ويقول الأستاذ علاء أبو بكر " لو كان الرب هو المتسبب في إغلاق قلب فرعون ورفضه أن يطلق شعبه، لكان فرعون برئ ولكان كل ما حدث ظلم من الرب لفرعون (حاشا لله!!) وما هي هذه المسرحية؟ إله يُشدّد قلب فرعون لمنعه من إخراج شعبه ثم يرسل نبيه يطلب منه خروج الشعب؟ لماذا؟ فهو يعرف النتيجة مسبقًا، أم هل هو يتلكَّك لإدخال فرعون النار والانتقام منه؟ وبذلك يعطي الرب لنفسه الشرعية والحق في قتل عبده. إله جبار منتقم غاشم يريد أن يستعرض عضلاته ويظلم! سبحان الله وتعالى من ذلك علوًا كبيرًا"(1).
ج: 1- الله بطبيعته رؤوف ورحوم، فجاء في ذات السفر " الرب إله رحيم ورؤوف بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء. حافظ الإحسان إلى ألوف. غافر الإثم والمعصية والخطية. ولكنه لن يُبرئ إبراءً" (خر 34: 6، 7) ودائمًا الله الرحوم يساعد الإنسان على اتخاذ القرار الصحيح، ومن المستحيل أن يدفع الإنسان للشر، لأن هذا ضد رحمته وضد عدله أيضًا، ولهذا أعلن الحق واضحًا أمام فرعون، ولكن فرعون رفض الحق بكامل إرادته، وغلَّظ قلبه، فتركه الله لغلاظة قلبه وإظلام عقله. لقد رفض فرعون الحق والنور وسار في الظلمة فتركه الله لإظلام عقله. قسى فرعون قلبه فتركه الله لقساوة قلبه. أصر فرعون على معصية الله فمنع الله عنه النعمة الإلهية التي تقود الإنسان للتوبة، بل أسلمه الله إلى ذهن مرفوض ففعل ما لا يليق، ولم يستحسن فرعون أن يبقى الله في معرفته أسلمه الله إلى تصلفه وكبريائيه. لقد أعمت العظمة عيني فرعون، فقد كان يعتبر نفسه ابنًا للشمس، ومن أجله يفيض النيل، ومن أجله كانت مصر بكل ما عليها، بل أنه جالس مع الآلهة يتقبل العبادة مثلهم، وكان القسم باسمه يعتبر أعظم قسم يتلوه المصري عندما يقول " وحياة فرعون"، وظن فرعون في البداية أن إله إسرائيل إله حفنة من العبيد فهو إله ضعيف، لذلك قال لموسى وهرون " من هو الرب حتى أسمع لقوله فأطلق إسرائيل. لا أعرف الرب وإسرائيل لا أطلقه" (خر 5: 2).
2- إن كان النص بحسب الظاهر يبدو وكأن الله هو المسئول عن قساوة قلب فرعون، ولكن الحقيقة أن قلب فرعون كان في الأصل قاسيًا للدرجة التي أمر فيها بقتل الأطفال، وتسخيّر العبرانيين في بناء المدن بلا مقابل، ومع هذا فقد بدأ الله مع فرعون بالطلب ولم يستجب، ثم أدبه بالضربات السهلة، فأصر على رأيه، فأخذت الضربات تتزايد قوتها وحدتها ولكن قلب فرعون الذي كُدَّ من حجر الصوان لم يلن، وقد أوضح الكتاب مدى غلاظة قلب فرعون، ومدى إصراره وتحديه للأوامر الإلهية:
أ - بعد أن ابتلعت عصا هرون عصى السحرة " فاشتد قلب فرعون فلم يسمع لهما كما تكلم الرب" (خر 7: 13).
ب- بعد تحويل الماء إلى دم " فاشتد قلب فرعون فلم يسمع لهما كما تكلم الرب" (خر 7: 22).
جـ- بعد ضربة الضفادع " فلما رأى فرعون أنه حصل الفرج أغلظ قلبه" (خر 8: 15).
د - بعد ضربة البعوض " قال العرافون لفرعون هذا أصبع الله. ولكن اشتد قلب فرعون فلم يسمع لهما كما تكلم الرب" (خر 8: 19).
هـ- بعد ضربة الذبان " ولكن أغلظ فرعون قلبه هذه المرة أيضًا فلم يطلق الشعب" (خر 8: 32).
و- بعد وباء الماشية " ولكن غلظ قلب فرعون فلم يطلق الشعب" (خر 9: 7).
ز - بعد ضربة البرد " فاشتد قلب فرعون فلم يطلق بني إسرائيل كما تكلم الرب عن يد موسى" (خر 9: 35).
لقد سبق الرب وأخبر موسى بمدى غلاظة قلب فرعون. حقًا لقد كان فرعون ذو إرادة حديدية في الشر، وقلب متبلد فجرَّ على نفسه وعلى جيشه وعلى شعبه الويلات والهلاك، وكان من الممكن أن ينجو من كل هذه الضربات لو كان لين القلب.
