س 1681: هل للموت ظل؟ وأين يقع وادي ظل الموت: "أَيْضًا إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لاَ أَخَافُ شَرًّا لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي" (مز 23: 4)..؟ وما الداعي للتكرار "عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ"..؟ وهل داود يشيد بنوع الخمر الذي يتعاطاه "كَأْسِي رَيَّا" (مز 23: 5)؟
ج: 1- عندما تحدث داود عن " وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ" كان يقصد المحن والتجارب والمصائب والكوارث والظلمات التي كانت تحيط به، ومطاردة شاول له، وقيام الأعداء عليه، حتى قال: "يا رب مَا أَكْثَرَ مُضَايِقِيَّ. كَثِيرُونَ قَائِمُونَ عَلَيَّ... لاَ أَخَافُ مِنْ رِبْوَاتِ الشُّعُوب الْمُصْطَفِّينَ عَلَيَّ مِنْ حَوْلِي" (مز 3: 1، 6).. وبنفس المشاعر يقول المُرنّم: "مِنَ الضِّيقِ دَعَوْتُ الرَّبَّ فَأَجَابَنِي مِنَ الرُّحْبِ. الرَّبُّ لِي فَلاَ أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُ بِي الإِنْسَانُ" (مز 118: 5، 6)، وأشار الرب إلى مهالك الصحراء على أنها أرض ظل الموت: "أَرْضِ قَفْرٍ وَحُفَرٍ فِي أَرْضِ يُبُوسَةٍ وَظِلِّ الْمَوْتِ فِي أَرْضٍ لَمْ يَعْبُرْهَا رَجُلٌ وَلَمْ يَسْكُنْهَا إِنْسَانٌ" (إر 2: 6)، وتنبأ إشعياء عن العصر المسياني قائلًا: "الْجَالِسُونَ فِي أَرْضِ ظِلاَلِ الْمَوْتِ أَشْرَقَ عَلَيْهِمْ نُورٌ" (إش 9: 2).
2ــ تعبير " ظِلِّ الْمَوْتِ" يشبه تعبير " أَبْوَابِ الْمَوْتِ" (مز 9: 13) وقد سبق الحديث عنها فيُرجى الرجوع إلى س 1653، وليس المقصود بوادي ظل الموت مكانًا محددًا، بل هو حالة كل إنسان يهدَّده الموت من كل اتجاه، وقد جاز داود في هذه الحالة ولم يخشى شيئًا لأن الرب كان معـه يحفظه ويُظلّل عليه ويحميه، ويقول "الراهب القس أوغريس السرياني": "يقصد المُرنّم بظلال الموت بالمعنى الحرفي الأمكنة المظلمة الشريرة التي تؤدي إلى الموت والهلاك، وبالمعنى الروحي الشدائد والضيقات التي يسمح بها الله بتنقية الرعية من شوائب الحياة الروحية التي تتنقى وتستحق حياة المجد" (240).
وقد أحتسب داود أن الضيقات والأخطار التي تطارده حتى الموت مجرد ظل لا يخشاه، ولذلك لم يقل: وادي الموت، بل قال: "وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ"، وكما أن ظل الأسد لن يفترس أحدًا، وظل السيف لن يذبح أحدًا، هكذا وادي ظل الموت لا خطورة منه مادام الله معنا... لقد صار وادي ظل الموت مأنوسًا للسائرين في دروبه مادام الرب معهم، وجاء في "الموسوعة الكنسية": "أن ظل الموت يرمز إلى الموت الجسدي، أما الموت الحقيقي، فالمقصود به الموت الروحي، أي الهلاك الأبدي. ولذا فالمقصود بالآية أنه أثناء حياتنا في العالم حتى نهايتها بالموت لا نخاف شرًا، لأن الله معنا، بل أن الموت الجسدي يؤدي إلى انطلاق للحياة الأبدية" (241).
ويقول "القمص بيشوي كامل": "يُقصد بوادي ظل الموت:
1ــ التجارب والآلام والضيقات والاضطهادات في هذا العالم.
