ج: أولًا: 1- قال أيوب في رده على أليفاز التيماني الذي بدأ الحوار الأول، وقد وافقه الرأي أصدقائه بصمتهم واستحسانهم كلامه: "هَلْ يَنْهَقُ الْفَرَا عَلَى الْعُشْبِ، أَوْ يَخُورُ الثَّوْرُ عَلَى عَلَفِهِ؟" (أي 6: 5).
وفي " الترجمة اليسوعية": "أينهقُ الحمارُ الوحشيُّ على العُشبَ، أو يخورُ الثورُ على عَلفِه؟".
وفي " ترجمة كتاب الحياة": "أينهقُ الحمارُ الوحشيُّ على ما لديه من عُشب، أم يخورُ الثورُ على ما لديه من علفٍ؟".
وفي " الترجمة العربية المشتركة": "أينهقُ الحمارُ على العشبِ، أو يخورُ الثَّور على عَلفِه؟".
الفَرا: هو الحمار الوحشي، ومن الطبيعي أن الحمار عندما يعضه الجوع ولا يجد عشبًا فأنه يرفع صوته بالنهيق، وكأنه يسترحم السماء، وهكذا الثور عندما لا يجد علفًا ويشتد به الجوع فلا يجد وسيلة للتعبير عن ذلك إلاَّ بالخوار، لينبه صاحبه الذي أهمله وقصَّر في حقه. إذًا نهيق الحمار وخوار الثور ما هو إلاَّ دليل على حرمانهما من قوت الحياة، أمَّا إذا توفر العشب للحمار فلا ينهق ولا يشتكي جوعه، وهكذا الثور أيضًا. هذا هو حال الحيوان الأعجم، فأنه لا يصرخ بلا سبب، بينما أليفاز وصديقاه يحتجون على أيوب لأنه يرفع صوته بكلمات شكوى مُرّة، وإن جاز التعبير هي خليط بين النهيق والخوار، ويريدونه أن يكف عن هذه النغمات النشاز، بينما هم لا يهتمون بالبحث عن الدافع الذي دفع أيوب إلى أن يسبَّ يومه، بعد أن فقد كل تنعماته ومات أولاده وعَدِم صحته، وحُرِم من كل شيء باستثناء لسان تركه له الشيطان معافى حتى يُجدّف به على الله وزوجة تدفعه للانتحار... رفع أيوب صوته يجأر بالشكوى بعد أن اشتد به الألم، وحُرِم حتى من الطعام، وما كان يتأفَّف منه بالأمس من طعام ماسخ بلا ملح وحساء الرِجْلَة التي لا طعم لها هو ما صار متوفر له الآن وليس له بديل (أي 6: 6، 7)... هل وصلت الفاقة بأيوب إلى أنه افتقر لملح الطعام؟!!
2- يقول " القديس يوحنا الذهبي الفم": "بنفس الطريقة كما أن الحمار (الوحشي) لا يختار أن ينهق بلا سبب، ولا الثور أن يخور عند المذود، هكذا لا يختار أحد أن يأكل خبزًا بدون ملح، ولو أن يصغى إلى كلمات باطلة... يقول هكذا: ما كنت قد اخترت أن أنتحب على هذا الأمر، لو لم توجد ضرورة تحثني على هذا"(1).
3- يقول " لويس صليب": "لقد تحدث أليفاز عن الأسُود (أي 4: 10، 11) ولكن ها هو أيوب يأتي بحالة أكثر انطباقًا على الموضوع فيقول: "هَلْ يَنْهَقُ الْفَرَا عَلَى الْعُشْبِ " إذا كان الفرا أو الحمار الوحشي يجد طعامه أمامه فهل ينهق عليه كما لو كان جائعًا جوعًا عظيمًا؟ " أَوْ يَخُورُ الثَّوْرُ عَلَى عَلَفِهِ؟ " كلاِّ أنه يلتهمه التهامًا. "هَلْ يُؤْكَلُ الْمَسِيخُ " ما لا ملوحة له. بلا طعم بلا ملح؟ ها أنا في هذا الوضع المؤلم، لا طعام أمامي بل كل ما كان مُعذّب، وما من شيء أستطيع به أن أجعله مستساغًا مبلوعًا لا ملح فيه على الإطلاق كأنه سُم ناقع"(2).
