وقال الشيخ رحمة الله الهندي " المُراد بالشعب الجاهل هم العرب لأنهم كانوا غاية الجهل والظلام ولم يكن عندهم علم من العلوم وما كانوا يعرفون إلاَّ عبادة الأوثان وكانوا مُحتقرين في نظر اليهود لكونهم من أولاد هاجر، فالمقصود من الآية أن بني إسرائيل أغاروني بعبادة المعبودات الباطلة فلذلك أُغيرهم باصطفائي لقوم مُحتقرين وجاهلين عندهم ولقد أوفى الله بما وعد وبعث من العرب النبي (ص) فهداهم"(2)(3).
ويقول دكتور أحمد حجازي السقا " لا يوجد في الأسفار الخمسة المنسوبة إلى موسى (ع) أية إشارة إلى أمَّة غبية محددة البلاد والأوصاف يمكن أن يعرف أنها المراد بهذه النبوءة، ولا يمكن أن يُشتَبه إلاَّ في أمة بني إسماعيل ولا يمكن أن تكون الأمة الغبية أمة اليونان"(4)(5).
ج: 1- جاء في نشيد موسى النبي " هم أغاروني بما ليس إلهًا أغاظوني بأباطيلهم. فأنا أغيرهم بما ليس شعبًا. بأمةٍ غبية أغيظهم" (تث 32: 21) وفي نفس الإصحاح في آية سابقة " فرفض الإله الذي عمله... أغاروه بالأجانب وأغاظوه بالأرجاس. ذبحوا لأوثان ليست الله" (تث 32: 16، 17) وقال المرنم " أغاظوه بمرتفعاتهم وأغاروه بتماثيلهم" (مز 78: 58) فواضح أن بني إسرائيل أغاظوا الله بعبادتهم للأوثان والأصنام، ولذلك قال الله أنه سيغيظهم بأن يختار شعوب أخرى، وقد وصف كل شعب من هذه الشعوب التي سيختارها الله أنه شعب غبي... لماذا؟ لأنه يعبد الأصنام. إذًا المقصود بالأمة الغبية التي سيختارها الله هي كل أمة تعبد الأوثان، فعبادة الأوثان تعتبر نوعًا من الغباء، وهذا إشارة إلى افتقاد الله للأمم الذين يعبدون الأوثان فينالون نعمة الإيمان به، وقد قال السيد المسيح " إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في ملكوت السموات. وأما بنو الملكوت فيُطرحون إلى الظلمة الخارجية" (مت 8: 11، 12) وعندما تحدث معلمنا بولس الرسول عن إيمان الأمم قال " لأنه لا فرق بين اليهودي واليوناني لأن ربًّا واحدًا للجميع غنيًا لجميع الذين يدعون به. لأن كل من يدعو باسم الرب يخلص... لكني أقول أَلعلَ إسرائيل لم يعلم. أولًا موسى يقول أنا أُغيركم بما ليس أمَّة. بأمَّة غبية أغيظكم. ثم إشعياء يتجاسر ويقول وُجِدت من الذين لم يطلبوني وصرت ظاهرًا للذين لم يسألوا عني.." (رو 10: 11 - 19) كما قال معلمنا بولس الرسول لمثل هؤلاء الأمم " وأنتم كنتم قبلًا أجنبيين وأعداء في الفكر في الأعمال الشريرة قد صالحكم الآن" (كو 1: 21) بل أعتبر أن الشعب اليهودي عندما نسى وصايا الله سقط في الغباء " لأننا كنا نحن أيضًا قبلًا أغبياء غير طائعين ضالين مستعبدين لشهوات ولذات مختلفة.." (تي 3: 3)".
