ج: قال أيوب البار لله: "أَلَمْ تَصُبَّنِي كَاللَّبَنِ، وَخَثَّرْتَنِي كَالْجُبْنِ؟ كَسَوْتَنِي جِلْدًا وَلَحْمًا. فَنَسَجْتَنِي بِعِظَامٍ وَعَصَبٍ" (أي 10: 10، 11)، والحقيقة أن هناك تطابق رائع جدًا بين دقة الألفاظ التي تفوَّه بها أيوب منذ نحو أربعة آلاف عام، وبين الاكتشافات الحديثة الخاصة بتكوين الجنين، وفيما يلي نعرض باختصار شديد لهذا الأمر الرائع:
1- قال أيوب "خَثَّرْتَنِي" وجاء في " دائرة المعارف الكتابية": "خَثَرَ: خَثَّر اللبن وخثورًا غلظ، وتُضاف خميرة المنفحة إلى اللبن ليتخثر وليُصنع منه الجُبن، ويقول أيوب: "أَلَمْ تَصُبَّنِي كَاللَّبَنِ وَخَثَّرْتَنِي كَالْجُبْنِ" (أي 10: 10) أي أنك أنت الذي صنعتني " كَسَوْتَنِي جِلْدًا وَلَحْمًا، فَنَسَجْتَنِي بِعِظَامٍ وَعَصَبٍ. مَنَحْتَنِي حَيَاةً وَرَحْمَةً، وَحَفِظَتْ عِنَايَتُكَ رُوحِي" (أي 10: 11، 12)"(1).
وجاء في " مختار الصحاح": "خَثَرَ: (الخُثُورة) ضد الرَقة، وقد (خَثَر) اللبنُ، بالفتح يَخْثُر، بالضم (خُثُره)"(2).
ومعنى كلمة " يتخثر " بالعبرية طبقًا لقاموس برون تعني يغلظ ويثقل ويستقر ويصبح كثيف، يكون سميك، يتخثر، يتثقل.
2- اعتقد الإنسان قديمًا بنظرية الجنين القزم، فظن أن الحيوان المنوي يحوي رجلًا مُصغَّرًا بكامل أعضائه، وفي الرحم يجد البيئة المناسبة للنمو، والأمر العجيب أن أيوب لم يأخذ بما كان سائدًا في عصره بما فيها نظرية الجنين القزم، وقال فيثاغورس (570-495 ق. م) بنظرية سبيرميزم spermism: أي أن الأب هو الذي يحمل مادة الجنين، أمَّا دور الأُم فيقتصر على تقديم الغذاء، وقَبِلَ أرسطو (384-322 ق. م) نظرية سبيرميزم هذه التي قال بها فيثاغورس Pythagoras، وأمَّا أيوب فلم يأخذ بها.
3- في عام 1775م اكتشف الإنسان كيف يتكوَّن الجنين عندما يلتقي الحيوان المنوي بالبويضة، ولم يكن هذا معروفًا من قَبل، لأن الذي اكتشف الحيوان المنوي بالميكروسكوب هو " أنتوني فان ليوونيهوك " سنة 1677م.
4- جاء في موقع(3) عن تطابق ما نطق به أيوب مع العِلم الحديث: "ولهذا نلاحظ أن أيوب قال كسوتني جلدًا ولحمًا فنسجتني، وهو تعبير دقيق ورائع، ثم قال عظام أولًا، ثم أعصاب، وبالفعل العظام يبدأ نسيجها أولًا قبل الأعصاب بشهر تقريبًا...
ويقول: "نسجتني مِن بطن أُمي " أي أن الأنسجة بدأت تتشكل مِن بطن الأُم ولم يقل خلق مرحلة بعد مرحلة، ولم يقل مرحلة تتحوَّل إلى أخرى فجأة ولكن النسيج ينمو وينقسم ويتشكل...
بعد أن تُشكَّل الأنسجة يأتي تكوين النسيج الغضروفي الذي يكوّن العظام التي صُنعت في الخفاء بعملية الكالسيفيكيشن (التكلُّس)...
ويقول شيء خطير وهو ترقيم العظام أي تميُّزها الوظيفي، فبالفعل لا يُخلق هيكل عظمي ثم يُكسى باللحم، ولكن نسيج غضروفي يتكلس ويتميَّز بعدها إلى عظام ومفاصل... وبعدها تأخذ الأعضاء شكلها النهائي وتنمو في الحجم كما صُوّرت، فهذا وصف دقيق جدًا لتكوين الجنين، وفي نفس الوقت مناسب لكل ثقافة وكل فكر، وهذا هو كلام الرب المناسب لكل زمان ومكان ولا يختلف عليه المفسرون".
