يقول " فراس السواح " بأن فكرة التنين ولوياثان والحيَّة الهاربة مقتبسة من الأساطير السومرية، فبعد أن تم تنظيم الكون اندفع من باطن الأرض " كور " التنين السومري للعالم الأسفل، الإله المُطلق لعالم الموت والظلام، في محاولة منه لإرجاع الحياة إلى الجمود، وإعادة الحركة إلى السكون، والنور إلى ظلمات، ولكن تصدى لكور كلٍ من " أنانا " آلهة الحياة والحب والخصب، و"إنكي " إله الماء وواهب الحياة، و" ننورنا " ابن " أنليل " إله الهواء والحركة (راجع مغامرة العقل الأولى). وأورد فراس السواح نصًا من الحضارة الأوغاريتية يقابل ما جاء في (إش 27: 1) عن قتل لوياثان الحيَّة الهاربة، لوياثان الحيَّة الملتوية، شالياط ذات الرؤوس السبعة(7).
ج: 1- فتح أيوب فاه وسبَّ يومه قائلًا: "هُوَذَا ذلِكَ اللَّيْلُ لِيَكُنْ عَاقِرًا، لاَ يُسْمَعْ فِيهِ هُتَافٌ. لِيَلْعَنْهُ لاَعِنُو الْيَوْمِ الْمُسْتَعِدُّونَ لإِيقَاظِ التِّنِّينِ" (أي 3: 7، 8).
وقوله "لِيَلْعَنْهُ لاَعِنُو الْيَوْمِ" لأن البعض ظنَّ أن العرافين والسحرة الذين يدَّعون السيطرة على الأرواح، إذا ما لعنوا يومًا صار هذا اليوم نحسًا وملعونًا، ولكن من المستبعد أن أيوب كان يؤمن بهذه الخرافات، لذلك قال بعض المفسرين أن "لاَعِنُو الْيَوْمِ" هم الذين يلعنون يومهم نتيجة اليأس من شفاء أمراضهم والخلاص من أوجاعهم ومتاعبهم وأحزانهم.
ويقول "القس عيد تادرس": "ظن بعضهم أن لاعني اليوم هم السحرة والعرافين وأنكر هذا الظن بعض الشرَّاح استنادًا إلى سمو يقين أيوب وإيمانه بالله لدرجة معها لا يقبل أقوال هؤلاء الدجالين ولذا قالوا أن لاعني اليوم هم جماعة التعابى المثقلين بأمراض وغموم كثيرة، الفاقدي كل سعادة وتعزية، الذين وقعوا في القنوط واليأس وصاروا يلعنون أيامهم، بل بلغ بهم اليأس إلى أن صيّرهم كمستعدين لتهيّج الحيَّة (التنين) لتمزقهم فيتخلَّصوا من حياتهم المُرّة"(1).
2- كان القدماء يعتقدون أن هناك تنينًا ضخمًا يلف نفسه حول الشمس حتى يخفي نورها فيحدث الكسوف، أو يلف نفسه حول القمر فلا يظهر ضوءه فيحدث الخسوف، ويقول " القس وليم مارش": "لِيَلْعَنْهُ لاَعِنُو الْيَوْمِ: إشارة إلى السحرة الذين ادَّعوا السلطة على الأرواح والقوات الطبيعية ومعرفة الأمور المستقبلية فإذا قالوا عن يوم أنه شؤم أي لعنوه لا يجوز العمل فيه. وبما أن القدماء لم يعرفوا علة الكسوف والخسوف ظنوا أن تنينًا أي حيوانًا وهميًّا كان يبلع الشمس أو القمر أو أنه كان يغطيه بالتفافه عليه كحيَّة عظيمة وأن للسحرة سلطة على التنين فيوقظونه أو يسكّنونه حينما يشاءون"(2).
ويقول " كانن سل": "يريد بذلك أن أولئك السحرة الذين حسبوا أنهم يستطيعون أن يستحضروا تنينًا لابتلاع الشمس والقمر وإغراق الخليقة في التشويش والظلام ينبغي أن يستعملوا قواهم على ذلك الميل، ويتمنى (أيوب) أن نجوم الشفق وأهداف الصبح وبشراء النهار لا تُبشّر به لأنه لم يمنع ولادته ولأنه جلب عليه ضيقًا عظيمًا"(3).
وجاء في هامش " الكتاب المقدَّس الدراسي": "ليلعنه السحرة الحاذقون: يقصد العرافين الشرقيين مثل بلعام (عد 22-24) الذين كانوا ينطقون بلعنات على الناس، والأشياء، والأيام. التنين: يستخدم أيوب لغة حية مجازية قائلًا: أنه يتمنى أن يقيم أولئك " السحرة الحاذقون " وحش البحر (إش 27: 1) ليبتلع نهار وليل اليوم الذي وُلِد فيه"(4).
