يقول " د. مصطفى محمود": "ودائمًا مكافأة الله لعباده وعقابه لهم يكون فوريًا ودنيويًا... لا ذكر لبعث وجنة ونار وحساب وآخرة، ولك ما تقوله التوراة حينما يضطجع أنبياؤهم ليموتوا أنهم يذهبون إلى أرض "شول" التي لا رجعة منها... والجنة التي تَعِد بها التوراة هي نعمة دنيوية " يبارك الرب ثمرة بطنك وثمرة أرضك... قمحك وخمرك وزيتك ونتاج بقرك وإناث غنمك... يعطيك قوة لتصطنع ثروة... يجعلك الرب رأسًا لا ذنبًا... يعطيك أرضًا تفيض لبنًا وعسلًا... يطيل أيامك. كل مكان تدوسه أقدامكم يكون لكم من لبنان في نهر الفرات إلى البحر الغربي تكون تخومكم " أمَّا الجحيم فهو لعنة تنزل بصاحبها في الدنيا (تث 28)"(1).
ويقول " ليوتاكسل": "إن العهد القديم لا يأتي على ذكر جهنم أو المطهر في أي فصل من فصوله... ففي أي سفر من أسفار التوراة لا تقع على تعبير " خلود الروح " ومما يُذكر هنا أن المسيحيين أخذوا ديانتهم من هذه الأسفار نفسها"(2).
ويقول " حنا حنا": "كل صفحات التوراة (العهد القديم) لم تأتِ على ذكر مكان سماوي ينتهي إليه الإنسان كعقاب أو ثواب، إنما الجنة وجهنم فموضعهما أرضي لا سماوي... إن كلمة " جهنم " بمفهومها الجحيمي الموضع الذي ينتهي إليه الأشرار ذُكرت أول ما ذُكرت في العهد الجديد وليس العهد القديم"(3).
كما يقول " حنا حنا": "نستشهد بداية بقول الدكتور الخوري بولس الفغالي وهو يقول:
ولكن عدالة الله هذه تتم على الأرض لأن الشعب العبراني لم يكن يؤمن بقيامة الموتى وخلود النفس، لم يكن يؤمن بحياة ثانية بعد الموت. بعد أن يترك الأموات هذه الأرض يصبحون ظلالًا خفية ويُحبسون في سجن تحت الأرض وهي الشيول. ذلك المكان المُظلم والحزين الذي قال فيه سفر أيوب (أي 10: 21، 22): أرض ظلمة وظلال موت، أرض السواد والفوضى، أرض يكون نهارها كالديجور. وتعيش هذه الكائنات في الشيول فلا تنعم بعناية الله (مز 88: 11-13) التي لا تصل إلى الأشباح. لا إحساس في هذه الكائنات ولا نشاط تقوم به (أي 14: 22، جا 9: 10) ولا لذة تتمتع بها. وقد قال المزمور (115: 17): ليس الأموات يسبِّحون الرب ولا الهابطون في عالم السِّكوت... ولقد زاد سفر الجامعة (9: 2) فقال: كل الناس لهم مصير واحد، البار والشرير، الطاهر وغير الطاهر... أنه لشر عظيم أن يكون مصير واحد لجميع الناس"(10)(4).
ويقول " عبد المجيد همو " أن أي ديانة من السماء لا تخلو من الحياة الأخرى، بل أن بعض الديانات الأرضية ذكرت الثواب والعقاب والآخرة كتعويض لِمَا يصيب الإنسان مِن ظُلم في هذه الحياة الدنيا، ثم يقول: "وأعتقد تمام الاعتقاد أن ديانة موسى -عليه السلام- لم تخلُ من وجود الأخرة والثواب والعقاب، لكن عزرا ونحميا حينما شكلا الديانة اليهودية حرماها من وجود الآخرة واعتمدوا العقوبة الحياتية والثواب الحياتي، ولا ذكر للآخرة في الأسفار الخمسة"(5).