4- جاء في هامش " الكتاب المقدَّس الدراسي": "يقول أيوب أن من حقه أن ينهق ويخور لأن الله جرحه، ولأن أصحابه قدّموا له طعامًا (كلامًا) بلا طعم"(3).
ثانيًا:
1- قال أيوب: "يَا لَيْتَ طِلْبَتِي تَأْتِي وَيُعْطِينِيَ اللهُ رَجَائِي! أَنْ يَرْضَى اللهُ بِأَنْ يَسْحَقَنِي، وَيُطْلِقَ يَدَهُ فَيَقْطَعَنِي" (أي 6: 8، 9). فبسبب الكوارث والبلايا التي حلَّت بأيوب صار يطلب من الله أن يميته كما أمات أولاده من قبل، ليضع حدًا لأوجاعه وآلامه، أمَّا فكرة الانتحار فهي فكرة مرفوضة من أي إنسان يؤمن بوجود الله، لأنه يعلم يقينًا أن الله هو مانح الحياة للإنسان وهو الوحيد الذي له حق إنهاء هذه الحياة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. ولذلك عندما عرضت زوجة أيوب عليه فكرة الانتحار كنوع من موت الرحمة حتى يستريح من العذابات التي تنتابه رفض بشدَّة قائلًا: "تَتَكَلَّمِينَ كَلاَمًا كَإِحْدَى الْجَاهِلاَتِ " ففكرة الانتحار هي في الحقيقة فكرة إنسان جاهل يفتقد أبسط معاني الحكمة، أمَّا أيوب فهو الرجل الكامل المستقيم الذي يتقي الله ويحيد عن الشر، فكيف يرتكب هذا الشر العظيم ويرتكب جريمة قتل لنفسه..؟! حقًا إن فكرة الانتحار تأباها كل نفس تحترم آدميتها وتعرف الناموس الطبيعي، وبعد مرور مئات السنين على قصة أيوب، وفي القرن الأول الميلادي شجع الفيلسوف الروماني "سنيكا" الذين يعانون أمراضًا لا شفاء منها على الانتحار، وهي فكرة شيطانية... لم يستجب الله لطلبة أيوب بأن يميته، لأنه أقامه مثلًا للأجيال يبعث الشجاعة والأمل في كل نفس تجوز بحور الألم.
2- يقول " لويس صليب": "يَا لَيْتَ طِلْبَتِي تَأْتِي وَيُعْطِينِيَ اللهُ رَجَائِي. أَنْ يَرْضَى اللهُ بِأَنْ يَسْحَقَنِي!" من هنا نرى أنه لم يكن يخشى الموت بتاتًا. لقد تسامى فوق الموت بصورة عجيبة. ولكنه لم ينظر إليه باعتبار أنه ربح، لم يكن في استطاعته أن يفعل ذلك، فلم يكن له المسيح الذي يجعل الموت ربحًا، ولكنه كان ينظر إلى الموت باعتباره نهاية آلامه وأوجاعه. وهذا حق، ولكنه لا يمثل سواء جانب واحد من الحق وهو أقل بكثير مما كان الله مزمع أن يريه ونذكر هذا لنُبيّن أن مشكلة أيوب لم تكن بتاتًا خوفًا من الموت أو من العالم غير المنظور، بل كانت التجربة التي يستطيع أن يرى لها حلًا في هذه الحياة الحاضرة المُعقدة"(4).
_____
(1) أورده القمص تادرس يعقوب - تفسير سفر أيوب جـ1 ص 241.
(2) تفسير سفر أيوب جـ1 ص 103.
(3) الكتاب المقدَّس الدراسي ص 1200.
(4) تفسير سفر أيوب جـ1 ص 105.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1533.html
تقصير الرابط:
tak.la/4gp2htc