3- أمثلة عملية توضح حالة فرعون:
أ - قد تشرق الشمس على قطعتين من الطين والشمع، فماذا يحدث؟ إن قطعة الطين تجف وتتيبس أما قطعة الشمع فتلين ويسهل تشكيلها، والعيب ليس في حرارة الشمس ولكن في طبيعة المادة، وهكذا كان قلب فرعون مثل قطعة الطين التي جفت ويبست من الحرارة الإلهية، لأن له أذانًا ولا تسمع، وله أعينًا ولا تبصر.
ب - قد تمطر السماء على قطعتين من الأرض، أحدهما صالحة والأخرى غير صالحة، فالأرض الصالحة تنبت أشجارًا مثمرة، والغير صالحة تنبت حسكًا وشوكًا، وليس العيب في مياه المطر، بل في طبيعة الأرض، وهذا ما عبَّر عنه الكتاب عندما قال " لأن أرضًا قد شربت المطر الآتي إليها مرارًا كثيرة وأنتجت عشبًا صالحًا للذين فُلحت من أجلهم تنال بركة من الله. ولكن إن أخرجت شوكًا وحسكًا فهي مرفوضة وقريبة من اللعنة التي نهايتها الحريق" (عب 6: 7، 8).
جـ- صُلب مع السيد المسيح لصان، أعترف أحدهما بخطئه وبقداسة المصلوب وربوبيته فنال الخلاص، وعاند الآخر وركز آماله في الخلاص الجسدي وقسى قلبه فلم يخلص، فالصليب ارتفع باللص اليمين إلى الفردوس، والصليب أيضًا هبط باللص الشمال إلى الهاوية.
د - قال بولس الرسول " لأننا رائحة المسيح الذكية لله في الذين يخلصون وفي الذين يهلكون لهؤلاء رائحة موت لموت ولأولئك رائحة حياة لحياة" (2 كو 2: 15، 16) فرائحة المسيح الذكية واحدة، ولكن البعض يقبلها فيخلص، والآخر يرفضها فيهلك، وهكذا " كلمة الله حية وفعَّالة وأمضى من كل سيف ذي حدين" (عب 4: 12) فهي الطريق للحياة الأبدية لمن يقبلها، وهي تشهد على الذي يرفضها، وتكون دينونة عليه.
4- يقول القديس أغسطينوس " لا يمكنك أن تحسب فرعون مُجردًا من الإرادة الحرة، فكون الله قد قال عنه في عدَّة مناسبات {قسيتُ قلب فرعون} أو {أقسى قلب فرعون} فلا تعني هذه الكلمات بأي حال من الأحوال أن فرعون لم يقسى قلبه بنفسه. لأنه قيل أيضًا في ارتفاع ضربة الذبان عن المصريين {ولكن أغلظ فرعون قلبه هذه المرة فلم يطلق الشعب} (خر 8: 32) إذًا فالله كان يقسي قلب فرعون بقضائه العادل، وفرعون كان يقسي قلبه كذلك بإرادته الحرة"(2).
كما يقول القديس أغسطينوس أيضًا " إن الله لا يقسي الناس بإدخال الخبث في قلوبهم، بل بعدم غرس الرحمة في نفوسهم، وأنه تعالى لا يعمل هذه القساوة في الإنسان بل ربما يصح أن يُقال أنه يُقسي من يرفض باختياره أن يلين، ويُعمي من لا يرضى أن يستنير، ويُقصي عنه من لا يقبل الدعوة. وأنه من العدل والصواب أن يسترجع (الله) تلك الفضائل والنعم التي يقدمها للخاطئ مرارًا فيرفضها بجهل واستكبار"(3).
5 - يقول قداسة البابا شنودة الثالث " عبارة قسى قلبه، تعني تركه لقساوته أي تخلت عنه النعمة، فبقى قاسيًا. وهذا يذكرني بما ورد عن الفاجرين في أول الرسالة إلى رومية {وكما لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم، أسلمهم الله إلى ذهن مرفوض، ليفعلوا ما لا يليق} (رو 1: 28) وعبارة " ذهن مرفوض " هنا تعني " مرفوض من النعمة"، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى... أي أنها حالة تخلي من النعمة، فعلوا فيها ما لا يليق.
وهذا هو الذي حدث مع فرعون، تخلت عنه النعمة بسبب قساوته... الناس هم الذين يتقسون، لهذا قال الكتاب " إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم" (عب 7: 9، مز 95: 7، 8) وفرعون كان قلبه قاسيًا، لم تصلح معه الإنذارات ولا الضربات لاستمراره في رفض عمل النعمة، تخلت عنه النعمة، فرجع إلى قساوته التي فارقته جزئيًا أو ظاهريًا أثناء عمل النعمة فيه. فقيل أن الرب قسى قلب فرعون، أي تركه لطبيعته القاسية. أسلمه إلى ذهنه المرفوض من النعمة"(4).