ثم أخذ " عبد المجيد همو
" في ذكر عقيدة البعث والحياة الأخرى في الديانات المصرية القديمة، فأوزوريس هو
إله القيامة والخلود ورب الموتى، وأخناتون قد أقرَّ الحياة الأخرى وعودة الروح
إلى الجسد، والحساب والدينونة، كما آمنت الديانات البابلية بالحياة بعد الموت،
وفكرة الثواب والعقاب، فروح الإنسان تنفذ مِن القبر، فالأشرار ينزلون إلى
العالم السفلي الذي يلفه الظلام يأكلون التراب ويشربون المياه القذرة، أمَّا
الأبرار فإن أرواحهم تصعد للسماء فتتلاقى مع الآلهة حيث الخلود، وكذلك آمنت
الديانة الفارسية ببعث الموتى، وأيضًا الديانة المانوية آمنت بالثواب والعقاب
والجنة وجهنم. ثم يقول " عبد المجيد همو": "أمَّا اليهودية فقد
حاولتُ عبثًا أن أفتش في التوراة عن ذكر للآخرة فلم أجد فيها ذكرًا للآخرة على
الإطلاق، وكان إذا مات أحدهم، وكان كتبة التوراة عنه راضين يكتبون (واضطجع
مع آبائه بسلام)، أمَّا إذا لم يكونوا راضين عنه فكانوا يقولون (وانحدرت
شيبته إلى الهاوية). وإن التوراة اليهودية المكتوبة والتلمود المنطوق لا يوجد
فيهما ذكر للحياة الأخرى ويوم البعث ويوم الحساب،
ولا يذكرون عن الروح شيئًا... فالدين اليهودي بعيد عن الروحانيات، لأن حياتهم
تقوم على المادة وحُب التملك...
ويقول "ول ديورانت" في كتابه قصة الحضارة: "أن اليهود قلَّما كانوا يشيرون إلى حياة أخرى بعد الموت، ولم يرد في دينهم شيء مِن الخلود، وكان ثوابهم وعقابهم مقصورين على الحياة الدنيا. وقد آمنت بعض فِرق اليهودية بالحياة بعد الموت، والفريسيون هم الوحيدون الذين يعتقدون بالحياة بعد الموت للصالحين فقط من البشر... وتوقف " سبينوزا " عند السؤال: ما الذي يبقى من اليهودية في غيبة السماء والصلاح"(6).
وأيضًا يقول "عبد المجيد همو" أنه لا توجد علاقة بين اليهودية ويوم البعث والحياة الأخرى: "فالثواب والعقاب في اليهودية -وهي ديانة مجردة من البُعد الأخروي- لم تعِدْ أتباعها في كُتُبها المقدَّسة ببعث أو نشور، وإنما انحصر في المكافأة المادية على الأرض والعقاب الدنيوي الذي يُوضحه سفر التثنية ومُحرَّرة بجلاء بالغ"(7).
ج: 1- لم يسلط العهد القديم الأضواء على فكرة البعث والحساب والثواب والعقاب والحياة الأخرى لأنها كانت من البديهيات والمُسلمات، فمنذ البداية أعلن الله بوضوح تام أن هناك حياة أخرى تنتظر الإنسان، ولذلك أعطى البشرية مثلًا حيًا إذ أصعد أخنوخ إليه وقال سفر التكوين: "وَسَارَ أَخْنُوخُ مَعَ اللهِ، وَلَمْ يُوجَدْ لأَنَّ اللهَ أَخَذَهُ" (تك 5: 24) فلو لم تكن هناك حياة أخرى فإلى أين أُخذ أخنوخ؟!! وفي زمن ملوك إسرائيل يقول الكتاب عن إيليا النبي وتلميذه أليشع: "وَفِيمَا هُمَا يَسِيرَانِ وَيَتَكَلَّمَانِ إِذَا مَرْكَبَةٌ مِنْ نَارٍ وَخَيْلٌ مِنْ نَارٍ فَصَلَتْ بَيْنَهُمَا، فَصَعِدَ إِيلِيَّا فِي الْعَاصِفَةِ إِلَى السَّمَاءِ" (2مل 2: 11) فلو لم تكن هناك حياة أخرى تنتظر الإنسان فلماذا أُصعد إيليا إلى السماء؟!!
