أولًا: أن يوم الخلق يمثل حقبة زمنية معينة قد تشمل ملايين السنين، فكلمتي " مساء وصباح " لا تعنيان غروب الشمس وشروقها، إنما تعنيان انتهاء مرحلة من مراحل الخلق، وقد تقدم المساء على الصباح لأن الظلمة كانت أولًا على الأرض واستمرت فترة طويلة ثم لاح النور عندما قال الله " ليكن نور فكان نور " فالمقصود بيوم الخلق حقبة زمنية معينة، وساق أصحاب هذا الرأي الأدلة الآتية:
1- بعد أن ذكر الإصحاح الأول أن الله خلق السماوات والأرض في ستة أيام، عاد في الإصحاح الثاني ليجملها في يوم واحد فقال " هذه مبادئ السموات والأرض حين خُلقت. يوم عمل الرب الإله الأرض والسموات" (تك 2: 4).
2- لم يذكر الكتاب نهاية اليوم السابع، فنحن مازلنا للآن نعيش في اليوم السابع " وبارك الله اليوم السابع وقدَّسه. لأن فيه استراح من جميع عمله الذي عمل الله خالقًا" (تك 2: 3) ولم يذكر الكتاب " وكان مساء وكان صباح يومًا سابعًا " أما اليوم الثامن فهو يشير للأبدية التي لا نهاية لها.
3- يقول الكتاب " لأن يومًا واحدًا في ديارك خير من ألف" (مز 84: 10).. " لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعدما عبر وكهزيع من الليل" (مز 90: 4).. " ولكن لا يُخفَ عليكم هذا الشيء الواحد أيها الأحياء أن يومًا واحدًا عند الرب كألف سنة وألف سنة كيوم واحد" (2بط 3: 8).
4- اليوم النبوي في الكتاب كان يشير لسنة كاملة، فعندما تنبأ دانيال عن مجيء المسيا المخلص حدد الوقت بـ490 يومًا، وهو يقصد 490 سنة " سبعون أسبوعًا قُضيت على شعبك وعلى مدينتك المقدَّسة لتكميل المعصية وتتميم الخطايا ولكفارة الإثم وليؤتي بالبر الأبدي ولختم الرؤيا والنبوءة ولمسح قدوس القدوسين" (دا 9: 24).
5- جاءت كلمة يوم في الكتاب المقدَّس أحيانًا لتعبر عن جزء من اليوم " فكان يونان في جوف الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ" (يون 1: 17).
6- وجاءت كلمة يوم في الكتاب أحيانًا لتعبر عن لحظات أو دقائق " اليوم إن سمعتم صوته فلا تقسوا قلوبكم" (مز 95: 7، 8).
7- وكلمة يوم تعبر أيضًا عن المستقبل " اسمع يا إسرائيل أنت اليوم عابر الأردن لكي تدخل وتمتلك شعوبًا أكبر وأعظم منك ومدنًا عظيمة ومحصنة إلى السماء" (تث 9: 1).
8- يستمر اليوم في القطبين سنة كاملة، ستة أشهر ليلًا وستة أشهر نهارًا تقريبًا.
وقال القديس أغسطينوس أن أيام الخلق مختلفة عن الأيام الحاضرة، وقال المتنيح العلامة الأسقف الأنبا إيسوذورس " لم يقصد بالأيام المذكورة الأيام التي في عرفنا، التي يحد كل منها شروق الشمس وغروبها، لأن الأيام الثلاثة التي تقدمت على ظهور الشمس والقمر لم تكن أيامًا طبيعية لعدم ظهور شمس في أولها وغروب شمس في آخرها، فيلزم أن تكون الأيام التي تلتها هي كذلك، وهذا الرأي قديم في الكنيسة أقرَّه الذهبي الفم في شرح سفر الخليقة وعزَّزه بشتى النصوص التي ورد فيها ذكر اليوم مرادفًا لذكر الزمن، وعليه فيكون المُراد من الأيام الستة الأزمنة الستة"(1) وقال نيافة المتنيح الأنبا غريغوريوس " أن كلمة (يوم) كما هي في لغة العبرانيين التي كُتب بها سفر التكوين تحتمل زمانًا غير محدد بالنظام الشمسي"(2).
