ج :
1ــ قال المُرنّم:" لَيْسَ كَذلِكَ الأَشْرَارُ، لكِنَّهُمْ كَالْعُصَافَةِ الَّتِي تُذَرِّيهَا الرِّيحُ. لِذلِكَ لا تَقُومُ الأَشْرَارُ فِي الدِّينِ، وَلاَ الْخُطَاةُ فِي جَمَاعَةِ الأَبْرَارِ" (مز 1 : 4، 5).
فالأشرار كالعُصَافة التي تذرّيها الريح، والعُصَافة هيَ التبن الذي يغلف حبات الحنطة، فعندما يُحصد القمح ويُدرس بالنورج يذرّيه الفلاح أي يرفعه لأعلى بالمذراة التي هيَ أشبه بالشوكة الضخمة، فتذرّى الريح التبن أي تحمله بعيدا،ً بينما تتساقط حبوب الحنطة مكانها، وقال السابق الصابغ عن السيد المسيح: " الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأ" (مت 3 : 12)، وقال داود النبي عن الأشرار: " لِيَكُونُوا مِثْلَ الْعُصَافَةِ قُدَّامَ الرِّيحِ، وَمَلاَكُ الرَّبِّ دَاحِرُهُمْ" (مز 35 : 5).. أنه أسلوب بلاغي تصوّري يعبر عن مدى رعب الشرير من وجه الرب، وقال إشعياء النبي: " قَبَائِلُ تَهْدِرُ كَهَدِيـرِ مِيَاهٍ كَثِيرَةٍ. وَلكِنَّهُ يَنْتَهِرُهَا فَتَهْرُبُ بَعِيدًا، وَتُطْرَدُ كَعُصَافَةِ الْجِبَالِ أَمَامَ الرِّيحِ" (إش 17 : 13)، وقال هوشع النبي عن زوال مجد أفرايم: " كَعُصَافَةٍ تُخْطَفُ مِنَ الْبَيْدَرِ، وَكَدُخَانٍ مِنَ الْكُوَّةِ" (هو 13 : 3).
ويقول "القديس يوحنا الذهبي الفم": " كما تتعرض العصافة لتلعب بها الريح، فتُحمل بسهولة إلى مسافات طويلة، هكذا ينساق الخاطئ أمام كل تجربة. بينما يكون في صراع مع نفسه ويحمل حربًا في داخله. أي سلام يترِجه وهو يُسلم (للتجربة) داخل بيته، حاملًا ضميرًا عدوًا له؟ ليس كذلك البار" (73).
2ــ هناك فرق بين الأشرار والخطاة، فالخاطئ هو من يرتكب الخطيَّة ربما عن ضعف ولا يغوص في أعماقها، أما الإنسان الشرير فهو الذي يشرب الإثم كالماء، فهو مستبيح يرتكب الشر وهو مقتنع به ويحبه، وبذلك نستطيع أن نقول مع "القديس أُغسطينوس" أن: " كل شرير هو خاطئ، ولكن ليس كل خاطئ شريرًا" (74). ومع هذا فإن الخاطئ إن لم يتب فحتمًا سيتعرض للهلاك الأبدي.
3ـ لا شك أن هناك قيامة عامة لجميع الناس منذ آدم وإلى آخر الدهور أبرار وأشرار، صالحين وطالحين، ولكن نهاية هؤلاء مثل نهاية أولئك؟! كلاَّ، فشتَّان بين قيامة الأبرار وقيامة الأشرار، وهـذا ما أوضحه بأجلى بيان سفر دانيال:" وَكَثِيرُونَ مِنَ الرَّاقِدِينَ فِي تُرَابِ الأَرْضِ يَسْتَيْقِظُونَ، هؤُلاَءِ إِلَى الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ، وَهؤُلاَءِ إِلَى الْعَارِ لِلازْدِرَاءِ الأَبَدِيِّ" (دا 12 : 2)، وهذا ما أكده السيد المسيح بفمه الطاهر:" فَيَخْرُجُ الَّذِينَ فَعَلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الْحَيَاةِ، وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَى قِيَامَةِ الدَّيْنُونَةِ" (يو 5 : 29).." فَيَمْضِي هؤُلاَءِ إِلَى عَذَاب أَبَدِيٍّ وَالأَبْرَارُ إِلَى حَيَاةٍ أَبَدِيَّةٍ" (مت 25 : 46)، وقـال بولس الرسول:" سَوْفَ تَكُونُ قِيَامَةٌ لِلأَمْوَاتِ، الأَبْرَارِ وَالأَثَمَةِ" (أع 24 : 15).
