ج: 1- سبق القول أن دور الوحي الإلهي في تسجيل الأقوال الخاطئة يقتصر على الأمر بتدوينها في السفر، عِبرة للأجيال، ولكن كل إنسان مسئول عن أقواله سواء كانت صائبة أم خاطئة، وقد سبق مناقشة هذا الموضوع فيُرجى الرجوع إلى إجابة س 1504.
2- في مقارنة صوفر النعماتي بين الله والإنسان، وصف الله بأنه غير محدود، وهو أعظم من السموات، وليس مَن يقف ضدّه، فهو الذي يَسُوس الخليقة بحكمته اللامتناهية، أمَّا الإنسان فقال عنه صوفر: "أَمَّا الرَّجُلُ فَفَارِغٌ عَدِيمُ الْفَهْمِ، وَكَجَحْشِ الْفَرَا يُولَدُ الإِنْسَانُ" (أي 11: 12)، فمن جانب أن فهم الإنسان وحكمته بجوار الحكمة الإلهيَّة كلا شيء، ومن جانب آخر أن الإنسان الذي لا يسعى لمعرفة الله فهو إنسان جاهل عديم الفهم، وهذا ما قاله المُرنِّم فيما بعد: "الرَّجُلُ الْبَلِيدُ لاَ يَعْرِفُ، وَالْجَاهِلُ لاَ يَفْهَمُ هذَا" (مز 92: 6). كما قال آساف: "وَأَنَا بَلِيدٌ وَلاَ أَعْرِفُ. صِرْتُ كَبَهِيمٍ عِنْدَكَ" (مز 73: 22)، وقال " أجور ابن متَّقية مسَّا: "إِنِّي أَبْلَدُ مِن كُلِّ إِنْسَانٍ. وَلَيْسَ لِي فَهْمُ إِنْسَانٍ، وَلَمْ أَتَعَلَّمِ الْحِكْمَةَ، وَلَمْ أَعْرِفْ مَعْرِفَةَ الْقُدُّوسِ" (أم 30: 2، 3)، وقال سليمان الحكيم: "قُلْتُ فِي قَلْبِي: مِنْ جِهَةِ أُمُورِ بَنِي الْبَشَرِ، إِنَّ اللهَ يَمْتَحِنُهُمْ لِيُرِيَهُمْ أَنَّهُ كَمَا الْبَهِيمَةِ هكَذَا هُمْ" (جا 3: 18).
3- قال " صوفر النعماتي": "أَمَّا الرَّجُلُ فَفَارِغٌ عَدِيمُ الْفَهْمِ، وَكَجَحْشِ الْفَرَا يُولَدُ الإِنْسَانُ" (أي 11: 12) وجحش الفراء هو الحمار الوحشي، وهو حيوان صعب المراس سريع الركض، فلا أحد يستطيع أن يكبح جِماحه، قال عنه الله لأيوب: "مَنْ سَرَّحَ الْفَرَاءَ حُرًّا، وَمَنْ فَكَّ رُبُطَ حِمَارِ الْوَحْشِ؟ الَّذِي جَعَلْتُ الْبَرِّيَّةَ بَيْتَهُ وَالسِّبَاخَ مَسْكَنَهُ. يَضْحَكُ عَلَى جُمْهُورِ الْقَرْيَةِ. لاَ يَسْمَعُ زَجْرَ السَّائِقِ. دَائِرَةُ الْجِبَالِ مَرْعَاهُ، وَعَلَى كُلِّ خُضْرَةٍ يُفَتِّشُ" (أي 39: 5-8)، فالحمار الوحشي يظن أنه حكيم وأنه حُر بلا قيود، وأنه سيد نفسه، وقد اعتاد حياة البَرِّية متلهفًا لإشباع غرائزه (إر 2: 24)، فهل يصلُح مخلوق كهذا أن يجادل الله..؟ هكذا الإنسان في جهله ينحو تجاه العصيان والبُعد عن الله، فهو كالحمار الوحشي الذي يتصف بالبلادة والمعاندة.
4- جاء حُكم صوفر النعماتي على أيوب حُكمًا قاسيًا، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فوصفه بأنه رجل مهذار (أي 11: 2) متصلف (أي 11: 3) وإن الله يعاقبه بأقل من إثمه (أي 11: 6). ثم قال " أَمَّا الرَّجُلُ فَفَارِغٌ عَدِيمُ الْفَهْمِ وَكَجَحْشِ الْفَرَا يُولَدُ الإِنْسَانُ" (أي 11: 12) فصوفر ينعت أيوب هنا بأنه رجل فارغ عديم الفهم أشبه بالحمار الوحشي، يعاند الله ويسخر منه، مع أن أيوب لم يسخر قط من الله، ويصف " برادلي " صوفر قائلًا: " فهو يلقي جانبًا بكل الإيماءات والإيحاءات ويرمي بالسهم مباشرة من حيث يشير الآخرون فقط أو يُلمّحون"(1). وردَّ أيوب على صوفر قائلًا: "أَنَّهُ لِي فَهْمٌ مِثْلَكُمْ. لَسْتُ أَنَا دُونَكُمْ" (أي 12: 3)، ويقول " فرانسيس أندرسون": "يرد أيوب على الاتهام وتلويث السمعة بأنه (حمار) (أي 11:12) بترديد القول بأنه ذكي مثل أصحابه، والضمائر في الجمع فهو يكلمهم جميعًا"(2).