2ــ موت الجسد يُدعى ظل الموت، لأننا نجتازه إلى حياة أفضل. أما موت الخطاة فهو موت أبدي وليس ظلًا. لكن مادام الله معنا فنحن أحياء حتى ولو متنا بالجسد "مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا" لذلك قال: "لاَ أَخَافُ شَرًّا لأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي".
أنت يا رب معنا وساكن فينا. فنحـن بك نجتاز وادي ظل الموت بلا خوف، والخوف يعني قلة الإيمان بوجودك معنا" (242).
والأمر العجيب أن المُرنّم لا يقول أنني أركض أو أهرول كخائف ومرتعب، ولكنه يقول " إِذَا سِرْتُ" سير الواثق فـي أنه مجرد عابر في هذا الوادي، فحتى القبر لم يعد المقر النهائي لنا، إنما هو طريق العبور للسماء... يسير الإنسان في وادي ظل الموت في طمأنينة لأن الرب يهدي خطواته، وقال إرميا النبي: "عَرَفْتُ يا رب أَنَّهُ لَيْسَ لِلإِنْسَانِ طَرِيقُهُ. لَيْسَ لإِنْسَانٍ يَمْشِي أَنْ يَهْدِيَ خَطَوَاتِهِ" (إر 10: 23).
3ــ الوادي هو شق عميق بين جبلين، وفي الجبال تكمن الوحوش الكاسرة، ويقول "الأب متى المسكين": "لا تزال صورة الراعي في ذهن صاحب المزمور، طرق فلسطين الجبلية حيث الرعي فيها مرتفعات ومنخفضات ومعوجات وانحدارات سريعة وكهوف تلبد فيها الحيوانات المفترسة، ففي هذه يقع الخوف من الموت المفاجئ والفزع والرعبة من مناظر الحيوانات المفترسة. ولكن في وسط هذه الأرض كان داود لا يخاف شرًا" (243).
والوادي ضيق تغيب عنه الشمس أولًا ثم تغيب عن القمم التي تحيط به، فجاء تعبير " وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ" كاصطلاح عبري يعبر عن الظلام الكثيف، فهو يشير للمنحنيات الخطرة التي يتعرض لها الإنسان في مسيرته تجاه الملكوت، ولكن الله ينجيه منها كقول أيوب: "يَكْشِفُ الْعَمَائِقَ مِنَ الظَّلاَمِ وَيُخْرِجُ ظِلَّ الْمَوْتِ إِلَى النُّورِ" (أي 12: 22)، وقال عاموس النبي: "اَلَّذِي صَنَعَ الثُّرَيَّا وَالْجَبَّارَ وَيُحَوِّلُ ظِلَّ الْمَوْتِ صُبْحًا" (عا 5: 8)، ويقول "فخري عطية": ولكن "ظِلِّ الْمَوْتِ" لا يؤخذ بمعنى واحد، فليس الموت وحده المقصود هنا، بل يمكن أن يكنى "بظل الموت" عن آلام الطريق وأحزانها، ففي ساعة التجربة، ساعة الظلام، حيث تقع ظلال الموت على سبيلي، فأنه لا يتركني ولا يحرمني رفقته المباركة، فأجتازها مطمئنًا وأُخرج منها سالمًا، إذ يحوّل "ظِلِّ الْمَوْتِ" صبحًا (عا 5: 8)، في (إش 43: 2) يصور النبي أحزان الطريق وآلامها بكنايات ثلاث: مياه، أنهار، نار. فيقول: "إِذَا اجْتَزْتَ فِي الْمِيَاهِ فَأَنَا مَعَكَ وَفِي الأَنْهَارِ فَلاَ تَغْمُرُكَ. إِذَا مَشَيْتَ فِي النَّارِ فَلاَ تُلْذَعُ وَاللَّهِيبُ لاَ يُحْرِقُكَ". فمهما كانت المياه عميقة فإن الوعد لنا هو "أَنَا مَعَكَ "، ومهما كانت الأنهار هائجة، فأنها لا يمكن أن تغمرنا ومهما كانت النار شديدة فأنه قادر أن يحفظنا فيها فلا تسقط شعرة من رؤوسنا كما حدث مع الفتية الثلاثة في الآتون المحمــي سبعة أضعــاف (دا 3)" (244).
