إلاَّ ترجمته اليونانية؟ هذا إن صح أن هذه الترجمة للإنجيل العبراني، وليس إنجيل جديد غير الإنجيل العبراني" (36).
( راجع أيضًا الإمام محمد أبو زهرة - محاضرات في النصرانية - دار الفكر العربي ط (3) سنة 1966م ص 51).
ج: 1ــ لا أحد ينكر أن القديس متى كتب أولًا الأقوال الإلهيَّة باللغة الأرامية والتي يُطلق عليها مجازًا العبرية، وذلك قبل مجمع أورشليم نحو سنة 50م بعد صعود السيد المسيح بنحو عشرين عامًا، بعد أن خدم في اليهودية فترة تتراوح بين 12 - 15 سنة، وقبل أن يترك شعبه ويذهب ليكرز في بلاد فارس وبلاد الحبشة فكتب لهم الإنجيل بالأرامية، وأورد المؤرخ الكنسي "يوسابيوس القيصري" شهادة بابياس (60 - 130م) أسقف هيرابوليس وتلميذ يوحنا الحبيب ورفيق بوليكاربوس الشهيد، فقال: "(16) أما عن متى فقد كتب (بابياس) ما يلي: وهكذا كتب متى الأقوال الإلهيَّة باللغة العبرانية وفسَّرها كل واحد على قدر إستطاعته" (ك3 ف39) (37). هذا ما قاله بابياس، أما النُقَّاد فقد أخذوا هذه العبارة وحمَّلوها بوجهة نظرهم كما فعل دكتور محمد توفيق وهذا ما سنعرض له في إجابة السؤال القادم.
2ــ عبارة بابياس توضح أن القديس متى كتب الأقوال الإلهيَّة باللغة العبرية، فماذا يقصد بالأقوال الإلهيَّة؟
يقول "وليم مكدونلد": "هناك ثلاث وجهات نظر مختلفة بشأن تصريحه:
(1) الإشارة هيَ إلى إنجيل متى بالذات، أي أن متى كتب نسخة من إنجيله بالأرامية تخصيصًا ليربح اليهود للمسيح، ولكي يبني المسيحيين العبرانيين، وأما النسخة اليونانية فلم تظهر إلآَّ بعد ذلك، وليس قبله.
(2) الإشارة هيَ إلى أقوال المسيح فقط، والتي أصبحت فيما بعد جزءًا من إنجيله.
(3) الإشارة هيَ إلى الـ testimonia أو "الشهادة" التي هيَ مقتطفات من كتب العهد القديم استخدمت لتظهر أن يسوع هو المسيح. وتُفضَل النظريتان الأوليتان عن النظرية الثالثة"(38).
وقال بعض علماء الكتاب أن كلمة "الأقوال" Logia التي استخدمها بابياس ترادف عبارة: "عما قاله المسيح أو فعله"، أي أن بابياس يقصد أقوال وتعاليم وقصص السيد المسيح، وقال "يوسابيوس القيصري": "(1) لا يزال بين أيدينا خمسة كتب لبابياس تحمل اسم "تفسير أقوال الرب" ويذكرها أيرينيؤس.." (ك 3 ف 39) (39). وقال "القديس أيرينيؤس": "وكَتَبَ متى إنجيله للعبرانيين بلغتهم الخاصة" (ك 3 ف 1) (40)، فالأرجح إذًا أن ما كتبه القديس متى باللغة الأرامية يشمل أقوال وأفعال السيد المسيح، وليس أقواله فقط، وليست هيَ إثباتات من العهد القديم على أن يسوع هو المسيح.
3ــ شهد "بنتينوس" إنه عندما ذهب إلى الهند وجد نسخة من إنجيل متى باللغة العبرية، كان قد أحضرها معه القديس برثولماوس عندما كرز هناك، وقال "يوسابيوس القيصري": "(3) وكان بنتينوس أحد هؤلاء، وقيل أنه ذهب للهند، وقيل أيضًا أنه وجد لدى من عرفوا المسيح هناك إنجيل متى الذي كان قد سبق إلى الهند قبل وصوله هو. لأن برثولماوس - أحد الرسل - كرز لهم، وترك لهم باللغة العبرية إنجيل متى الذي كانوا محتفظين به حتى ذلك الوقت" (ك 5 ق 10) (41) وحيث أن القديس بنتينوس كان يتقن اللغة العبرية لذلك فكلامه مُصدَّق وصحيح.