ويقول"قداسة المتنيح البابا شنوده الثالث": " لا تَقُومُ الأَشْرَارُ فِي الدِّينِ": لا تعني هنا القيامة من الأموات فهيَ للجميع كما قال الكتاب... (يو 5 : 28، 29). أما عبارة "لا تَقُومُ الأَشْرَارُ" هنا، فمعناها لا تقوم لهم قائمة لا يقدرون أن يقفوا أمام الله من شدة خزيهم، ولا يستطيعون أن يبرّروا أنفسهم أمام العدل الإلهي... أو لا يظل أحد منهم قائمًا أمـام الله في يوم الدين، إذ يقول لهم: " إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ... اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ!" (مت 7 : 23).. وهم لا يستطيعون أن يقوموا في مجمع الأبرار. حاليًا يختلط القمح بالــزوان (مت 13). ولكن في يوم الدين ليسوا كذلك.." الرب يقول لهم لا أعرفكم، أي لا تستحقون معرفتي" (75).
ويقول "الراهب القس أوغريس السرياني": " ولما كانت الطبيعة البشرية التي خلقها الله على صورته ومثاله، ومنحها الحياة والخلود سوف تقوم في القيامة العامة عند المجيء الثاني للملك المسيح، لينال كل إنسان جزاء ما عمل في الحياة الدنيا من صلاح أو شر. فإن المُرنّم يعلن هنا أن الأشرار الخطاة الذين ينفصلون عن الله مصدر حياتهم وهم في الحياة الدنيا، وينتقلون إلى العالم الآخر بما يُسمى بالموت وهُم في حالة الخطيَّة... هؤلاء الأشرار وإن كانوا سيقومون في القيامة العامة، لكنهم لن يسمعوا من الملك الديان العادل إلاَّ جزاء ما عملوا عندما يقول لهم: "اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاَعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ الْمُعَدَّةِ لإِبْلِيسَ وَمَلاَئِكَتِهِ"، ومن ثمَّ يُسلَمون للعذاب والهلاك الأبدي. إنهم بعكس الأبرار الذين ينتقلون من الحياة الدنيا إلى الحياة الأخرى وهُم في حالة التوبة... فأنهم في القيامة العامة... يستحقون سماع الديان العادل القائل لهم: "رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ"، فيذهب هؤلاء الأبرار إلى حياة الملكوت يتمتعون بالحياة الأبدية مع الملائكة والقديسين ويستمرون في حياة العشرة الإلهيَّة إلى أبد الآبدين" (76).
4ـ ما دام الجميع أبرار وأشرار سيقومون في القيامة العامة، إذًا لماذا قال المُرنّم: " لا تَقُومُ الأَشْرَارُ فِي الدِّينِ"؟.. الحقيقة أن بقية العبارة توضح المعنى حيث أكمل المُرنّم: " وَلاَ الْخُطَاةُ فِي جَمَاعَةِ الأَبْرَارِ" أي أن الأشرار والخطاة سيقومون ولكنهم لا يقومون في جماعة الأبرار للحياة الأبدية، ولن يستطيعوا الوقوف بعد أن اعتادوا على حياة السقوط... لن يستطيعوا أن يقفوا أمام العدل الإلهي الذي استهانوا به خلال حياتهم على الأرض، بل يقولون للجبال أسقطي علينا وللآكام غطينا من وجه الجالس على العرش، وينطبق عليهم قول حزقيال النبي عن الأنبياء الكذبة: " فِي مَجْلِسِ شَعْبِي لاَ يَكُونُونَ، وَفِي كِتَابِ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ لاَ يُكْتَبُونَ.." (حز 13 : 9) كما ينطبق عليهم قول إشعياء النبي: " اُدْخُلْ إِلَى الصَّخْرَةِ وَاخْتَبِئْ فِي التُّرَابِ مِنْ أَمَامِ هَيْبَةِ الرَّبِّ وَمِنْ بَهَاءِ عَظَمَتِهِ... وَيَدْخُلُونَ فِي مَغَايِرِ الصُّخُورِ وَفِي حَفَائِرِ التُّرَابِ مِنْ أَمَامِ هَيْبَةِ الرَّبِّ وَمِنْ بَهَاءِ عَظَمَتِهِ عِنْدَ قِيَامِهِ لِيَرْعَبَ الأَرْضَ" (إش 2 : 10، 19). والحقيقة لا الجبال ولا الآكام ولا مغائر الصخور ولا حفائر الأرض تستطيع أن تخفي الشرير عن الله الكائن في كل مكان، ويقول "القمص تادرس يعقوب": "لا يقدر الأشرار أن يقوموا للدفاع عن أنفسهم في دار الشريعة، عندما يحــل وقت القضاء. في الدينونة يرون الرب مهوبًا، عينيه كلهيب نار، أما أولاد الله فيرونه عريسًا سماويًا يضمهم إلى مجده" (77).