5- في تصوير بارع صوَّر أيوب تكوين الجنين من الزيجوت ونموّهُ بانقسام الخلايا، وتكوين الكتلة الجنينية مثل اللبن الذي يتخثر ويتحوَّل إلى جُبن له قوام بعد أن كان سائلًا، ثم تكوُّن الجلد واللحم والنسيج العظمي ثم العصبي، وفيما يلي نعرض باختصار شديد لهذه المراحل الأربع:
أ- تشبيه السائل المنوي باللبن: وهو تشبيه دقيق من جهة اللون الأبيض، ومن جهة القوام، وإن كل منهما يحوي مواد سكرية، ويحمل السائل المنوي الحيوانات المنوية التي تتسابق تجاه قناة فالوب Fallopeian tube فيصل أقوى هذه الحيوانات ويخترق جدار البويضة، والحقيقة أنه توجد قناتان لفالوب تمُرّ البيضة في أحدهما، والثانية في الشهر التالي تمُرّ بالقناة الثانية، وهكذا تستمر عملية التبويض بالتناوب بين القناتين.
ب- وَخَثَّرْتَنِي كَالْجُبْنِ: وجاء التعبير في الأصل العبري بصيغة المفرد، لأن هناك حيوان منوي واحد وهو الأقوى الذي يصل إلى البويضة ويخترق جدارها، فيتكوَّن الزيجوت من البويضة المُخصّبة من خلية واحدة، ثم يبدأ يتوالى الانقسام الميتوزي Mitatic Division في هذه الخلية بمتوالية هندسية، فالخلية تصبح بعد الانقسام خليتين، والاثنين أربعة، والأربعة ثمانية، والثمانية ستة عشر، والستة عشر اثنين وثلاثين خلية وهلمَّ جرا... فيتكوَّن جسم كروي يُدعى " نوريولا " في اليوم الثالث من الإخصاب تقريبًا، ويلتصق هذا الجسم بجدار الرحم، ويكون شكله فعلًا مثل قطعة الجبن الصغيرة المتخثرة، وتُسمّى هذه المرحلة Differentiation، ويتكوَّن ectoderm، أو mesoderm، وendoderm.
ج- تكوين الجِلد واللحم: بعد الأسبوع الأول تبدأ الطبقات الثلاث ectoderm وmesoderm وendoderm في تكوين أنسجة، فتكون الطبقة الأولى (ectoderm) الـmesenchyme وهذه يتكوَّن منها طبقة الأبيثيليم Epithelium التي يتكوَّن منها الجِلد حتى الشهر الثالث، ويوازيها مرحلة الميزوديرم mesoderm المحاطة بالأكتوديرم ectoderm حيث يتحوَّل الجِلد إلى أنسجة ثلاثية هي:
- باراكسيال ميزوديرم Paroxial Mesoderm
- انترميدت ميزوديرم Intermediate Mesoderm
- لاترال بلات ميزوديرم Latera Plate Mesoderm
وتتميز الأولى (Paroxial Mesoderm) بالنسيج السومتك الذي يكوِّن النسيج العضلي والعضلات الإرادية، وحتى هذه اللحظة لا يوجد أي عظام ولا أعصاب، بينما تستمر الأنسجة في النمو والتمايز، والنسيج الداخلي يبدأ يكوِّن الرئة والمثانة وغيرهما.
د- تكوين العِظَام والأعصاب: cartilage حيث يبدأ في الانتشار نسيج غضروفي داخل طبقة الأنسجة العضلية (الوسطى) Ossification وهذا النسيج يبدأ بترسب الكالسيوم عليه من بداية الشهر الثالث فتتكوَّن العِظَام. وفي الشهر الرابع يبدأ النسيج العصبي، فيتكوَّن من الجزء الأعلى المخ ومن الجزء الأسفل يتكوَّن الحبل الشوكي، وبعض الخلايا تنتشر لتكون نسيج عصبي Neural Crest، وتتكوَّن العقد العصبية التي منها ينتشر النسيج العصبي الذي يتمايز فيما بعد إلى أعصاب إرادية وأخرى لا إرادية.
_____
(1) دائرة المعارف الكتابية جـ3 ص 238.
(2) مختار الصحاح ص 170.
(3) هوليبابيلوان.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1546.html
تقصير الرابط:
tak.la/69hymbz