2- لم يقصد الكتاب المقدَّس بالغباء الجهل بالعلوم والثقافة والأدب، لأنه مكتوب "اختار الله جُهَّال العالم ليخزي الحكماء" (1 كو 1: 27)، والمقصود بالجُهَّال هنا الذين يجهلون معرفة العلوم والثقافة والأدب. لقد قصد الكتاب بالغباء هنا الجهل بمعرفة الله " قال الجاهل في قلبه ليس إله" (مز 14: 1) والعمى الروحي الذي يقود الإنسان إلى عبادة الأصنام البكماء التي لا تنطق ولا تسمع ولا تشعر، عوضًا عن عبادة الله الحي.
3- يقول القمص تادرس يعقوب عن بني إسرائيل " إذ تجاهلوا أبوته الحانية وارتبطوا بالرجاسات يسمح بتأديبهم مستخدمًا ذات الشعب الذي تعلموا منه الرجاسات {أنا أُغيرهم بما ليس شعبًا. بأمَّة غبية أغيظهم} (21). ما يظنه الإنسان سر فرحه ولذته يتحوَّل إلى إذلاله. قوله " أُغيرهم " تحمل الحب الإلهي، فهو يثيرهم للتوبة. يرى القديس بولس (رو 10: 19) في ذلك نبوءة عن قبول الأمم الإيمان لكي يرجع اليهود في آخر الأزمنة ويقبلوا المسيا المُخلص، فكما رفض الشعب الإسرائيلي الله وتعبد لمن هو ليس إلهًا، هكذا رفض الله إسرائيل ودعا الأمم شعبًا مقدَّسًا له لكي يغيرهم"(6).
4- يقول الأرشيدياكون نجيب جرجس عن بني إسرائيل " لقد هيجوا غيرة الرب (بما ليس إلهًا) أي بالآلهة الكاذبة التي ليست في الحقيقة آلهة ولكنها أوثان مصنوعة بأيدي البشر، وهيجوا غيظه (بأباطيلهم) أي بعبادتهم وأعمالهم الباطلة، وكان كل هذا تحديًا للرب القادر على كل شيء، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. ولأجل هذا فهو أيضًا يتحداهم ويهيج غيرتهم وغيظهم (بما ليس شعبًا) أي بشعوب وثنية غريبة عن معرفة الله وعن رعوية إسرائيل فهي لا تستحق أن تكون شعبًا، وإنما هي أمم (غبية) أي عديمة الفهم لأن كل شعب لا يعرف الله الخالق يُعتبر جاهلًا وغبيًا.
وقد تمت هذه النبوءة:
أولًا: من الناحية الاجتماعية بظهور الشعوب التي تحدت بني إسرائيل وضايقتهم من أهمها آشور وبابل...
ثانيًا: روحيًا تشير إلى دخول الأمم والشعوب البعيدة عن الله الإيمان المسيحي في عهد النعمة، وكان هذا تحديًا لشعب الله الذي كان أولى الشعوب بقبول الإيمان بالمسيح، ولكنه أنكر ولم يؤمن... قال الإنجيل المقدَّس في هذا الشأن {إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانًا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنين باسمه} (يو 1: 11، 12)"(7).
5- يقول الدكتور حمدي صادق "فعندما استبدل وجودهم بأرض كنعان بوجود لشعوب أخرى كان يعرف غبائهم مقدمًا أي (الأشوريين والبابليين) فهو إنما صنع هذا ليكون درسًا قاسيًا لابنه العاق إسرائيل كي عندما يغتاظ ذلك الضال لأجل نفسه ولأجل مجده الذي أهمله حينئذ يتمنى العودة مصلحًا طريقه... هكذا يسمح الله أحيانًا لبعض الشعوب الغريبة أن تتسلط على شعبه كي يتركوا طرقهم المعوجة وكبرياء قلوبهم"(8).
