ج: 1- انتهت الجولة الأولى من الحوارات (ص 4-14)، ثم الجولة الثانية (ص 15-21) والتي يمكن تلخيصها في الآتي:
أ- تحدَّث أليفاز عن الله الطاهر الذي يبيد الأشرار (ص 15)، فردَّ عليه أيوب بأنه بريء لم يفعل شرًا (ص 16، 17).
ب- تحدَّث بلدد عن الله الذي يحكم بالاستقامة ويبيد الأشرار (ص 18)، فردَّ عليه أيوب بأنه ما دام الله يحكم بالاستقامة فلا بد أنه سيبرّره (ص 19).
جـ- تكلَّم صوفر عن أن رجاء الأشرار مؤقت وقصير، فردَّ عليه أيوب بأن بعض الأشرار يزدهرون في هذا العالم ويتمتعون بالعمر الطويل يرون نسلهم أمامهم وينعمون بثرواتهم الضخمة (ص 21).
والآن نبدأ الجولة الثالثة والأخيرة من الحوار (ص 22-26) وهي جولة قصيرة، تحدَّث فيها أليفاز موجهًا اتهامات عديدة باطلة لأيوب (ص 22)، وردَّ عليه أيوب (ص 23، 24). ثم تحدَّث بلدد خلال قصيدة قصيرة موجزة عن عَظَمة الله في ستة أعداد فقط (ص 25)، وردَّ عليه أيوب (ص 26). أمَّا صوفر فخلد إلى الصمت.
2- قال أليفاز التيماني: "هُوَذَا اللهُ فِي عُلُوِّ السَّمَاوَاتِ. وَانْظُرْ رَأْسَ الْكَوَاكِبِ مَا أَعْلاَهُ! فَقُلْتَ: كَيْفَ يَعْلَمُ اللهُ؟ هَلْ مِنْ وَرَاءِ الضَّبَابِ يَقْضِي؟ السَّحَابُ سِتْرٌ لَهُ فَلاَ يُرَى. وَعَلَى دَائِرَةِ السَّمَاوَاتِ يَتَمَشَّى" (أي 22: 12-14).
وفي " الترجمة القبطية: "أيرى الله الكائن في الأعالي السالك في العظائم، أيتضع؟ وقلت: ماذا يَعلَم القدير؟ من وراء القبَّاب يقضي؟ السَّحابُ ستر لهُ فلا يُرى. وعلى دائرة يمشي".
وفي " الترجمة اليسوعية": "أَلَيسَ اللهُ في أَعْلى السَّموات؟ فأنظُر ذُروَةَ الكَواكبِ ما أَعْلاها. وقد قلتُ: ماذا يَعلَمُ الله؟ أمِ وَراءِ الغَيم المُظلِم يَدين؟ الغُيومُ ستر لهُ فلا يَرى. وعلى قُبَّة السَّمواتِ يتَمشَّى".
وعندما قال أليفاز: "قد قُلتَ " كان يقصد أيوب، وجاء في هامش الترجمة اليسوعية: "لم يقل أيوب مثل هذا القول. لكن أليفاز يقيم عليه دعوى لأنه يرى عنده ميلًا إلى ذلك ويستخلص هذا التجديف مَّما أعلنه أيوب: إن كان الله لا يبالي، فذلك أنه لا يُبصر شيئًا"(1).
وفي " ترجمة كتاب الحياة": "أَليسَ اللهُ في أعَالي السَّمواتِ. يُعاينُ النُجوُمَ مَهْمَا تَسَامتْ؟ ومَعَ هذا فأنتَ تَقُولُ: مَاذَا يَعْلَمُ اللهُ؟ أمِن خَلْفِ الضبَابِ يُدينُ؟ إن الغيُومَ المُتكاتِفةَ تُغلّفهُ فلا يَرَى، وعلى قُبَّة السَّماءِ يَخْطُو".
ويجب أن نلاحظ أن أليفاز يتكلَّم هنا بأسلوب شعري، وبالتالي فهو لا يقصد المعنى الحرفي، فهو يريد أن يقول مع أن أيوب يؤمن بأن الله كائن في علو السموات، أعلى من الكواكب، إلاَّ أنه يتساءل كيف يرى وقد لفَّه الضباب وأحاط به السحاب؟ وبنفس المعنى قال المُرنِّم عن الرجل الشرير: "إِنَّ اللهَ قَدْ نَسِيَ. حَجَبَ وَجْهَهُ. لاَ يَرَى إِلَى الأَبَدِ" (مز 10: 11)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. كما أن المتكبرين: "قَالُوا: كَيْفَ يَعْلَمُ الله؟ُ وَهَلْ عِنْدَ الْعَلِيِّ مَعْرِفَةٌ؟" (مز 73: 11)، وأيضًا الخطاة: "يَقُولُونَ: الرَّبُّ لاَ يُبْصِرُ، وَإِلهُ يَعْقُوبَ لاَ يُلاَحِظُ" (مز 94: 7).