وفي حديث بولس الرسول عن إيمان إبراهيم أب الآباء قال: "بِالإِيمَانِ تَغَرَّبَ فِي أَرْضِ الْمَوْعِدِ كَأَنَّهَا غَرِيبَةٌ، سَاكِنًا فِي خِيَامٍ مَعَ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ الْوَارِثَيْنِ مَعَهُ لِهذَا الْمَوْعِدِ عَيْنِهِ. لأَنَّهُ كَانَ يَنْتَظِرُ الْمَدِينَةَ الَّتِي لَهَا الأَسَاسَاتُ، الَّتِي صَانِعُهَا وَبَارِئُهَا اللهُ" (عب 11: 9، 10). كما قال بولس الرسول أيضًا: "بِالإِيمَانِ قَدَّمَ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ... إِذْ حَسِبَ أَنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى الإِقَامَةِ مِنَ الأَمْوَاتِ" (عب 11: 17، 19)، وفي هذا رد على الخوري بولس الفغالي الذي قال أن الشعب العبراني لم يكن يؤمن بقيامة الموتى وخلود الروح، ولا يمكن أن نتغافل قول الله لموسى: "أَنَا إِلهُ أَبِيكَ إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ" (خر 3: 6) كما " قَالَ اللهُ أَيْضًا لِمُوسَى: هكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: يَهْوَهْ إِلهُ آبَائِكُمْ، إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ... اِذْهَبْ وَاجْمَعْ شُيُوخَ إِسْرَائِيلَ وَقُلْ لَهُمُ: الرَّبُّ إِلهُ آبَائِكُمْ، إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ظَهَرَ لِي" (خر 3: 15، 16)، فلو لم تكن هناك حياة أخرى يعيش فيها إبراهيم وإسحق ويعقوب، ولو كان الثلاثة عادوا إلى العدم فكيف ينسب الله نفسه إليهم؟! وهل الله ينسب نفسه للعدم؟!! حقًا قال السيد المسيح للصدوقيين الذين أنكروا قيامة الأموات: "تَضِلُّونَ إِذْ لاَ تَعْرِفُونَ الْكُتُبَ وَلاَ قُوَّةَ اللهِ. لأَنَّهُمْ فِي الْقِيَامَةِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةِ اللهِ فِي السَّمَاءِ. وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ قِيَامَةِ الأَمْوَاتِ، أَفَمَا قَرَأْتُمْ مَا قِيلَ لَكُمْ مِنْ قِبَلِ اللهِ الْقَائِلِ: أَنَا إِلهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلهُ إِسْحَاقَ وَإِلهُ يَعْقُوبَ؟ لَيْسَ اللهُ إِلهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلهُ أَحْيَاءٍ" (مت 22: 29-32).
