ج: 1- بالطبع لا، لأن أيوب فتح فاه وسبَّ اليوم الذي وُلِد فيه، ولكنه لم يجدف على اسم الله، ولم يسبَّ ربه، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وما فعله أيوب أنه كان يُنفّس عن نفسه، ويسمح لمشاعره الإنسانية بأن تطفو على السطح، وقد فعل هذا من جراء الآلام النفسية والجسدية التي اكتوى بنارها، وفي كل هذا لم ينساق وراء عدو الخير ولم يجدف على اسم الله تبارك اسمه، والله الرحوم تفهَّم جيدًا تلك المشاعر الصادرة من قلب نقي مستقيم يؤمن به جيدًا وقد وضع كل اتكاله عليه، ولا ننسى أن أيوب البار قدم توبة قوية قبل نهاية السفر، توبة عن الأفكار والأقوال والاعتراضات والظنون التي صدرت منه ولا تليق بالعدالة الإلهيَّة فقد ظنَّ أن الله قد اضطهده وظلمه، ولذلك اعترف قائلًا: "قَدْ نَطَقْتُ بِمَا لَمْ أَفْهَمْ" (أي 42: 3).
2- كان أيوب كإنسان تحت الضعف البشري له ضعفاته وسهواته، فإذا سبَّ ولعن يوم مولده، فذاك أمر متوقع وليس غريبًا، فكون أيوب رجل كامل ومستقيم لا يعني على الإطلاق أنه بلا خطية، وهو اعترف بهذه الحقيقة، وطلب أيوب من الله أن لا يبارك هذا اليوم الذي وُلِد فيه كما سبق وبارك اليوم السابع بعد الخلقة، وأظهر أيوب اشتياقاته للموت الذي يضع حدًا للآلام التي تطحنه، ومع ذلك لم يفكر في التجديف على اسم الله ورفض فكرة الانتحار.
ويقول " متى هنري": "كانت... ضعفًا أن يسبَّ أيوب يومه، ويجب الاعتراف بأن هذه كانت نقطة الضعف في حياته. لكن الأشخاص الصالحين... عندما نسمع أنهم كانوا " كاملين " يجب أن نفهم بأن المقصود أنهم كانوا " مستقيمين " لا أنهم كانوا بلا لوم... فإن كان أيوب قد لعن يومه، لكنه لم يجدف على إلهه. وإن كان قد ملَّ حياته وتعب منها، واشتاق إلى التخلُّص منها، لكنه لم يتضجر من تدينه، بل تمسك به، ولم يشته أن يتخلَّص منه.
لم تكن المناقشة التي تمت بين الله والشيطان بصدد أيوب تدور حول ما إذا كان أيوب له ضعفاته، إذ أنه تحت الآلام مثلنا، فهذا كان أمرًا مُسلَّمًا به، بل كانت تدور حول ما إذا كان مرائيًا، يبغض الله سرًّا، وفي وقت الغضب يُظهر هذه البغضة، لكنه بعد الامتحان برهن على أنه لم يكن هكذا. في كل هذا يبين أنه كان مثالًا للصبر "(1).
ويُعلّق " جان ليفيك " على سب أيوب يوم مولده قائلًا: "لا يدَّعي أيوب هنا إفساد نظام الخليقة ولا إعادتها إلى الظلام... لا تتناول لعنته سوى يومٍ واحد وليلٍ واحد... يوم مولده والليل الذي لم يغلق عليه أبواب البطن... عبارة... " ليكن ذلك النهار ظلامًا " مضادة تمامًا للكلمة الخلاَّقة: "ليكن نور" (تك 1: 5). لا يستطيع أيوب ولا يريد أن يلعن الله، فهو يتمنى أن يزول عن الوجود بل بالأحرى يتمنى أنه لم يبرز إلى الوجود: وَدَّ لو استطاع، منذ البدء، أن يُمحى خبره وحتى أَثره في تاريخ العالم. إن كلَّ عنفه عنف الإنسان المجروح. يركّز على أصل حياته، أصلها الخفي: الحبل به، وأصله المنظور أي مولده. ولكن أيوب، من خلال هذا النبذ لنهار وليل، يلوم ضمنًا الله، سيد النهار والليل (تك 20: 18، 29: 31، 30: 22، 1صم 1: 5)"(2).