4ــ شهد "أوريجينوس" إن القديس متى قد كتب إنجيله بالعبرية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فقال "يوسابيوس القيصري" على لسان أوريجينوس: "(4) بين الأناجيل الأربعة وهيَ الوحيدة التي لا نزاع بشأنها في كنيسة اللَّه تحت السماء، عرفتُ من التقليد أن أولها كتبه متى الذي كان عشارًا، ولكنه فيما بعد صار رسولًا ليسوع المسيح، وقد أُعد للمتنصرين من اليهود، ونُشر باللغة العبرانية" (ك 6 ف 25) (42). كما شهد البابا أثناسيوس الرسولي، وغريغوريوس النيزينزي ويوحنا ذهبي الفم بأن القديس متى قد كتب الإنجيل الأول (راجع د. موريس تاوضروس - المدخل إلى العهد الجديد ص59، 60).
5ــ قال "القديس جيروم" عن إنجيل متى أنه: "كان مكتوبًا باللغة الأرامية بأحرف عبرية" (الرد على بيلاجيوس 3: 2، قابل مجموعة الآباء اللاتين ك 23 ص57). وكتب القديس جيروم أيضًا في مقدمة شرحه لإنجيل متى: " إن متى في اليهودية كتب إنجيله باللغة العبرية أساسًا من أجل منفعة اليهود الذين يؤمنون بالمسيح" (Jerome, Braef, in Matt) (43) كما قال القديس جيروم بأنه عثر على نسخة من إنجيل متى باللغة العبرية في بيريه بسوريا، وقام بنسخها (راجع الأب متى المسكين - الإنجيل بحسب القديس متى ص26).
6ــ قال القديس "أكليمنضس السكندري": "لأن متى الذي كرز أولًا للعبرانيين كتب إنجيله بلغته الوطنية إذ كان على وشك الذهاب إلى شعوب أخرى وبذلك عوض ما كان مضطرًا لمغادرتهم عن الخسارة التي كانت مزمعة أن تحل بهم بسبب مغادرته إياهم" (44).
وقال "المتنيح الأنبا ديسقورس" أسقف المنوفية في كتابه موجز تاريخ المسيحية طبعة 1949م: " لما حلَّ عليه - أي على القديس متى - الروح القدس وأراد ترك اليهودية طلب منه اليهود الذين اعتنقوا المسيحية أن يكتب لهم الإنجيل باللغة الأرامية" (45). (راجع أيضًا مرشد الطالبين إلى الكتاب المقدَّس الثمين طبعة 1869م ص218).
7ــ يقول "القديس كيرلس الأورشليمي": " إن القديس متى الذي كتب إنجيله بالعبرية هو الذي قال هذا.." ( Cril of Jerusalem Catechet, 14 ) (46).
8ــ يقول "القديس أبيفانيوس": "إن متى هو الوحيد بين كتَّاب العهد الجديد الذي سجَّل الإنجيل وكرز به بين العبرانيين بالحروف العبرية" ( Epiphanius Haer, xxx. 3 ) (47). كما قال أبيفانيوس أن رجلًا يهوديًا متنصرًا قد عثر على إنجيل القديس متى بالعبرية داخل خزانة مغلقة (راجع الأب متى المسكين - الإنجيل بحسب القديس متى ص26).
9ــ ردًا على الذين يتساءلون: كيف يُفقَد إنجيلًا موحى به من اللَّه؟!.. فالحقيقة أن هذا الإنجيل لم يُفقَد ولكنه كُتب باللغة اليونانية، وربما أضاف إليه القديس متى بعض الأحداث والأقوال، ولكن لماذا فعل القديس متى هكذا؟ لابد إذ علم بالروح القدس وفي ضوء نبوات السيد المسيح أن أورشليم ستُدمَّر والهيكل سيُهدَم ولن يترك فيه حجر على حجر لا ينقض، وإن الشعب اليهودي سينال عقوبته الصارمة لرفضه الخلاص المقدم لهم، وأنهم سيتفرقون في الأمم، ولن يعودوا يتكلمون لغتهم الأرامية، وأن سيتحدثون بالأكثر اليونانية لغة العالم الأول حينذاك، لذلك فضَّل كتابة إنجيله ثانية باللغة اليونانية لتعم الفائدة ويستفيد منه يهود الشتات في كل الأمم.