2- نظر اليهود للموت على أنه نقيض الحياة، وأدرك كُتَّاب الأسفار المُقدَّسة أن الإنسان قد خُلِق للحياة وليس للموت، وأن مشيئة الله أن الإنسان يحيا، وأكد الكتاب أن الأتقياء بعد موتهم يدخلون الراحة ومواضع النياح، ولا يذهبون للهباء والفناء، فمَن يُصدِّق أن إبراهيم رجل الإيمان لم يكن لديه إيمان بالحياة الأخرى؟!! قال الله لإبراهيم: "وَأَمَّا أَنْتَ فَتَمْضِي إِلَى آبَائِكَ بِسَلاَمٍ وَتُدْفَنُ بِشَيْبَةٍ صَالِحَةٍ" (تك 15: 15) فلو لم يكن هناك تواجد لآباء إبراهيم في حياة أخرى، فكيف سيمضي إليهم إبراهيم؟! وقال الكتاب عن موت إبراهيم: "وَهذِهِ أَيَّامُ سِنِي حَيَاةِ إِبْرَاهِيمَ الَّتِي عَاشَهَا: مِئَةٌ وَخَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً. وَأَسْلَمَ إِبْرَاهِيمُ رُوحَهُ وَمَاتَ بِشَيْبَةٍ صَالِحَةٍ، شَيْخًا وَشَبْعَانَ أَيَّامًا، وَانْضَمَّ إِلَى قَوْمِهِ" (تك 25: 7، 8) (راجع أيضًا تك 46: 33، 2مل 22: 20) وفي قوله " أَسْلَمَ إِبْرَاهِيمُ رُوحَهُ"، و"انْضَمَّ إِلَى قَوْمِهِ " إشارات واضحة للحياة الأخرى بعد الموت، حتى أن يعقوب اعتبر حياته على الأرض غربة عن الوطن الأصلي فعندما سأله فرعون عن عمره قال: "أَيَّامُ سِنِي غُرْبَتِي مِئَةٌ وَثَلاَثُونَ سَنَةً" (تك 47: 9) لأنه يعرف تمامًا أن الله قال لجَدُّه إبراهيم: "وَأُعْطِي لَكَ وَلِنَسْلِكَ مِنْ بَعْدِكَ أَرْضَ غُرْبَتِكَ، كُلَّ أَرْضِ كَنْعَانَ" (تك 17: 8) فقد علَّم الله الآباء أنهم هنا على هذه الأرض هم غُرباء، ولهذا صرخ داود لله: "اِسْتَمِعْ صَلاَتِي يا رب وَاصْغَ إِلَى صُرَاخِي. لاَ تَسْكُتْ عَنْ دُمُوعِي. لأَنِّي أَنَا غَرِيبٌ عِنْدَكَ. نَزِيلٌ مِثْلُ جَمِيعِ آبَائِي" (مز 39: 12). ونحن نعلم أن النزيل سيأتي عليه يومًا ويعود إلى مكانه وبيته ووطنه. فهكذا علَّم الله شعبه " لأن لي الأرض، وأنتم غرباء ونزلاء عندي" (لا 25: 23) وصلَّى داود وهو يبارك شعبه قائلًا لله: "لأننا نحن غرباء أمامك نزلاء مثل كل آبائنا" (1أي 29: 15). وأيضًا قال داود النبي: "جَعَلْتُ الرَّبَّ أَمَامِي فِي كُلِّ حِينٍ، لأَنَّهُ عَنْ يَمِينِي فَلاَ أَتَزَعْزَعُ. لِذلِكَ فَرِحَ قَلْبِي، وَابْتَهَجَتْ رُوحِي. جَسَدِي أَيْضًا يَسْكُنُ مُطْمَئِنًّا. لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ. لَنْ تَدَعَ تَقِيَّكَ يَرَى فَسَادًا" (مز 16: 8-10)... " أَمَّا أَنَا فَبِالْبِرِّ أَنْظُرُ وَجْهَكَ. أَشْبَعُ إِذَا اسْتَيْقَظْتُ بِشَبَهِكَ" (مز 17: 15).
وجاء في " دائرة المعارف الكتابية": "ويؤيد سفر المزامير ما تُقرِّره سائر الأسفار الكتابية مِن ازدواجية الإنسان: جسده الترابي (مز 103: 14) الضعيف الفاني (مز 78: 39) ومع ذلك له قيمته لِمَا امتاز به من عجب (مز 139: 14)، وكيانه الروحي (النفس) المخلوق على صورة الله (مز 8: 5)... الروح الخالدة (مز 31: 5) أي الجزء الأسمى مِن الإنسان، في داخل الجسد (مز 77: 3، 6، 143: 4، 7) ولكنها تحيا إلى الأبد مع الله (مز 41: 12، 102: 26-28)"(8).
