ج: أولًا: في محاجة أيوب مع الله قال: "إِنْ أَذْنَبْتُ فَوَيْلٌ لِي، وَإِنْ تَبَرَّرْتُ لاَ أَرْفَعُ رَأْسِي" (أي 10: 15) أي في كلتا الحالتين سواء كنتُ شريرًا أم بارًا فأنت تقف ضدي: "تُجَدِّدُ شُهُودَكَ تُجَاهِي، وَتَزِيدُ غَضَبَكَ عَلَيَّ. نُوبٌ وَجَيْشٌ ضِدِّي" (أي 10: 17).
وجاءت في " الترجمة السبعينية": "جند التبديل والجيش معي" (راجع هامش الترجمة اليسوعية ص 1065).
وفي " الترجمة اليسوعية": "تُجدّدُ هجماتكَ في وَجْهي وتُشدّدُ غضبك عليَّ. وجيوشك تتناوب ضدّي".
وفي " ترجمة كتاب الحياة": "تُجدّدُ شهودَكَ ضدّي، وتُضرمُ غضبك عليَّ، وتُؤلّبُ جيوشًا تتناوب ضدّي".
وواضح من الترجمات المختلفة أن "نوب" ليس اسم شخص يعادي أيوب، إنما "نوب" هو جمع نائبة أو مصيبة، فأيوب يرى أن الله يُنزل به النوائب والمصائب بدون ذنب جناه، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ويقول " القمص تادرس يعقوب": "تُجَدِّدُ شُهُودَكَ تُجَاهِي، وَتَزِيدُ غَضَبَكَ عَلَيَّ. نُوبٌ وَجَيْشٌ ضِدِّي" (ع 17): ما ضاعف نكبة أيوب أنه شعر بغضب الله يتزايد، مما زاد التجربة مرارة وثقلًا. لم ينقص الله وجود شهودٍ ضد أيوب، إن عجز شاهد يقوم شاهد جديد محله، ولمَّا كانت كلمة " شهود " في اليونانية تعني " شهداء"، فكأن الذين يشهدون لله على محبته ورعايته الإلهيَّة وعمله الخلاصي حتى الموت، يصيرون شهودًا ضد المُتشكّكين في عناية الله والمتذمّرين عليه. ظهور هؤلاء الشهود القديسين يُديننا، فلا يكون لنا حجة أو تبرير لتصرفاتنا الخاطئة، وقد عبَّر أيوب على ذلك بقوله: "مصائبٌ وجيشٌ ضدّي " جاءت في إحدى الترجمات: "جيوشك تتناول الموقف ضدَّي..."(1).
ثانيًا: قال صوفر النعماتي: "أَإِلَى عُمْقِ اللهِ تَتَّصِلُ، أَمْ إِلَى نِهَايَةِ الْقَدِيرِ تَنْتَهِي؟" (أي 11: 7) وقال بولس الرسول: "يَا لَعُمْقِ غِنَى اللهِ وَحِكْمَتِهِ وَعِلْمِهِ! مَا أَبْعَدَ أَحْكَامَهُ عَنِ الْفَحْصِ وَطُرُقَهُ عَنِ الاسْتِقْصَاءِ!" (رو 11: 33) وكلا القولين يعبران عن صعوبة معرفة الله وفهم حكمته، بينما صَرَح بولس الرسول في موضع آخر بأن الإنسان يمكنه أن يعرف الله عن طريق مخلوقاته، فقال: "لأَنَّ أُمُورَهُ غَيْرَ الْمَنْظُورَةِ تُرىَ مُنْذُ خَلْقِ الْعَالَمِ مُدْرَكَةً بِالْمَصْنُوعَاتِ، قُدْرَتَهُ السَّرْمَدِيَّةَ وَلاَهُوتَهُ، حَتَّى إِنَّهُمْ بِلاَ عُذْرٍ" (رو 1: 20)... فهل الإنسان يستطيع أن يعرف الله أم هو عاجز عن معرفته؟
والحقيقة أن الإنسان يستطيع أن يعرف الله عن طريق مخلوقاته، ولكنه لا يستطيع أن يعرف الله ويدركه الإدراك الكامل، فمن خلال المخلوقات يُدرِك الإنسان مدى قدرة الله وعَظَمته، ولكنه يعجز عن إدراك بقية صفاته مثل محبته وأبوته وقداسته... إلخ... بل نقول طالما نحن في الجسد فنحن لا نُدرِك الله الإدراك المباشر، ولذلك قال بولس الرسول: "فَإِنَّنَا نَنْظُرُ الآنَ فِي مِرْآةٍ، فِي لُغْزٍ، لكِنْ حِينَئِذٍ وَجْهًا لِوَجْهٍ. الآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ الْمَعْرِفَةِ، لكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ" (1كو 13: 12). فالإنسان يعرف الله عبر خليقته وعبر أعماله ولا يعرفه من جهة كينونته وجوهره، يعرف الله معرفة جزئية ولا يعرفه معرفة كاملة، نراه من خلال تجسُّده ولا نُدرِك لاهوته، وقال الله لموسى قديمًا: "لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي، لأَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ" (خر 33: 20)، وقال موسى لشعبه: "فَكَلَّمَكُمُ الرَّبُّ مِنْ وَسَطِ النَّارِ وَأَنْتُمْ سَامِعُونَ صَوْتَ كَلاَمٍ، وَلكِنْ لَمْ تَرَوْا صُورَةً بَلْ صَوْتًا" (تث 4: 12)، وقال يوحنا الحبيب: "اَللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ" (يو 1: 18)... " اَللهُ لَمْ يَنْظُرْهُ أَحَدٌ قَطُّ" (1يو 4: 12) وقال السيد المسيح عن نفسه: "لَيْسَ أَنَّ أَحَدًا رَأَى الآبَ إِلاَّ الَّذِي مِنَ اللهِ. هذَا قَدْ رَأَى الآبَ" (يو 6: 46)، وقال بولس الرسول: "الَّذِي وَحْدَهُ لَهُ عَدَمُ الْمَوْتِ، سَاكِنًا فِي نُورٍ لاَ يُدْنَى مِنْه،ُ الَّذِي لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَاهُ..." (1تي 6: 16). من يقدر أن يبلغ عمق الله ويعرف نهايته؟!
لا أحد قط، بل إن الإنسان لا يستطيع أن يعرف الله المعرفة الصحيحة والحقيقة إن لم يعلن الله له، وكلما عرف الإنسان عن الله كلما أدرك مدى عجزه عن إدراك أعماق الله.
_____
(1) تفسير سفر أيوب جـ1 ص 396.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1547.html
تقصير الرابط:
tak.la/8ttkjjc