5- جاء في " الترجمة اليسوعية": "بذلك يتعقَّل الجاهل. وكجحش الحمار الوحشي يُولَد الإنسان". أي كيف يصير الإنسان الجاهل عاقلًا حكيمًا مادام سلوكه كسلوك الحمار الوحشي؟!
وجاء في " ترجمة كتاب الحياة": "يُصبحُ الأَحْمَقُ حكيمًا عندما يَلِدُ حمارُ الوحشِ إنسانًا". وبما أنه من المستحيل أن يَلِد حمار الوحش إنسانًا، إذًا من المستحيل أن يصير الأحمق حكيمًا، وهنا يُلمّح صوفر بأن أيوب رجل أحمق، ولكيما يصير حكيمًا فإن هذا يتطلب معجزة إلهيَّة. ونفس المعنى جاء في " الترجمة العربية المشتركة": "أيصيرُ فاقِدُ العقلِ عاقلًا، أم يُولَد حِمارُ الوحش إنسانًا".
6- يقول " القمص تادرس يعقوب": "يقول صوفر أن الإنسان ذاته صار بعد السقوط فارغًا عديم الفهم، لأنه حَرَم نفسه من حكمة الله. صار " يُشْبِهُ الْبَهَائِمَ الَّتِي تُبَادُ" (مز 49: 20). صار غبيًا كالحمار الوحشي (جحش الفرا) الذي تعوَّد أن يسكن البَرِّية. في غباوته يظن أنه حكيم، فلا يريد أن يخضع لأحكام الله، بل يقاوم ظانًا أنه يعرف الحق والعدل. ما قاله صوفر هو حقيقة سقط فيها الإنسان بوجه عام، لكن ما يشوب كلامه أنه يعني أيوب دون أصدقائه، فيحسبه في مرتبة حيوانات البَرِّية الغبية، والتي بلا نفع"(3).
7- يقول " القديس يوحنا الذهبي الفم": "لقد صِرنا أكثر غباءً من الحيوانات غير العاقلة، إذ صار الإنسان يُقارَن بالحيوانات غير العاقلة، وقد صار مثلها وإذ يصير الإنسان هكذا مثلها إنما يكون أردأ منها. لأنها هي هكذا بحكم طبيعتها، أمَّا عدم تعقلنا نحن الخليقة المُزيَّنة بالعقل فهذا بإرادتنا... وهكذا عندما نسمع عن الإنسان أنه صار كالحيوانات غير العاقلة، فلا تظن أنه صار مساويًا لها، بل أحط منها.لا بمعنى أنه نزل إلى مستوى أقل منها، بل إذ ونحن بشر صِرنا إلى هذه الدرجة الشديدة من الجمود...
هذا ما يُعلِّم به إشعياء بوضوح قائلًا: "اَلثَّوْرُ يَعْرِفُ قَانِيَهُ وَالْحِمَارُ مِعْلَفَ صَاحِبِهِ، أَمَّا إِسْرَائِيلُ فَلاَ يَعْرِفُ. شَعْبِي لاَ يَفْهَمُ" (إش 1: 3)(4).
كما يقول " القديس يوحنا الذهبي الفم " أيضًا: "وصوفر معه حق في قوله: "هو مثل الحمار الوحشي، الذي لا يتوقف عن النهيق. إذ لا يوجد أي فرق بين كلماتنا (الفارغة)، وذلك الصوت عديم المعنى الذي يصيح عشوائيًا وبطريقة غبية. نحن نتذمر على كل شيء ومن أجل كل شيء ونلوم كل شيء"(5).
_____
(1) أورده فرنسيس أندرسون - التفسير الحديث للكتاب المُقدَّس - أيوب ص 168.
(2) أورده فرنسيس أندرسون - التفسير الحديث للكتاب المُقدَّس - أيوب ص 173.
(3) تفسير سفر أيوب جـ1 ص 425.
(4) تفسير سفر أيوب جـ1 ص 427.
(5) سفر أيوب طبعة مكتبة المحبة 2008م ص 115.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1548.html
تقصير الرابط:
tak.la/s79sf6q