وإن لم تكن هناك حياة أخرى فما معنى قول سليمان الحكيم: "أمَّا الصديق فواثق عند موته" (أم 14: 32)؟!
وقال إشعياء النبي عن نهاية الأبرار: "وَرِجَالُ الإِحْسَانِ يُضَمُّونَ، وَلَيْسَ مَنْ يَفْطَنُ بِأَنَّهُ مِنْ وَجْهِ الشَّرِّ يُضَمُّ الصِّدِّيقُ. يَدْخُلُ السَّلاَمَ. يَسْتَرِيحُونَ فِي مَضَاجِعِهِمِ. السَّالِكُ بِالاسْتِقَامَةِ" (إش 57: 1، 2). فقوله: "يَسْتَرِيحُونَ فِي مَضَاجِعِهِمِ " أي أنهم ما زالوا أحياء بالروح يقيمون في مواضع الراحة والنياح منتظرين يوم البعث والنشور "تَحْيَا أَمْوَاتُكَ، تَقُومُ الْجُثَثُ. اسْتَيْقِظُوا، تَرَنَّمُوا يَا سُكَّانَ التُّرَابِ" (إش 26: 19)، وقال الله لدانيال النبي: "أَمَّا أَنْتَ فَاذْهَبْ إِلَى النِّهَايَةِ فتَسْتَرِيحَ، وتَقُومَ لِقُرعَتِكَ فِي نِهَايَةِ الأَيَّامِ" (دا 12: 13). وأعلن الله عن القيامة العامة بوضوح على لسان هوشع النبي: "مِنْ يَدِ الْهَاوِيَةِ أَفْدِيهِمْ. مِنَ الْمَوْتِ أُخَلِّصُهُمْ. أَيْنَ أَوْبَاؤُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ شَوْكَتُكِ يَا هَاوِيَةُ" (هو 13: 14)، وفي رؤيا حزقيال النبي رأى عِظامًا يابسة جدًا وسأله الله: "يَا ابْنَ آدَمَ، أَتَحْيَا هذِهِ الْعِظَامُ؟ فَقُلْتُ: يَا سَيِّدُ الرَّبُّ أَنْتَ تَعْلَمُ" (حز 37: 3)، وهذا السؤال يشبه تمامًا تساءل أيوب: "إِنْ مَاتَ رَجُلٌ أَفَيَحْيَا؟" (أي 14: 14)، وجاءت الإجابة في رؤيا حزقيال إذ تقاربت تلك العِظام اليابسة واكتست باللحم والجلد " فَتَنَبَّأْتُ كَمَا أَمَرَني، فَدَخَلَ فِيهِمِ الرُّوحُ، فَحَيُوا وَقَامُوا عَلَى أَقدَامِهِمْ جَيْشٌ عَظيمٌ جِدًّا جِدًّا" (حز 37: 10) هذه صورة مصغرة ليوم القيامة العامة، وهذا هو إيمان مرثا اليهودية عندما قالت للسيد المسيح عن أخيها لعازر الذي مات وأنتن: "أَنَا أَعْلَمُ أَنَّهُ سَيَقُومُ فِي الْقِيَامَةِ، فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ" (يو 11: 24).
3- يقول " القمص تادرس يعقوب": "أمَّا عن نظرة مؤمني العهد القديم إلى الموت، فقد عبَّر عنها ما ورد في سفر الحكمة: "فإن الله خلق الإنسان لعدم الفساد، وجعله صورة ذاته الإلهيَّة، لكن بحسد إبليس دخل الموت إلى العالم" (حك 2: 23، 24). لم يخلق الله الموت، لذا فبالبرِّ ينال الإنسان الخلود: "لأن الله لم يصنع الموت، ولا يُسر بهلاك الأحياء، فأنه خلق كل شيء لكي يكون، وإن خلائق العالم مفيدة، وليس فيه سم مُهلك، ولا مُلك لمثوى الأموات على الأرض، لأن البرَّ خالد" (حك 1: 13-15) كما قيل: "العلم بقدرتك هو أصل الخلود" (حك 15: 3)"(9).