ثانيًا: أيام الخلق قصيرة جدًا، ولكن بينها فترات زمنية طويلة، فقال " بيتر و. ستونر Peter Stoner عالِم الرياضيات والفلك " واعتقادي الشخصي أن معظم أيام سفر التكوين هي فترات زمنية قصيرة جدًا تفصل بينها أوقات طويلة للغاية. إن معظم أعمال الله المسجلة في تكوين (1) يمكن التحقق منها بالتغيُّرات الكبيرة المستفيضة المسجلة في علم الجيولوجيا. حيث يذكر حدوث تغيرات هائلة في أشكال الحياة بين أي طبقتين جيولوجيتين تسبب ظهور أشكال جديدة كثيرة من الحياة في آن واحد واختفاء أشكال كثيرة سابقة فجأة (ليس القصد بالاختفاء اختفائها من الوجود ولكن اختفاء الحفريات منها) هذه التغيُّرات التي تناظر لحظات الخلق في سفر التكوين فجائية لدرجة أنه لا توجد أي طبقة -مهما كانت قليلة السُمك- تحتويها بل أن التركيب الجيولوجي للأرض يقفز فجأة من طبقة إلى أخرى في الحفريات"(3).
ثالثًا: أيام الخلق أيام عادية، كل منها يبلغ 24 ساعة فقط ولاسيما الأيام الثلاث الأخيرة بعد عمل الشمس، وأصحاب هذا الرأي يسوقون الأدلة الآتية:
1- عندما تقترن كلمة " أيام " في الكتاب المقدَّس بعدد معين فإنها تعني أيام وليس فترات زمنية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. فمثلًا عندما قال الكتاب أن الطوفان استمر أربعين يومًا (تك 7: 17) وأن المياه نقصت بعد 150 يومًا (تك 8: 3) وأن إبراهيم سار مع إسحق ثلاثة أيام (تك 22: 4) وأن الجواسيس أمضوا في أرض كنعان أربعين يومًا (عد 13: 25) وأن يونان أمضى في بطن الحوت ثلاثة أيام (يون 1: 17) وأن السيد المسيح أمضى في القبر ثلاثة أيام (مت 12: 14) وأنه صعد إلى السماء بعد القيامة بأربعين يومًا (أع 1: 3) فهذه كلها أيام حرفية.
2- أوضح سفر الخروج أن أيام الخلق ستة أيام بالمعنى الحرفي، ولذلك جعل الراحة في اليوم السابع " ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك. وأما اليوم السابع ففيه سبت للرب إلهك... لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر وكل ما فيها. واستراح في اليوم السابع" (خر 20: 9، 11) ويقول " هنري موريس".. " ما كان يمكن لهذه الوصية الإلهية أن تكون لها قوة لو لم تكن قاعدة أسبوع العمل والراحة عند الإنسان متساوية أو معادلة تمامًا لأسبوع العمل والراحة عند الخلق"(4)(5).
3- إن الأرض خُلقت في اليوم الأول " في البدء خلق الله السموات والأرض" (تك 1: 1) ويقول برسوم ميخائيل " فالأرض كانت موجودة بالفعل، ولكن ملفوفة في قماط من غمر يكسوه قماط آخر من ظلمة. ولما أشرق عليها نور اليوم الأول بدأ يتعاقب عليها الليل والنهار بدورانها أمام النور، كما يتعاقبان الآن تمامًا بدورانها أمام الشمس"(6).
4- ردًا على القائلين بأن الأيام الثلاث الأول قبل عمل الشمس عبارة عن أحقاب زمنية، والأيام الثلاث الأخيرة بعد عمل الشمس هي أيام عادية، ذكر الكتاب عن الأيام الستة " وكان مساء وكان صباح يومًا... " بدون تفريق، فلو كان المقصود بالأيام الثلاثة الأولى أحقاب طويلة، والأيام الثلاث التالية أيام حرفية لأوضح الكتاب المقدَّس هذه الحقيقة، ويقول " هنري م. موريس".. " إن هناك رأيان الأول: يفيد أنها تلك التي استخدمت قبل خلقة الشمس في اليوم الرابع وتعني حقبًا زمنية. أما كلمة يوم بعد خلقة الشمس فتعني يوم شمسي أي 24 ساعة. والرأي الثاني: يفيد أن كلمة يوم وردت في العهد القديم أكثر من 700 مرة، وأن هناك كلمة عبرية ترجمتها " دهر " أي " وقت طويل لا نهائي " والتي كان من الممكن أن يستخدمها الوحي للتعبير عن الثلاثة الأيام الأولى إذا كان ذلك هو المعنى المقصود، لكن الله استخدم كلمة يوم وكلمة أيام دون أن يُلمح أنه استخدمها بصورة رمزية، وهذا معناه أنها استخدمت بالمعنى الحرفي، وأن ستة أيام الخليقة إنما هي أيام عادية يدل كل يوم منها 24 ساعة"(7).