3- اعتاد الإنسان الشرقي أن يعبر عن الآلام التي حلَّت به والكوارث المفاجئة بتمزيق ملابسه وسبَّ يوم مولده، وهذا ما حدث مع نبي عظيم مثل إرميا النبي فيما بعد، فأنه لم يكتفِ بلعن يوم مولده، بل لعن الإنسان الذي بشَّر أبيه بميلاده، فقال: "مَلْعُونٌ الْيَوْمُ الَّذِي وُلِدْتُ فِيهِ! الْيَوْمُ الَّذِي وَلَدَتْنِي فِيهِ أُمِّي لاَ يَكُنْ مُبَارَكًا! مَلْعُونٌ الإِنْسَانُ الَّذِي بَشَّرَ أَبِي قَائِلًا: قَدْ وُلِدَ لَكَ ابْنٌ مُفَرِّحًا إِيَّاهُ فَرَحًا. وَلْيَكُنْ ذلِكَ الإِنْسَانُ كَالْمُدُنِ الَّتِي قَلَبَهَا الرَّبُّ وَلَمْ يَنْدَمْ، فَيَسْمَعَ صِيَاحًا فِي الصَّبَاحِ وَجَلَبَةً فِي وَقْتِ الظَّهِيرَةِ. لأَنَّهُ لَمْ يَقْتُلْنِي مِنَ الرَّحِمِ، فَكَانَتْ لِي أُمِّي قَبْرِي وَرَحِمُهَا حُبْلَى إِلَى الأَبَدِ. لِمَاذَا خَرَجْتُ مِنَ الرَّحِم، لأَرَى تَعَبًا وَحُزْنًا فَتَفْنَى بِالْخِزْيِ أَيَّامِي؟" (إر 20: 14-18). ولا ننسى أن إيليا النبي الناري في هروبه من وجه إيزابل تمنى الموت قائلًا: "قَدْ كَفَى الآنَ يا رب. خُذْ نَفْسِي لأَنِّي لَسْتُ خَيْرًا مِنْ آبَائِي" (1مل 19: 4)، ويونان النبي العظيم طلب لنفسه الموت أكثر من مرّة: "فَالآنَ يا رب، خُذْ نَفْسِي مِنِّي، لأَنَّ مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي" (يونان 4: 3)... " فَطَلَبَ لِنَفْسِهِ الْمَوْتَ، وَقَالَ: مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي" (يونان 4: 8)، فهؤلاء الآباء والأنبياء هم من نفس عجينة البشرية التي فسدت بالخطية.
ويقول " تشارلس ماكنتوش": "وهذا هو عين الحال مع إرميا رجل الله المبارك فلقد سقط هو أيضًا مجندلًا تحت ثقل أحزانه العديدة المتراكمة، فبرزت نفثات عواطفه وزفرات مشاعره في كلماته المرّة: "مَلْعُونٌ الْيَوْمُ الَّذِي وُلِدْتُ فِيهِ! الْيَوْمُ الَّذِي وَلَدَتْنِي فِيهِ أُمِّي لاَ يَكُنْ مُبَارَكًا! مَلْعُونٌ الإِنْسَانُ الَّذِي بَشَّرَ أَبِي قَائِلًا: قَدْ وُلِدَ لَكَ ابْنٌ مُفَرِّحًا إِيَّاهُ فَرَحًا..." (إر 20: 14-18). أية لغة هذه!! تأمل في لعنته للإنسان الذي بشر بولادته إذ يلعنه لأنه لم يقتله!!"(3).
4- يقول " القمص تادرس يعقوب": "يصرخ أيوب في مرارة لكنه لم يسبَّ الله. أنه مثل إرميا يسبَّ يوم ميلاده... حقًا لم ينطق أيوب بكلمة ضد الله، إذ لم يسبه، إنما سبَّ حياته منذ حُبِلَ به، ليس من أجل حاضره، ولا خشية ما سيحل به في المستقبل، وإنما امتد به اليأس ليكره حياته حتى وهو في رحم أُمه، أي يرجع بفكره إلى الماضي الذي لن يعود، ولا يمكن تغييره... كان ذلك ضعفًا في حياته أن يسبَّ أيوب الحَبَل به، فمع وصفه أنه مستقيم لعن يومه، لكنه لم يجدف على الله... للأسف تطلع أيوب إلى يوم الحَبَل به كأسوأ يوم في التاريخ، وحسه بدء انطلاقه لآلامه التي لا تُحتمل. لقد نسى ما تمتع به من خيرات. لقد التهمت السنوات العجاف السنوات المملوءة بالبركات. صار فكره سجين المُرّ الذي يعيش فيه، فتطلع إلى حياته كلها بمنظار قاتم للغاية"(4).
_____
(1) ترجمة القمص مرقس داود - تفسير سفر أيوب جـ1 ص 54.
(2) أيوب الكتاب والرسالة ص 17.
(3) ترجمة أحد الإخوة - أيوب وأصحابه ص 15، 16.
(4) تفسير سفر أيوب جـ1 ص 126، 127.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1524.html
تقصير الرابط:
tak.la/y5kzamj