6- يقول أحد الآباء الرهبان بدير مارمينا العامر " كانت قساوة قلب فرعون ضد الشعب الإسرائيلي متأصلة فيه وهذا واضح من مواقفه منهم، فقد أقام على بني إسرائيل" رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم... فاستعبد المصريون بني إسرائيل بعنف. ومرَّروا حياتهم بعبودية قاسية" (خر 1: 11 - 14) ولقد كانت قساوته هذه قبل أن يرسل له الرب موسى، أي أنها كانت في قلبه من قبل. وعلى هذا فإن قول الرب لموسى عن فرعون " أُشدد قلبه... " فهو إعلان لموسى أن مقاومة فرعون هي بسماح من الرب، وأيضًا إعلان لموسى أنه يعرف مسبقًا ما في قلب فرعون من مقاومة. وهذا بهدف عدم زعزعة إيمان موسى والشعب الإسرائيلي بقدرة الرب إلههم عندما يرون مقاومات فرعون"(5).
7- يقول القس صموئيل يوسف " يرى العلماء أن التعبير {أُقسي قلب فرعون} والتعبير {شدَّد الرب قلب فرعون} يُقصد به طول أناة الله على فرعون ليفسح له المجال الواسع، حتى يستعرض فرعون قوته وقدراته ويُظهر الرب (يهوه) للعالم كله وللتاريخ حجم فرعون أمام اقتدار الرب وسلطانه وسيادته على كل الأرض قائلًا {فأتمجد بفرعون وكل جيشه بمركباته وفرسانه. فيعرف المصريون إني أنا الرب. حتى أتمجد بفرعون ومركباته وفرسانه} (قارن خر 14: 4، 8، 18) وبهذا يمكن القول أن الرب قسى قلب فرعون بأن أظهر لطفه وطول أناته عليه فازداد قساوة وصلابة زاعمًا أنه قادر على سحق إسرائيل. لقد ظهر لطف الله نحو فرعون باستجابة الرب لوساطة موسى. فكان الرب يرفع الضربة عن فرعون والمصريين، ومجرد أن يرى فرعون ذلك، يعود له القلب القاسي من جديد " فلما رأى فرعون أنه قد حصل الفرج أغلظ قلبه ولم يسمع لهما كما تكلم الرب" (خر 8: 15).."(6).
8- يقول ج. س. كونيل J. C. Connell " جدير بالملاحظة أن قساوة القلب بدأت فعلًا من جانب فرعون نفسه ثم بعد ذلك نسبت إلى الله أنه " قسى قلبه " فالله لا يقسي قلب الإنسان ليثور ضده، ولكنه هكذا رسم الأمور حتى أن كل مرة يرفض فيها الإنسان مشيئة الله يصبح قلبه أقل تلبية لدعوة الله التالية. وهكذا يصبح الضمير أقل حساسية ثم يتقسى القلب تبعًا لذلك. فالإنسان هو الذي يقسي قلبه، ولكن في تعبير الكتاب كما يقول هيرتز Hertz تُوصف الحوادث التي هي نتيجة قانون الله في الطبيعة، سواء أكانت طبيعية أم أدبية، على أنها عمل الله مباشرة. وبالإضافة إلى هذه العبارة الهامة نلاحظ أن فرعون حالما قسى قلبه ضربه الله بقساوة قلبية لم يستطع معها التجديد للتوبة (عب 6: 4 - 6) وذلك عقاب حق وإظهار لقوة الله فيه (رو 9: 17، 18) كما ظهرت في سقوط فرعون وفي إنقاذ شعب الله"(7).
9- يقول العلامة وردسوث " أن الله يقول لعبده موسى إني عالم بأن فرعون لا بُد أن يقاوم مشورتي ويستهين بقوتي ويخطئ ضد إنذاراتي وتأديباتي ويرفض كل تحذيراتي ويحول طعامي الروحي إلى سم قتال، ونعمتي إلى دنس، لذلك فإني أقضي عليه بأخذ نعمتي منه وأسلمه إلى ذهن مرفوض"(8).
10- أريد أن أسأل الأستاذ علاء أبو بكر: وما رأيك في النص القائل "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرًا" (سورة الإسراء 15) هل يمكنه أن يفسر هذا النص بحسب الظاهر على أن الله يأمر المترفين بالفسق لأنه يريد أن يدمر قرية ثقيلة الظل، فقط يطلب الحجة لتدميرها؟! أم أنه يفسر هذا النص على أن الله يترك المترفين المعاندين لفسقهم، ويجري عدله الإلهي معهم؟!
_____
(1) البهريز جـ 1 س 112.
(2) شرح سفر الخروج - دير القديس أنبا مقار ص 187، 188.
(3) الغوامض المتعلقة بالمبادئ العمومية الأدبية الواردة في العهدين القديم والجديد ص 22.
(4) سنوات مع أسئلة الناس - أسئلة خاصة بالكتاب المقدَّس ص 46، 47.
(5) من إجابات أسئلة سفر الخروج.
(6) المدخل إلى العهد القديم ص 125.
(7) تفسير الكتاب المقدَّس - مركز المطبوعات المسيحية جـ 1 ص 221، 222.
(8) الغوامض المتعلقة بالمبادئ العمومية الأدبية الواردة في العهدين القديم والجديد جـ 1 ص 18، 19.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/595.html
تقصير الرابط:
tak.la/686yb5g