ويقول "القس سمعان كلهون": "وقد بقى متى حسب أقوى الشهادات سنين عديدة يبشر اليهود الذين في اليهودية بالإنجيل، ولذلك اتفقت شهادة الأقدمين على أنه كتب إنجيله لفائدة المسيحيين من أصل يهودي، وأجمع كثيرون على أنه كتبه باللغة الأرامية التي كانت دارجة في ذلك الوقت عند اليهود في الأرض المقدَّسة، ولعل أحد يسأل: كيف اتفق حفظ هذا الإنجيل في اليونانية فقط، وضاع الأصل الأرامي؟ فنجيب: عيَّن القدماء تاريخين لكتابة إنجيل متى، أحدهما من سنة 40 - 45م (باللغة الأرامية)، والآخر من سنة 60 - 65م (باللغة اليونانية)، وهذا يدل على أنه كُتب مرتين. فبعد خراب أورشليم تبدَّد اليهود، وتركوا بالتدريج التكلم بلغتهم، وصارت اللغة اليونانية التي كانت حينئذ شائعة جدًا لغتهم الأغلبية، كما كانت العبرانية قبلًا. ولما عرف متى ذلك قبل حدوثه بالوحي الإلهي، هيأ لهم عندما حان وقت تشتُّتهم إنجيله اليوناني. وأما الإنجيل الأرامي فصار يتلاشى بالتدريج لأنه لم يكن له احتياج. وشهد بعض القدماء أنه وُجدت نسخ منه في الهند في أواخر القرن الثاني، وقال إيرونيموس (الذي عاش في أوائل القرن الخامس) أنه رأى نسخة منه. غير أن كثيرين ينكرون ذلك" (48).
10ــ ذكر بعض الآباء هذا الإنجيل الأرامي، ولكن ولا واحد منهم ذكر محتوياته، ولم يذكر أحد منهم أنه اطلع عليه، فغالبًا عرفوا عنه دون أن يعرفونه، ولم يقتبس أحد منهم شيئًا منه، وبنتينوس هو الذي قال أنه رآه في الهند، والقديس جيروم قال أنه رآه في بريه بسوريا، ولكن لم يسجل أحد منهما محتويات هذا الإنجيل الأرامي، فلا أحد يعرف مدى التشابه أو التطابق بين الإنجيلين الأرامي واليوناني، وكل ما نعرفه وندركه جيدًا أن الإنجيل اليوناني حل إحلالًا كاملًا بدلًا من الأرامي، وهذا يعني أنه حوى كل ما جاء في الإنجيل الأرامي، وغالبًا ما زاد عليه.
11ــ أهملت الكنيسة استخدام هذا الإنجيل الأرامي، لأن بعض الهراطقة وهم ينسخونه حاولوا حذف ما يخص لاهوت المسيح، فيقول "الأب متى المسكين": "ولكن الأسباب التي حاقت بالنسخ الأولى لهذا الإنجيل المكتوب باللغة العبرية فأفقدته رصانته وقانونيته ثم وجوده، هيَ حيازة هراطقة كثيرين لإنجيل ق. متى بالعبرية المحرَّفة (وقد تُرجم هذا الإنجيل أي إنجيل متى بعد أن حذف منه الهراطقة ما يخص لاهوت المسيح فسُمي بالإنجيل المنحول وتسمى أتباعه بالنصارى في بلاد العرب) مما جعل الكنيسة تبتعد عنه، هذا بجوار أن استخدامه بين اليهود توقف فتوقفت نساخته حتى ضاع الموجود منه. وبالمقابل فإن وجود النسخة اليونانية من قديم الزمان وإعتماد الكنيسة عليها، جعل في الظاهر أن إنجيل ق. متى باللغة اليونانية هيَ الأصلي"(49).
_____
(35) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ 3 ص161.
(36) البهريز في الكلام اللي يغيظ جـ 4 ص428.
(37) ترجمة القمص مرقس داود - تاريخ الكنيسة - ط 1960م ص158.
(38) تفسير الكتاب المقدَّس - العهد الجديد جـ 1 من إنجيل متى إلى الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس ص24.
(39) ترجمة القمص مرقس داود - تاريخ الكنيسة ط 1960م ص156.
(40) ترجمة د. نصحي عبد الشهيد - ضد الهرطقات جـ 2 ص16.
(41) ترجمة القمص مرقس داود - تاريخ الكنيسة ط 1960م ص226.
(42) المرجع السابق ص283.
(43) أورده الأب متى المسكين - الإنجيل بحسب القديس متى ص26.
(44) أورده د. موريس تاوضروس - المدخل إلى العهد الجديد ص64.
(45) المرجع السابق ص96.
(46) أورده الأب متى المسكين - الإنجيل بحسب القديس متى ص26.
(47) أورده الأب متى المسكين - الإنجيل بحسب القديس متى ص26.
(48) إتفاق البشيرين - مراجعة وتنقيح القس منيس عبد النور ط 1993م ص30، 31.
(49) الإنجيل بحسب القديس متى ص27.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/new-testament/147.html
تقصير الرابط:
tak.la/3fvncsr