5- لو كانت الأيام الثلاث الأخيرة أحقاب زمنية لاستحالة الحياة على النباتات والبحريات والحيوانات، فلو فرضنا أن اليوم من هذه الأيام يمثل حقبة تُقدَّر بعشرة ملايين من السنين، فمعنى هذا أن الليل استمر خمسة ملايين، والنهار خمسة ملايين أخرى، فكيف تحيا النباتات والبحريات والحيوانات في ظلام دامس وبرودة تصل لدرجة التجمد أو تزيد لمدة خمسة ملايين سنة، ثم تعيش هذه الكائنات في نور دائم وحرارة قاسية لدرجة الاشتعال لمدة خمسة ملايين سنة أخرى؟!!
6- حدَّد الكتاب عمر آدم بتسعمائة وثلاثين سنة (تك 5: 5) فلو كان آدم خُلق في بداية نهار اليوم السادس، فهو بهذا يكون قد عاش نصف حقبة (نهار اليوم السادس) والتي قد تقدَّر بملايين السنين. إذًا عمره ليس 930 سنة إنما يتجاوز ملايين السنين!!.
7- الذين يقولون أن الكتاب لم يذكر " وكان مساء وكان صباح يومًا سابعا " يرد عليهم أصحاب هذا الرأي، بأن السبب هو توقف أعمال الخلق، فلم يعد هناك أعمال خلق جديدة، ولذلك لم يعد هناك داع لاستعمال تعبير المساء والصباح.
8- إن الخلق لم يستغرق إلاَّ لحظات قليلة " لأنه قال فكان. هو أمر فصار" (مز 33: 9) فما الداعي لليوم الطويل الذي يمثل حقبة زمنية طويلة؟!
9- قال الكتاب " كان مساء وكان صباح يومًا واحدًا " ولم يقل " كان مساء وكان صباح حقبة واحدة " ولو قصد الله بأيام الخلق الستة أحقاب زمنية لأوضح ذلك، كما أوضح لنا حقيقة " الدهور الآتية" (أف 2: 7).
10- فهم اليهود أن المقصود بيوم الخلق أربعة وعشرين ساعة، ولذلك استخدموا نفس المفهوم في التعبير عن أيامهم (لا 23: 32، مز 55: 17) ومازالوا يبدأون يومهم بالمساء قبل الصباح.
11- يقول د. فوزي إلياس " من الثابت فلكيًا أن الأرض في مبدئها كانت تدور حول محورها مرة كل أربع ساعات، ولما وُجِد القمر وأثرت جاذبيته (المتبادلة مع الأرض) أبطأت حركة الأرض حتى أصبحت تدور حول محورها كل 24 ساعة"(8).
وقد ناقش " هيربرت وولف " مشكلة أيام الخلق الستة وطرح عدة آراء متباينة وهي:
اليوم مجرد أربعة وعشرون ساعة - اليوم عبارة عن حقبة زمنية - نظرية اليوم المجزء - نظرية العمل الإطاري - نظرية اليوم الموحى به
أولًا: اليوم مجرد أربعة وعشرون ساعة: فإن الله الكلي القدرة قادر أن ينتهي من هذه الأعمال العظيمة في هذه الأيام المحدودة، ولكن يقف ضد هذا الرأي ما يلي:
1- إن الشمس لم تبدو في الوجود إلاَّ في اليوم الرابع، فكيف تم قياس الأيام الثلاثة الأولى، ولكن تم الرد على هذا الاعتراض أن الله خلق الشمس منذ اليوم الأول.
2- لو كان اليوم السادس أربعة وعشرون ساعة فقط، فكيف يكفي لخلقة الحيوانات، ثم خلقة آدم وتسميته لجميع الحيوانات والطيور، ونومه وخلق حواء.
ثانيًا: اليوم عبارة عن حقبة زمنية The Day - Age Theory: ولاسيما إن الكتاب قد أشار لهذه الحقيقة عندما قال " لأن ألف سنة في عينيك مثل يوم أمس بعدما عبر وكهزيع من الليل" (مز 90: 4) و" إن يومًا واحدًا عند الرب كألف سنة وألف سنة كيوم واحد" (2 بط 3: 8) ويعترض البعض على هذه النظرية للسببين الآتيين:
1- كيف ظهرت النباتات في اليوم الثالث واستغرقت حقبة استمرت ملايين السنين، مع إن الشمس لم تبدو إلاَّ في اليوم الرابع أي الحقبة الرابعة.