4- يقول " ليوتاكسل " أن المسيحيين أخذوا ديانتهم من أسفار العهد القديم، وهذا جزء من الحقيقة وليس كل الحقيقة، لأن المسيحيين عاشوا أنوار العهد الجديد المنفتح نحو السموات، وأيضًا آمنوا بأسفار العهد القديم، فمصدر العهدين واحد وهو الله، والعهد الجديد هو تكميل للعهد القديم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وإن كان ليوتاكسل يرمي إلى أن اليهود لم يؤمنوا بالدينونة والحياة الأخرى، فهكذا المسيحيون لا يؤمنون بهذه الأمور، فإن عشرات الآيات في الكتاب المُقدَّس وبالأخص في العهد الجديد تكشف كذب هذا الادعاء.
وإن كان الحديث عن الحياة الأخرى في العهد القديم قليل، فذلك يرجع إلى بشاعة صورة الموت حينذاك، لأنه ينقل الإنسان من هذه الحياة إلى الهاوية سجن الجحيم:
" أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْمَوْتِ ذِكْرُكَ. فِي الْهَاوِيَةِ مَنْ يَحْمَدُكَ؟" (مز 6: 5).
" فِي الْجُبِّ الأَسْفَلِ، فِي ظُلُمَاتٍ فِي أَعْمَاق... أَرْضِ النِّسْيَانِ" (مز 88: 6، 12).
" لاَ يُعَايِنُونَ النُّورَ إِلَى الأَبَدِ" (مز 49: 19).
" لَيْسَ الأَمْوَاتُ يُسَبِّحُونَ الرَّبَّ، ولاَ مَنْ يَنْحَدِرُ إِلَى أَرْضِ السُّكُوتِ" (مز 115: 17).
أمَّا في العهد الجديد فقد تغيَّرت هذه الصورة تمامًا، بعد أن داس السيد المسيح بموتِه الموت وقهره، وتحقَّقت نبوءة هوشع النبي: "مِنْ يَدِ الْهَاوِيَةِ أَفْدِيهِمْ. مِنَ الْمَوْتِ أُخَلِّصُهُمْ. أَيْنَ أَوْبَاؤُكَ يَا مَوْتُ؟ أَيْنَ شَوْكَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟" (هو 13: 14). هذه النبوءة التي تردَّد صداها في العهد الجديد: "أَيْنَ شَوْكَتُكَ يَا مَوْت؟ أَيْنَ غَلَبَتُكِ يَا هَاوِيَةُ؟" (1كو 15: 55)، وصار في العهد الجديد الموت ربح وشهوة: "لأَنَّ لِيَ الْحَيَاةَ هي الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ... لِيَ اشْتِهَاءٌ أَنْ أَنْطَلِقَ وَأَكُونَ مَعَ الْمَسِيحِ، ذَاكَ أَفْضَلُ جِدًّا" (في 1: 21، 23).