3- يقول " لويس صليب": "هذا الجزء متابعة لشكوك أليفاز الظالمة. إنه يُحمّل أيوب أن يقول أن الله يسكن السماء بين النجوم مقامه، ولذلك آنىَ له أن يشهد ما يجري تحت السُحُبْ التي تخفي الأرض عن نظره؟ أنه يتمشَّى على دائرة السموات جاهلًا في العالم التحتي! أو نسى أليفاز اعتراف أيوب القوي بكل قدرة الله وكل علمه كما نرى في (ص 9)"(2).
4- يقول " القمص تادرس يعقوب": "يعدد أليفاز اتَّهامات باطلة ضد أيوب وهو بريء منها: وقد جاء هذا الاتَّهام الجديد أنه وإن كان يدَّعي التدين، ويقدِّم ذبائح عن أولاده، إلَّا أنه يمارس الإلحاد العملي.
يقول أليفاز حقًا أن أيوب يؤمن بأن الله هو في علو السموات، أعلى من كل الكواكب، لكنه مُلحد عمليًا، كيف؟ وإن كان الله موجود إلَّا أنه لا يبالي بالبشر، ولا ينشغل بخطاياهم أو بِرَّهم، فالحياة البشرية لا تشغل ذهن الله، بهذا استباح أيوب صنع شرورٍ كثيرةٍ وعظيمةٍ بلا نهاية، إذ ليس فيه خوف الله...
لعل أليفاز يرى أن أيوب يُدرِك أن الله في أعالي السموات، ولكن عوض تقديم المهابة اللائقة به استخف به، لأنه في الأعالي لا يستطيع أن يرى من وراء الضباب، ولا يشغل نفسه بما يدور بين البشر على الأرض.
يُعلِّق البابا غريغوريوس (الكبير) على هذه العبارة موضحًا الحقائق التالية:
أ- حقًا الله كائن في السموات، وكأنه محتجب عن البشرية من وراء الضباب الذي لا يُعطي للعيون البشرية أن تعانيه.
ب- هو بكامله حاضر شخصيًا مع كل أحدٍ، وبكامله حاضر مع الجماعة، فحضوره بالكامل مع الأشخاص لا ينفي حضوره بالكامل مع الجميع.
جـ- سموات الله في الأعالي، ومع هذا فبعنايته الإلهيَّة مهتم بكل إنسانٍ على الأرض.
د- يبدو الله كمن يفارق الذين يخطئون، ليس لأنه غير حاضر في موضع ما، إذ ليس من موضعٍ ليس فيه الله، لكنه يفارق الأشرار المُصرِّين على شرورهم، بمعنى تفارقهم نعمته، فلا يجدون عونًا إلهيًا يسندهم، لأنه لا يعمل بدون رضانا، فهو غائب من جهة تقديم العون للرافضين عمله فيهم، لكنه حاضر بالنسبة لهم بإدانتهم، خاصة في يوم الرب العظيم.
هـ- الله حاضر بكامله في العلويات، وبكامله على الأرض في السفليات حضوره على الأرض لا يعني مفارقته للعلويات.
و- الله مخفي بالنسبة للبشر حيث لا يستطيعون رؤيته بالأعين الجسمية، لكنه منظور خلال أعماله الإلهيَّة الفائقة. لا يُدرك بالبصر العادي، لكنه يُلمس خلال أعماله وأحكامه.
ز- الله الذي لا يُدرَك بالحواس الجسمانية يتنازل لكي يدركه البشر بإشراقاته في أذهاننا، لكن مع كل ما نتمتع به نُحسب كمن هم عاجزون عن إدراكه كما هو...
لعل أليفاز ينسب باطلًا لأيوب أنه يتطلَّع إلى الله بكونه قد ستر نفسه بالسحاب الكثيف فلا يُرى من البشر، وأنه يتمشَّى على دائرة السموات كمَن هو مشغول بمجده، ولا يبالي بالخليقة الأرضية"(3).
_____
(1) الكتاب المقدَّس عهد قديم - طبعة دار المشرق بيروت سنة 1991 ص 1080.
(2) تفسير سفر أيوب جـ2 ص 25.
(3) تفسير سفر أيوب جـ3 ص 857-860 .
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1570.html
تقصير الرابط:
tak.la/4qc5gzd