2- كيف كانت تتم عملية تلقيح النباتات، بينما الحشرات والطيور التي تحمل حبوب اللقاح لم تُخلق إلاَّ في اليوم الخامس؟
ثالثًا: نظرية اليوم المجزء The Intermittent Day Theory: وهي تجمع بين النظريتين السابقتين، فاليوم يشمل أربعة وعشرون ساعة، وبين كل يوم وآخر حقبة زمنية طويلة. إذًا اليوم يعني يومًا عاديًا وحقبة زمنية في نفس الوقت، ونهاية كل يوم تشير إلى نهاية مرحلة من مراحل الخلق.
رابعًا: نظرية العمل الإطاري The Framework Theory: وتعتمد هذه النظرية على التناسق بين الأيام الثلاثة الأولى من الخلق، والثلاث الأيام التالية، فاليوم الأول الذي وُجِد فيه " النور " يقابل اليوم الرابع التي بزغت فيه أنوار الشمس والقمر والنجوم، واليوم الثاني الذي ظهر فيه الغلاف الجوي وتم الفصل بين المياه التي على الأرض والمياه التي فوق الجلد يقابل اليوم الخامس التي خُلقت فيه الطيور التي تطير في الهواء والأسماك التي تسبح في المياه، واليوم الثالث الذي ظهرت فيه الأرض والنباتات يقابل اليوم السادس الذي خُلقت فيه الحيوانات التي تدب على الأرض وكذلك الإنسان، واعترض البعض أن البحار وُجِدت في اليوم الثالث بينما خُلقت الأسماك في اليوم الخامس، فالتوافق هنا بين اليوم الثالث والخامس، ورد أصحاب النظرية عليهم بأن اليوم الخامس الذي خُلقت فيه الأسماك يتناسق مع اليوم الثاني الذي نُظمت فيه المياه فوق الجلد وتحته.
خامسًا: نظرية اليوم الموحى به The Revelatory Day Theory: وتتحاشى هذه النظرية كل الأمور الزمنية ومشاكلها، ويعتمد على أن الله كشف لعبده موسى النبي قصة الخلق في رؤيا استغرقت ستة أيام، فسجلها موسى كما رآها في الرؤيا، والحقيقة أنه لا يوجد أي إشارة في الكتاب المقدَّس لهذه الرؤيا، إنما يوضح النص حقيقة الخلق وترتيب الخليقة بحسب كل يوم من الأيام الستة(9)(10)
ومما يُذكَر رغم أن القرآن لم يذكر قصة الخلق كرواية كاملة، وإنما كفقرات متناثرة قد أوضح أن أيام الخلق ستة أيام فقال " الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم إستوى على العرش" (سورة السجدة 3).. " إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش" (سورة الأعراف 54) وأشار القرآن أيضًا أن اليوم قد لا يعني 24 ساعة بل يعني فترة زمنية، فقال " ثم يعرج إليه في يومٍ كان مقداره ألف سنة مما تعدُّون" (سورة السجدة 5).. " تعرج الملائكة والروح في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة" (سورة المعارج 4).
_____
(1) الإخاء والسلم بين الدين والعلم طبعة 1938م ص 6.
(2) مقالات في الكتاب المقدَّس جـ 2 ص 76.
(3) ترجمة أنيس إبراهيم - العلم يشهد ص 80.
(4) الكتاب المقدَّس والعلم الحديث ص 31.
(5) أورده برسوم ميخائيل - حقائق كتابية جـ 1 ص 69.
(6) المرجع السابق ص 70.
(7) ترجمة نظير عريان ميلاد - الكتاب المقدَّس ونظريات العلم الحديث ص 56.
(8) ستة أيام الخليقة ص 21.
(9) راجع مقدمة للأسفار الخمسة من العهد القديم ص 84 - 88.
(10) قام الأستاذ الفاضل بشرى جرجس خليل أستاذ اللغة الإنجليزية بإكليريكية طنطا بترجمة ما يخص سفر التكوين من هذا المرجع بتصرف. ثم قمت بتبسيط ما تم ترجمته في الجزئية السابقة.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/174.html
تقصير الرابط:
tak.la/4v5pwjt