5ـ الذين لم يؤمنوا بأن البعض حُكِم عليهم مسبقًا بالدينونة بموجب حكم الديان العادل الذي قال: " اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللهِ الْوَحِيدِ" (يو 3 : 18).. " اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَنْ يَسْمَعُ كَلاَمِي وَيُؤْمِنُ بِالَّذِي أَرْسَلَنِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ، وَلاَ يَأْتِي إِلَى دَيْنُونَةٍ، بَلْ قَدِ انْتَقَلَ مِنَ الْمَوْتِ إِلَى الْحَيَاةِ" (يو 5 : 24) فالذين لم يؤمنوا بأبن الله، فأنهم يحملون بيدهم صك هلاكهم الأبدي.
1ــ قـال المُرنّم: " لأَنَّ الرَّبَّ يَعْلَمُ طَرِيقَ الأَبْرَارِ، أَمَّا طَرِيقُ الأَشْرَارِ فَتَهْلِكُ" (مز 1 : 6)، فلم يقل المزمور هنــا أن الله لا يعلم طريق الأشرار، إنما قال " أَمَّا طَرِيقُ الأَشْرَارِ فَتَهْلِكُ"، والحقيقة أن الله عالِم بكل شيء، فعيناه تخترقان أستار الظلام وهو فاحص القلوب الكُلى، وليس شيء مخفي أمامه، وقال داود النبي: " مِنَ السَّمَاوَاتِ نَظَرَ الرَّبُّ. رَأَى جَمِيعَ بَنِي الْبَشَرِ. مِنْ مَكَانِ سُكْنَاهُ تَطَلَّعَ إِلَى جَمِيعِ سُكَّانِ الأَرْضِ. الْمُصَوِّرُ قُلُوبَهُمْ جَمِيعًا الْمُنْتَبِهُ إِلَى كُلِّ أَعْمَالِهِمْ" (مز 33 : 13 - 15)، وقال بولس الرسول: " وَلَيْسَتْ خَلِيقَةٌ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ قُدَّامَهُ، بَلْ كُلُّ شَيْءٍ عُرْيَانٌ وَمَكْشُوفٌ لِعَيْنَيْ ذلِكَ الَّذِي مَعَهُ أَمْرُنَا" (عب 4 : 13).
والوحي عندما قال أن الله يعرف الأبرار ويعلم طريقهم، فذلك لأنها معرفة تتوافق مع طبيعته " أَعْرِفُ خَاصَّتِي وَخَاصَّتِي تَعْرِفُنِي" (يو 10 : 14) والله يعرف إيمانهم وأمانتهم، ومحبتهم وأخلاقهم، ووفائهم وجهادهم، وأوجاعهم ودموعهم، وآلامهم محسوسة عنده، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. والبـار يقول: " عرفتني رأيتني واختبرت قلبي من جهتك" (إر 12 : 3)، وعندما قال الوحي أن الله لا يعرف الأشرار ولا يعلم طرقهم، فذلك لأن أعمالهم لا تتوافق مع طبيعته. فالشرور والرذائل التي يرتكبونها تُغرّبهم وتقصيهم عن الله القدوس الذي قال عنه الكتاب: " عَيْنَاكَ أَطْهَرُ مِنْ أَنْ تَنْظُرَا الشَّرَّ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ النَّظَرَ إِلَــى الْجَـوْرِ" (حب 1 : 13). ويقول "القديس أُغسطينوس": " أن الله لا يعرف الخطاة كأنه يقول: لا أراكم في نوري في البر الذي أعرفه، فالله لا يرانا في نوره عندما نطيل الصلوات باطلًا أو نكرز بِاسمه أو نصنع القوات، وإنما حينما نحيا معه وبه ونسلك طريقه" (78).