4ــ في قوله "عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ" لا يوجد تكرار، لأن لكل من العصا والعكاز معنى مختلف عن الآخر، فالعصا تستخدم لتأديب البنين، ولرد الضال والشريد، ولطرد اللصوص والمعتدين. أما العكاز فيستخدمه الإنسان ليتوكأ عليه في الطرق الوعرة أو الموحلة، وهو معين للإنسان في شيخوخته، ويقول "الأب متى المسكين": "الراعي يحمل عصا طويلة معقوفة حتى يستطيع أن يلتقط الغنمة التي تركت القطيع من بعيد، كما يهش بها على غَنَماته لتسير يمينًا أو يسارًا. هذا هو العكاز، أما العصا عند الراعي هيَ قصيرة لا تزيد عن 80 سم وفي آخرها رأس به نتوءات أو مسامير حديد، هذه يدافع بها ويضرب الحيوانات المهاجمة فهيَ سلاحه الممتاز" (245).
5ــ قول داود " كَأْسِي رَيَّا" أي أن هذه الكأس ترويني، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وفي "الترجمة القبطي": "وكأسك ترويني مثل الصرف" والصرف هنا الخمر، وبالطبع ليس المقصود أن داود كان مُعَاقِرًا للخمر، لكن الخمر في الكتاب المقدَّس تشير للفرح، وقال داود النبي في مزمور آخر: "يَرْوَوْنَ مِنْ دَسَمِ بَيْتِكَ وَمِنْ نَهْرِ نِعَمِكَ تَسْقِيهِمْ. لأَنَّ عِنْدَكَ يَنْبُوعَ الْحَيَاةِ. بِنُورِكَ نَرَى نُورًا" (مز 36: 8، 9)، وفي مزمور ثالث يقول داود: "الرَّبُّ نَصِيبُ قِسْمَتِي وَكَأْسِي" (مز 16: 5). وفي الولائم التي يقيمها العظماء كلما نقصت كؤوس الضيوف من الخمر والمشروب تستكمل لكيما تكون دائمًا ممتلئة، ويقول "القس وليم مارش": "في هذا العدد يتحوَّل المُرنّم إلى صورة جديدة وفكر جديد. وإذا الرب هنا يصبح المُضِيف ونحن ضيوفه. ومتى دخل البيت فلا يستطيع المضافون أن يفعلوا شيئًا لأنهم أصبحوا تحت حماية المُضِيف الذي يعدها أكبر إهانة له إن أمتهنهم أحد داخل بيته. بل هذا المُضِيف يسمح بأن تكون مائدته سخية كريمة ثم يملأ الكأس تمامًا، فيأكل هذا الضيف بريئًا ويشرب هنيئًا. بل أن المُضِيف يكرمه كما على مائدة فخمة ملكية، فيمسح ضيفه بالزيت المطيب" (246).
ويقول "القمص بيشوي كامل": "بهذه الكأس ارتوى الشهداء عند ذهابهم للعذاب، لقد كانوا سكارى في حب المسيح. وبهذه الكأس ارتوى النُساك ولُباس الصليب محبة في الملك المسيح. وبهذه الكأس ارتوى أولاد الله في دراستهم للإنجيل: "كَلَّتْ عَيْنَايَ مِنَ النَّظَرِ إِلَى وَصاياكَ".. وبهذه الكأس ارتوى أولاد الله شكرًا لأجل إحسانات الرب وخلاصه: "مَاذَا أَرُدُّ لِلرَّبِّ مِنْ أَجْلِ كُلِّ حَسَنَاتِهِ لِي. كَأْسَ الْخَلاَصِ أَتَنَاوَلُ وَبِاسْمِ الرَّبِّ أَدْعُو" (مز 116: 11، 13)" (247).