5- تحدَّث سفر الجامعة عن حادثة واحدة تحدث للصديق والشرير للصالح وللطاهر وللنجس (جا 9: 2)، بل أنه ساوَى بين موت الإنسان وموت البهيمة: "لأَنَّ مَا يَحْدُثُ لِبَنِي الْبَشَرِ يَحْدُثُ لِلْبَهِيمَةِ، وَحَادِثَةٌ وَاحِدَةٌ لَهُمْ. مَوْتُ هذَا كَمَوْتِ ذَاكَ، وَنَسَمَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْكُلِّ. فَلَيْسَ لِلإِنْسَانِ مَزِيَّةٌ عَلَى الْبَهِيمَةِ، لأَنَّ كِلَيْهِمَا بَاطِلٌ" (جا 3: 19) وذلك في معرض حديثه عن الموت الجسدي فقط بدليل قوله: "يَذْهَبُ كِلاَهُمَا إِلَى مَكَانٍ وَاحِدٍ. كَانَ كِلاَهُمَا مِنَ التُّرَابِ، وَإِلَـى التُّرَابِ يَعُودُ كِلاَهُمَا" (جا 3: 20)، ثم ميَّز بين الإنسان الذي يتمتع بروح خالدة لا تفنى وبين الحيوان الذي يفنى، فقال: "مَنْ يَعْلَمُ رُوحَ بَنِي الْبَشَرِ هَلْ هي تَصْعَدُ إِلَى فَوْق؟ وَرُوحَ الْبَهِيمَةِ هَلْ هي تَنْزِلُ إِلَى أَسْفَلَ، إِلَى الأَرْضِ؟" (جا 3: 21). ثم ألقى الضوء على موت الإنسان فقال: "فَيَرْجعُ التُّرَابُ إِلَى الأَرْضِ كَمَا كَانَ، وَتَرْجعُ الرُّوحُ إِلَى اللهِ الَّذِي أَعْطَاهَا" (جا 12: 7). كما أن هناك فرقًا بين نهاية الأبرار ونهاية الأشرار، فقال بلعام: "لِتَمُتْ نَفْسِي مَوْتَ الأَبْرَارِ، وَلْتَكُنْ آخِرَتِي كَآخِرَتِهِمْ" (عد 23: 10) وقال داود النبي: "لأَنَّكَ لَنْ تَتْرُكَ نَفْسِي فِي الْهَاوِيَةِ. لَنْ تَدَعَ تَقِيَّكَ يَرَى فَسَادًا. تُعَرِّفُنِي سَبِيلَ الْحَيَاةِ" (مز 16: 10، 11) وقال المزمور: "إِنَّمَا اللهُ يَفْدِي نَفْسِي مِنْ يَدِ الْهَاوِيَةِ لأَنَّهُ يَأْخُذُنِي" (مز 49: 15)، ففي قوله " يَأْخُذُنِي " معنى واضح أن الله يأخذ الإنسان للحياة الأبدية، وهذا ما ترنَّم به داود النبي قائلًا: "بِرَأْيِكَ تَهْدِينِي. وَبَعْدُ إِلَى مَجْدٍ تَأْخُذُنِي" (مز 73: 24).
6- إن كان " عبد المجيد همو " مقتنع بأن قدماء المصريين والبابليين والفارسيين والمانبين عرفوا عقيدة الحياة الأخرى والبعث والدينونة، فهل يظن " همو " أن هذه الشعوب سبقت الشعب الوحيد الذي اختاره الله ورباه على يد الأنبياء، فحمل الحقيقة عبر الأجيال المتعاقبة، في وقت تاه فيه العالم كله في غياهب الوثنية والعبادات الشيطانية؟!!
_____
(1) التوراة ص 27، 28.
(2) التوراة كتاب مقدَّس أم جمع من الأساطير ص 207.
(3) الحكم والأمثال السورية القديمة جـ2 ص 191.
(4) المرجع السابق ص 188، 189.
(5) اليهودية بعد عزرا وكيف أقرت ص 193.
(6) اليهودية بعد عزرا وكيف أقرت ص 195، 196.
(7) المرجع السابق ص 197.
(8) دائرة المعارف الكتابية جـ4 ص 244 .
(9) تفسير سفر أيوب جـ1 ص 397.
(10) عن الإنترنت - مؤلفات وأعمال الخوري بولس الفغالي.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1556.html
تقصير الرابط:
tak.la/y8jf8wx