2ـ عندما خلق الله آدم وحواء وعاشا في حياة النعمة والبر والتقوى، كان كليهما قريب من الله يسر به ويفرح ويهفو قلبه للقياه، ولكن عندما أخطأ آدم فصل نفسه عن الله، وصار كأنه مجهولًا لدى الله، حتى أن الرب الإله ناداه: "آدَمَ آدَمَ أَيْنَ أَنْتَ؟!"، ويقول "القديس أيرنيموس": " كان الله يعرف أن آدم في الجنة ويعلم كل ما حدث، ولكنه عندما أخطأ آدم أظهر الله عدم معرفته به إذ قال له أين أنت كأنه لا يراه لأن آدم اعتزل النور الإلهي والبر فصار تحت ظلال الخطيَّة وظلمة الموت" (79). وفي قطع التوزيع في الصوم الكبير نقول: "ولا تقل لي إني ما أعرفك. أذهب عني أيها المُعد للنار الأبديَّة".
3ـ ليس المقصود بمعرفة الله هنا المعرفة الذهنية معرفة المعلومات، لكن المقصود المعرفة الاختبارية، على مستوى الشركة معه، كقوله لشعبه: " إِيَّاكُمْ فَقَطْ عَرَفْتُ مِنْ جَمِيعِ قَبَائِلِ الأَرْضِ" (عا 3 : 2)، فهو بلا شك يعرف جميع شعوب الأرض، ولكنه اختار شعب إسرائيل، وفي اليوم الأخير عندما يُغلّق باب الملكوت وتأتي العذارى الجاهلات وتطرق الباب يسمعن صوته: " الْحَقَّ أَقُولُ لَكُنَّ: إِنِّي مَا أَعْرِفُكُنَّ" (مت 25 : 12). ويقـول "الراهب القس أوغريس السرياني": " نعم إن الرب العالِم بكل شيء، ولا يُخفى عنه شيء. الذي يعرف كل شخص وكيفية سلوكه في الحياة الدنيا... ونظرًا لحرية الإرادة الكاملة للإنسان التي منحها الله له لتكون شاهدة على أعماله، ويترتب تبعًا لذلك الجزاء والعقاب والثواب لكل شخص... لأن هدف الله من خلقته للإنسان هيَ أن يكون وارثًا معه حياة المجد والخلود. لهذا نجد المُرنّم يوضح ويعلن أن الله يعرف طريق الصلاح ويحبه ويسر بالسائرين فيه، يعرف طريق الأبرار الذي قدسه ويريد الكل أن يسلكوا فيه طبقًا لتعاليمه ووصاياه، ولا يعرف طريق الأشرار الذي نهى عن السير فيه لأنه يؤدي إلى الهلاك الأبدي، ولأنه يرذله ويريد الكل يخلصون وإلى معرفة الحق يقبلون. لهذا ينبغي على الإنسان أن يحقق هدف الله من خلقته في هذه الحياة "الدنيا"، فيسلك في حياة البر والتقوى وفي حياة الفضيلة وفي حياة التوبة الدائمة" (80).
_____
(73) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير المزامير جـ 1 ص 65.
(74) المرجع السابق ص 65.
(75) تأملات في مزامير باكر ص 37، 38.
(76) تأملات في سفر المزامير جـ 1 ص 13.
(77) تفسير المزامير جـ 1 ص 65.
(80) تأملات في سفر المزامير جـ 1 ص 14.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1637.html
تقصير الرابط:
tak.la/xcdrz7n