ويقول "أبونا غريغوريوس آڤا مينا": مزمور"الرَّبُّ رَاعِيَّ" مزمور مملوء بالفرح والتعزيات لكل نفس تسير في درب الملكوت مثل حمل صغير يقودها راعيها في مسالك هذه الحياة، فيأخذها إلى المراعي الخضراء وإلى مياه الراحة، وينقذها من كل خطر، يؤدبها بعصا الوداعة ويرشدها ويقويها بعكازه، يهيئ لها مائدة النصرة وكأس الفرح، وتسكن في بيتـه إلى الأبد... قال داود النبي: "تُرَتِّبُ قُدَّامِي مَائِدَةً تُجَاهَ مُضَايِقِيَّ. مَسَحْتَ بِالدُّهْــنِ رَأْسِي. كَأْسِي رَيَّا" (مز 23: 5) هذه الثلاث، المائدة والمسحة والكأس، معروفة جيدًا في ولائم الشعب اليهودي، الذي كان يتناول الخمر كمشروب يقوي ويفرح القلب، ولاسيما في أوقات الاحتفالات والأعياد، ولم يكن بقصد السُكْر، لأن السُكْر رذيلة حذر منها الكتاب المقدَّس (أم 20: 1، 23: 20، سي 19: 2، 31: 35). وكانت كثرة الخمر والحنطة علامة بركة من الله، ورضى عن شعبه: "وَيُحِبُّكَ وَيُبَارِكُكَ وَيُكَثِّرُكَ وَيُبَارِكُ ثَمَرَةَ بَطْنِكَ وَثَمَرَةَ أَرْضِكَ: قَمْحَكَ وَخَمْرَكَ وَزَيْتَكَ" (تث 7: 13).
ولكن ما المقصود بعبارة "كَأْسِي رَيَّا"..؟ لقد فاض علينا الكتاب المقدَّس بغناه وغزارة معانيه، فنحن نسبح في بحر من المعاني الروحية التي يعجز الذهن عن الإلمام بها جميعًا، وهذا المزمور يمثل قطعة أدبية شعرية مملوءة بالصور والتشبيهات والاستعارات، فالكأس هنا رمز الفرح، لأن الخمر يشير في الكتاب للفرح الروحي:
† "وَخَمْرٍ تُفَرِّحُ قَلْبَ الإِنْسَانِ لإِلْمَاعِ وَجْهِهِ أَكْثَرَ مِنَ الزَّيْتِ" (مز 104: 15).
† "الْخَمْرُ ابْتِهَاجُ الْقَلْبِ وَسُرُورُ النَّفْسِ لِمَنْ شَرِبَ مِنْهَا فِي وَقْتِهَا مَا كَفَى" (سي 31: 36)
† "وَيَكُونُ أَفْرَايِمُ كَجَبَّارٍ وَيَفْرَحُ قَلْبُهُمْ كَأَنَّهُ بِالْخَمْرِ" (زك 10: 7).
† "اَلْحِكْمَةُ بَنَتْ بَيْتَهَا نَحَتَتْ أَعْمِدَتَهَا السَّبْعَةَ. ذَبَحَتْ ذَبْحَهَا. مَزَجَتْ خَمْرَهَا. أَيْضًا رَتَّبَتْ مَائِدَتَهَا" (أم 9: 1، 2).
فأي خمر يمكن أن تمزجه الحكمة، هل الخمر المُسكْر..؟ بالطبع لا، وإلاَّ فما كانت حكمة أبدًا، بل الخمر المقصود هو خمر الفرح الذي يفرّح الإنسان الحكيم... وما أجمل اللحظات التي يقف فيها الإنسان بين يدي خالقه، يتمتع فيها بفرح لا يُنطق به ومجيد، يُسكْر النفس وينسيها العالم وكل ما فيه. أنها أشد فرحًا ولذة من أي شهوة عالمية، هذا الفرح هو الذي اختبره داود النبي، وتحدث عنه في مزموره هذا، وفي مزامير أخـرى: "كَأْسَ الْخَلاَصِ أَتَنَاوَلُ وَبِاسْمِ الرَّبِّ أَدْعُو" (مز 116: 13)" {من أبحاث النقد الكتابي}.
_____
(240) تأملات في سفر المزامير جـ 1 ص 175.
(241) الموسوعة الكنسية لتفسير العهد القديم جـ 10 ص 258.
(246) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ 6 ص 58.
(247) تفسير المزامير (31 - 40) ص 67.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1681.html
تقصير الرابط:
tak.la/txqyy47