ج: 1- تعرّضت أستير مع كل بني جنسها للإبادة، ولكن عين الله الحارسة أنقذت شعبه، فدبّر قلق الملك ومجافاة النوم لجفونه، وعندما طلب تذكار أخبار الأيام رتَّب الله أن يُقرأ أمامه ما صنعه مردخاي عن إحسان للملك إذ أنقذ حياته من الموت، فأمر الملك بتكريم مردخاي تكريمًا عظيمًا بناء على مشورة هامان الذي ظن أن هذا التكريم من نصيبه، وهو لا يدري ما أصابه، وعندما دخلت أستير إلى الملك في خلوته حنَّن الرب قلب الملك فتعاطف معها واستجاب لدعوتها للوليمة مرتين، وعندما أخبرته بما نواه هامان حكم بإعدامه على ذات الخشبة التي أعدها هامان لصلب مردخاي.
2- كان هامان قد ألقى قرعة ليعرف اليوم المناسب لإبادة مردخاي وكل بني جنسه، فوقعت القرعة على يوم 13 آذار (أس 3: 7) واستصدر هامان أمرًا ملكيًا وأرسل رسلًا لجميع الممالك لإبادة اليهود في هذا اليوم (أس 3: 12 - 15)، وبدأ أعداء اليهود يتربّصون بهم منتظرين ذلك اليوم للبطش بهم وسلب ممتلكاتهم، ولأن أوامر ملوك فارس لا تنسخ أي لا تلغى (أس 8: 8) لذلك عندما سقطت أستير عند قدمي الملك وتضرَّعت له بدموع لينقذها هي وشعبها، واستثارت مشاعره قائلة: "كَيفَ أستَطِيعُ أن أرى الشَّرَّ الذي يُصِيبُ شَعبِي؟ وكَيف استَطِيعُ أن أرى هَلاَكَ جِنْسِي؟" (أس 8: 6). تم التحايل على الأمر الملكي الأول بإصدار مرسوم آخر يعطي لليهود حق الدفاع عن أنفسهم: "أعطَى المَلِك اليهُود في مدِينَةٍ فَمَدِينَةٍ أن يَجتَمِعُوا ويَقِفُوا لأجل أنفُسِهِمْ، ويُهْلِكُوا ويَقتُلُوا ويُبِيدُوا قُوَّةَ كُلِّ شَعبٍ وكُورةٍ تُضَادُّهُمْ حتَّى الأطفال والنِّساء، وأن يَسلُبُوا غَنِيمَتَهُمْ"(أس 8: 11). إذًا لم يكن الأمر مُطلق لليهود ليقتلوا ما يشاءون من شعوب الأرض، إنما الأمر كان محددًا بمن يضادهم، أي من شرع في محاربتهم والاعتداء عليهم والانتقام منهم: "وكُلُّ رُؤَسَاء البُلدَانِ والمَرَازِبَةُ والوُلاَةُ وعُمَّالُ المَلِكِ ساعَدُوا اليَهُود، لأَنَّ رُعبَ مُردَخَايَ سَقَطَ عَلَيْهِمْ" (أس 9: 3) لأن شأن مردخاي قد تعظَّم فصار الرجل الثاني، وعندما صدر الأمر الثاني للسماح لليهود بالدفاع عن أنفسهم: "كانَتْ مَدِينَةُ شُوشَنَ مُتَهَلِّلَةً وفَرِحَةً. وكانَ لِلْيَهُود نُورٌ وفَرحٌ وبَهْجَةٌ وكَرَامَةٌ... وكَثِيرُون من شُعُوبِ الأرضِ تَهَوَّدُوا لأَنَّ رُعْبَ اليَهُودِ وقَعَ علَيهم" (أس 8: 15 - 17).
لقد استعد اليهود لهذا اليوم وصدوا هجوم الأعداء وانتقموا من الذين كانوا يضمرون الشر بهم: "في اليَوْم الذي انْتَظَرَ فِيهِ أعدَاءُ اليَهُودِ أَنْ يَتَسَلَّطُوا عَلَيْهِمْ، فَتَحَوَّلَ ذلك، حَتَّى إنَّ اليَهُود تَسَلَّطُوا على مُبْغِضِيهِمِ. اجْتَمَعَ اليَهُودُ في مُدُنِهِمْ في كُلِّ بلاد المَلِكِ أَحَشْوِيرُوشَ لِيَمُدُّوا أيْدِيَهُمْ إلى طالِبي أذيَّتِهِمْ، فَلمْ يَقِفْ أحَدٌ قُدَّامَهُم لأنَّ رُعْبَهُمْ سَقَطَ على جَمِيعِ الشُّعُوبِ... فَضَرَبَ اليَهُودُ جَمِيعَ أَعْدَائِهِمْ ضَرْبَةَ سَيْفٍ وقَتْل وهَلاَكٍ، وعَمِلُوا بِمُبْغِضِيهِمْ ما أرَادُوا" (أس 9: 1 - 5) وواضح من النص للمرة الثانية أن انتقام اليهود لم يكن مُطلق إنما انتقموا فقط ممن يضمرون الشر لهم "لِيَمُدُّوا أيْدِيَهُمْ إلى طالبي أَذيَّتِهِمْ". ولم يقتلوا النساء ولا الأطفال، وبالرغم من أن الأمر الملكي الصادر سمح لهم بسلب غنيمة أعدائهم، لكنهم "لَمْ يَمُدُّوا أَيْدِيَهُمْ إِلَى النَّهبِ" (أس 9: 10، 15، 16). إذًا الهدف من هذه الحرب هو حماية أنفسهم وليس طمعًا في الغنائم والأسلاب.
