ج: يقول نيافة الأنبا أثناسيوس المتنيح مطران بنى سويف والبهنسا "الوحي طاقة وليس شكلا، ويمكننا أن نشبه بالتيار الكهربائي الذي يسرى في الأسلاك، وإن كانت العيون لا تراه إلا في ضوء المصباح. الوحي هو الطاقة الحية وليست المصباح المحدد الشكل، فقد نغير المصباح من شكل أنبوبة مستطيلة إلى كرة صغيرة، ومن اللون الأبيض إلى الأزرق أو الأحمر، والطاقة كما هي لا تفقد صفتها... إنها كلمة الله مهما تغيرت العبارة، فلو قلنا مثلًا ".... هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد..." (يو 3: 16) بتركيبات أخرى لظلت هذه الآية كما نقول "أحب الله العالم أي درجة أنه بذل ابنه... " أو "بهذا المقدار أحب الله العام حتى بذل ابنه الوحيد ".. أو غير ذلك الكثير في اللغة العربية أو مئات التعبيرات في اللغات الأخرى... الوحي قوة تملأ فكر وحس الرسول فينطق به بلغة البشر... الروح إذا يضبط الرسول في التعبير "مسوقين" (2بط 1: 21) ويحفظه من الخطأ ويعصمه من الذات، فتجئ التعبيرات في لغة البشر ولكن الروح هو القوة الفعالة فيها"(1).
ولهذا نجد الأسلوب يختلق من كاتب لآخر، ولكن بدون أي تناقض أو تضارب بل في انسجام كامل وتوافق تام، ونشكر الله أنه لا يوجد في كتابنا المقدس آيات تنسخ آيات أخرى فتصبح الآيات المنسوخة عاطلة بلا فائدة، ولا يأتي الله بتشريع ويلغيه بآخر ولكن الله يتدرج بالبشرية من مرحلة لأخرى في طريق الكمال والملكوت.
والوحي لا يتقيد بلغة معينة إنما يستخدم اللغة التي يستخدمها الشعب، فعندما كانت لغة شعب الله هي اللغة العبرية جاءت كتابات العهد القديم بهذه اللغة، وعندما بدأ الشعب يتكلم الآرامية ويصعب عليه فهم العبرية جاءت بعض الكتابات باللغو الآرامية. وكما كانت تقرأ الأسفار المقدسة باللغة العبرية وتترجم فورا للآرامية، ثم ظهرت ترجمات مكتوبة بالآرامية وهي ما دعيت بالترجوم، وكتب العهد الجديد باللغة اليونانية التي كانت سائدة في ذلك الزمان... إذا أوحى لا يتمسك بلغة معينة ولا يفضل لغة على أخرى، ولا ننسى أن تعدد اللغات وبلبلة الألسن جاءت نتيجة لخطية الإنسان وعدم إيمانه بوعد الله أنه لن يجلب طوفانا فيما بعد، ولا ننسى أيضًا أن قصد الله أولًا وأخيرًا أن الجميع يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون ولذلك أوصى تلاميذه أن يذهبوا ويكرزوا للعالم أجمع وأعطاهم أ يتكلموا بلغات مختلفة، ولم يضع الله ثقلا على الإنسان لا يستطيع القيام به، فمثلا لم يوصى أنبياءه بالكتابة باللغة العبرية فقط وحظر عليهم الترجمة، وفرض على كل من يريد أن يعرفه أن يتعلم العبرية أولًا.
أما عن دور الوحي في كتابة الأسفار المقدسة فيمكن أن نلخصه في الآتي:
أ- يختار الله بعض القديسين ويحرك قلوبهم للكتابة، وقد يأمرهم مباشرة كما قال لموسى "فقال أكتب هذا التذكار..." (خر 17: 14) وكما قال لأرميا "خذ لنفسك درج واكتب فيه كل الكلام الذي كلمتك به..." (أر 36: 2).
ب- يترك روح اله للكاتب حرية اختيار الألفاظ والأسلوب والكلمات، فلذلك نرى داود النبي يكتب بلغة الراعي، وسليمان بلغة الحكيم، وبولس بلغة الفيلسوف وهكذا، وفي نفس الوقت لا يسمح له باستخدام ألفاظ خارجة، إنما يساعده على انتقاء واختيار الكلمات المناسبة، وفي كل هذا لا يلغى الروح القدس شخصية الكاتب ولا اجتهاده الشخصي، ولذلك يقول معلمنا لوقا الإنجيلي "رأيت أنا أيضًا إذ قد تتبعت كل شيء من الأول بتدقيق" (لو 1: 3) وبلا شك إن تتبع كل شيء بتدقيق يحتاج إلى جهد كبير، وقال سفر المكابيين الثاني "تلك الأمور التي شرحها ياسون القيرواني في خمسة كتب قد أقبلنا نحن على اختصارها في درج واحد... فلم يكن تكلفنا لهذا الاختصار أمرا سهلا وإنما تم بالعرق والسهر" (2 مك 2: 24، 27) كما يقول أيضًا "فإن كنت قد أحسنت التأليف وأصبت الغرض فذلك ما كنت أتمنى وإن كان قد لحقني الوهن والتقصير فإني قد بذلت وسعى" (2 مك 15: 39) فتعبيرات هذا الكاتب توضح تماما احتفاظ الكاتب بشخصيته وهويته ودراساته واقتباساته وتعبه وعناءه، وكل هذا لا يتعارض مع عمل روح الله معه في إرشاده للحق وعصمته من الخطأ.
ج- يكون الكاتب أثناء الكتاب تحت هيمنة وسيطرة روح الله الذي يحفظه ويعصمه من الخطأ أثناء الكتابة.
د- يكشف روح الله للكاتب ما خفي عنه مثلك اكشف لموسى عن أيام الخليقة، ويضع على فم النبي نبوءات قد لا يدرك أغوارها.
_____
(1) وحدة الكتاب المقدس ص 14- 16.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/48.html
تقصير الرابط:
tak.la/3wj8pm5