6- يقول القس عبد المسيح بسيط " لم يكن العرب عند ظهور الإسلام بمثل هذا الغباء الديني الذي وصفهم به هؤلاء الكتَّاب، ولم يكونوا جميعهم يعبدون الأصنام، بل كان الكثيرون منهم يعبدون الله مثل النصارى واليهود والحنفاء، فقد كان النصارى منتشرين بغزارة في كل أطراف الجزيرة العربية... بل وكان في مكة جالية كبيرة كثيرة العدد من العبيد عُرفوا بالأحابيش وبين هؤلاء عدد كبير من النصارى. وقال اليعقوبي في تاريخه {وأما من تنصر من أحياء العرب، فقوم من قريش من بني أسد بن عبد العزي، منهم عثمان بن الحويرث بن أسد بن عبد العزي، وورقة بن نوفل بن أسد. ومن بني تميم: بنو أمرئ القيس بن زيد مناه، ومن ربيعة: بنو تغلب، ومن اليمن: طئ ومزحج وبهراء وسليح وتنوخ وغسان ولخم}(9) وكانت اليهودية أيضًا منتشرة في الجزيرة العربية مثل يثرب (المدينة المنورة) واليمن واليمامة والعروض ومكة ووادي القرى وتيماء وخيبر والكثير من القرى ومواضع المياه والعيون... إلخ.(10).
كما كان هناك الكثير من الحنفاء أو الأحناف الذين نُعتوا بأنهم كانوا على دين إبراهيم ولم يكونوا يهودًا ولا نصارى، ولم يشركوا بربهم أحدًا، وسفَّهوا عبادة الأصنام، وسفَّهوا رأي القائلين بها، وحرَّموا الأضاحي التي تُذبح لها وعدم أكل لحومها، وحرَّموا الربا، وحرَّموا شرب الخمر ووضعوا حدًا لشاربها، وحرَّموا الزنا ووضعوا حد مرتكبيه، وقاموا بالاعتكاف في غار حراء في شهر رمضان، والإكثار في عمل البر وإطعام المسكين، وكذلك قطع يد السارق، وتحريم أكل الميتة ولحم الخنزير، والنهي عن واد البنات وتحمل تكاليف تربيتهن، والصوم، والاختتان، والغسل من الجنابة، والإيمان بالبعث والنشور والحساب، وأن من يعمل صالحًا يدخل الجنة ومن يعمل سوءًا فإلى سعير... أي أنهم آمنوا بالإله الواحد ودعوا إلى عبادته وحده لا شريك له(11)..
وليس ذلك فقط بل لم يكن بقية العرب بعيدين عن عبادة الله فقد كانوا جميعهم يعبدون الله الواحد وإن كانوا يضعون معه الأصنام كشفعاء... بل وكان هؤلاء العرب يعظمون البيت الحرام (الكعبة) والبلد الحرام، وكذلك الحج والعمرة، وكما يقول خليل عبد الكريم {وجاء الإسلام وورث من العرب [قبلة] هذه الفريضة بذات المناسك ونفس التسميات ولكنه طهرها من مظاهر الشرك"(12)(13).
_____
(1) أحمد ديدات - عتاد الجهاد ص 13.
(2) إظهار الحق جـ 2 ص 208، 209.
(3) أورده القس عبد المسيح بسيط - هل تنبأ الكتاب المقدَّس عن نبي آخر يأتي بعد المسيح ص 73، 74.
(4) نبؤة محمد ص 57 - 59.
(5) أورده القس عبد المسيح بسيط - هل تنبأ الكتاب المقدَّس عن نبي آخر يأتي بعد المسيح ص 74 .
(6) تفسير سفر التثنية ص 609.
(7) تفسير الكتاب المقدَّس - سفر التثنية ص 392، 393.
(8) تفسير سفر التثنية ص 106.
(9) تاريخ اليعقوبي جـ1: 7.
(10) المفصل ص 511 - 522.
(11) الجذور التاريخية ص 23 - 26.
(12) الجذور التاريخية ص 17.
(13) هل تنبأ الكتاب المقدَّس عن نبي آخر يأتي بعد المسيح ص 78 - 80.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/894.html
تقصير الرابط:
tak.la/qbtvdz2