إذًا ليس معنى استخدام أيوب عبارات شائعة أنه كان يؤمن بهذه الخرافات، لأنه كان يؤمن بالإله الواحد الحقيقي، ولم يسقط قط في أي عبادة وثنية، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. وجاء في "دائرة المعارف الكتابية: "ليس في هذا الأمر مشكلة لأن أيوب كان في حالة اضطراب تعرَّض فيها للخطأ، فاستخدم قولًا شائعًا للتعبير عن آلامه النفسية، وكان يعلم جيدًا أن الرب ينهي عن استخدام السحرة... لقد كانت أفكار أيوب وأصحابه مشوشة فيما يتعلق بعدالة الله، فكانت تصدر منهم أحيانًا عبارات انسياقًا وراء الآراء التي كانت شائعة في عصرهم، ولكننا لا نجد شيئًا من ذلك في أقوال الله المدوَّنة في الأصحاحات (38-41)، فهي خالية تمامًا من مثل هذه المزاعم الأسطورية... وشبيه بهذا ما جاء في العهد الجديد من إطلاق اسم الإله الوثني " بعلزبول " على الشيطان، فكثيرًا ما تقتضي الأساليب البلاغية استخدام مثل هذه العبارات بدون أن تتضمن -بالضرورة- الاعتقاد بتعدد الآلهة... كما أن الإشارة إلى آلهة اليونان ليست دليلًا على إني أؤمن بها، ويؤيد ذلك ما جاء في أيوب (أي 31: 26، 27) حيث ينكر مشددًا أنه لم يشترك مطلقًا في عبادة وثنية للشمس أو للقمر...
وفي الختام نقول أن العلامة المميزة للأساطير ليست هي الإشارة إلى آلهة أو خلع صفات أو تعبيرات بشرية على الآلهة مع سائر الاستعارات الوصفية، بل بالحري هي رواية أعمال آلهة عديدين لهم نفس المحدوديات والخطايا مثل كل البشر، بما فيها العلاقات الجنسية، وليس في سفر أيوب ولا في أي سفر آخر من أسفار العهد القديم أقل تلميح إلى الاعتقاد بشيء من هذه الأساطير"(5).
3- لا شك أن "التنين" في لغة الكتاب المُقدَّس فيه إشارة للشيطان الذي كان ملاكًا وعندما تكبر طُرح من السماء: "وَحَدَثَتْ حَرْبٌ فِي السَّمَاءِ: مِيخَائِيلُ وَمَلاَئِكَتُهُ حَارَبُوا التِّنِّينَ، وَحَارَبَ التِّنِّينُ وَمَلاَئِكَتُهُ وَلَمْ يَقْوَوْا، فَلَمْ يُوجَدْ مَكَانُهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي السَّمَاءِ. فَطُرِحَ التِّنِّينُ الْعَظِيمُ، الْحَيَّةُ الْقَدِيمَةُ الْمَدْعُوُّ إِبْلِيسَ وَالشَّيْطَانَ، الَّذِي يُضِلُّ الْعَالَمَ كُلَّهُ، طُرِحَ إِلَى الأَرْضِ، وَطُرِحَتْ مَعَهُ مَلاَئِكَتُهُ" (رؤ 12: 7-9). بالصليب قيَّد السيد المسيح الشيطان أي جرده من سلطانه على أولاد الله فصار كأسد داخل قفص حديدي لا يقوى إلاَّ على الذين يدخلون إلى عرينه، وفي آخر الأيام سيُحل الشيطان من قيوده فيصير أشد شراسة: "فَقَبَضَ عَلَى التِّنِّينِ، الْحَيَّةِ الْقَدِيمَةِ، الَّذِي هُوَ إِبْلِيسُ وَالشَّيْطَانُ، وَقَيَّدَهُ أَلْفَ سَنَةٍ، وَطَرَحَهُ فِي الْهَاوِيَةِ وَأَغْلَقَ عَلَيْهِ، وَخَتَمَ عَلَيْهِ لِكَيْ لاَ يُضِلَّ الأُمَمَ فِي مَا بَعْدُ، حَتَّى تَتِمَّ الأَلْفُ السَّنَةِ. وَبَعْدَ ذلِكَ لاَبُدَّ أَنْ يُحَلَّ زَمَانًا يَسِيرًا" (رؤ 20: 2، 3)، ومدة الألف سنة تشير للمدة منذ صلب السيد المسيح وانتصاره على الشيطان إلى ما قبل المجيء الثاني، ويقول " متى هنري": "لعل التنين هنا يرمز إلى الشيطان، فيكون المقصود هنا تلك اللعنات التي يستخدمها السحرة والمنجمون لإثارة الشيطان"(6).
_____
(1) حل مشاكل العهدين - طبعة 1899م ص 14.
(2) السنن القويم في تفسير أسفار العهد القديم جـ5 ص 171.
(3) ترجمة القس يوسف فليحان والقس يعقوب حضر - مقدمة لسفر أيوب ص 25.
(4) الكتاب المقدَّس الدراسي ص 1196.
(5) دائرة المعارف الكتابية جـ1 ص 586-589.
(6) تفسير سفر أيوب جـ1 ص 56.
(7) راجع مغامرة العقل الأولى ص 185.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1525.html
تقصير الرابط:
tak.la/6fj8v7a