3- كانت الحرب حرب عادلة بين اليهود وأعدائهم، فلم تكن الحرب مفاجئة لأي طرف من الطرفين، بل كان كل منهما مستعدًا، ومتذرعًا بأمر ملكي، الأعداء متذرعين بالأمر الملكي الأول الذي ينص على إبادة اليهود رجالًا ونساءً وأطفالًا وشيوخًا وسلب ممتلكاتهم، واليهود كانوا متذرعين بالأمر الملكي الثاني الذي يبيح لهم الدفاع عن أنفسهم، واندفع أعداء اليهودي يريدون القضاء عليهم طمعًا في ثرواتهم، ولا سيما أبناء هامان العشرة الذين أرادوا الانتقام لأبيهم، ويقول "متى هنري": "هنا نرى حربًا حاسمة بين اليهود وأعدائهم، انتصر فيها اليهود. لم تكن مفاجئة لأي من الطرفين، لأن كل طرف كان له علم بها مقدّمًا منذ وقت طويل... كل طرف كان يستند إلى أمر ملكي:
أولًا: كان أعداء اليهود هم الذين بدأوا بالاعتداء والهجوم. فإنهم رغم الأمر الملكي الثاني أرادوا "أن يتسلطوا عليهم" استنادًا إلى الأمر الأول... ومن أجل هذا هجموا عليهم. لقد تجمعوا معًا وتحالفوا معًا "طالبين أذيتهم"...
ثانيًا: "لكن اليهود كانوا هم الغالبين" حتى أن اليهود تسلطوا على مبغضيهم"... وهنا نرى:
- ماذا فعله اليهود من أجل أنفسهم... " اجتمع اليهود في مدنهم" اتحدوا معًا ووقفوا للدفاع عن أنفسهم، لا يهجمون على أحد، لكنهم تحدّوا الجميع. لو لم يكن لديهم أمر ملكي يدعمهم لما تجرأوا أن يفعلوا هذا. لكنهم جاهدوا قانونيًا مستندين على ذلك الأمر. ولو كانوا قد دافعوا عن أنفسهم منفردين، كل أسرة بمفردها لصاروا فريسة سهلة لأعدائهم، لكنهم إذ اتحدوا كلهم في مدنهم المختلفة شدَّدوا بعضم بعضًا، وتجاسروا على مواجهة أعدائهم"(1).
4- قتل اليهود في شوشن خمسمائة رجل، وعندما بلغ الخبر الملك سأل أستير عما إذا كانت راضية بهذا، فطلبت أستير أن يتاح لليهود يومًا آخَر لأنه ما زال هناك بعض الأعداء لهم في شوشن، وليس بمستبعد أن يعودوا ويوحّدوا صفوفهم وينقموا من اليهود، فأرادت أستير وضع حدًا لهذه المؤامرات ضد شعبها، كما أنها أرادت أن يصير أبناء هامان الذي قُتلوا عبرة لغيرهم بأن تعلق جثثهم على صلبان: "فقَالَتْ أستير: إن حَسُنَ عنْدَ المَلِك فَليُعْطَ غدًا أيضًا لِليَهُودِ الذين في شُوشَنَ أن يَعْمَلُوا كَما في هذا اليوم، ويَصْلِبوا بني هامان العَشَرَةَ على الخَشَبَة"(أس 9: 13) فأذن لها الملك، إذ كانت مثل هذه التصرفات القاسية سمة ذلك العصر، ولا يصح أن نحكم عليها بمقاييس اليوم، ولا ننسى أن هامان هو الذي أراد أن يبدأ مسلسل الصلب، وقال السفر عن اليهود الذين كانوا مهددين بالقتل: "ووقفُوا لأجل أنْفُسِهِم واستَراحُوا من أعْدَائِهِمْ، وقَتَلُوا من مُبْغِضِيهِمْ خَمْسَةً وسَبْعينَ ألفًا، ولكنَّهُم لم يَمُدُّوا أيْدِيَهُم إلى النَّهب" (أس 9: 16) كما قتلوا في شوشن ثلثمائة رجل آخرين، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى.
ويقول "متى هنري": "هذا ما طلبت أستير الإذن لهم لكي يفعلوه، لزيادة الرعب في قلوب أعدائهم، ولسحق ذلك الحزب الخبيث سحقًا نهائيًا. علِمَ الملك بعدد من قتلوا بالسيف في اليوم الأول (ع 11) فقال لأستير ماذا تطلب بعد ذلك (ع 12). فقالت أنها لا تطلب غير الأذن بأن يكرّروا ما حدث يومًا آخَر. يقينًا إن أستير لم تكن ممن يتعطشون للدماء، ولا ممن يسرون بالقتل، لكنها كان لها سبب قوي لطلب تلك الطلبة"(2).
ويقول "القمص تادرس يعقوب": "إذ عرض الملك على أستير عدد القتلى في شوشن القصر... طلبت منه أن يسمح لهم بقتل أعدائهم في اليوم التالي أيضًا مع صلب بني هامان على الخشبة. لم تطلب أستير هذا الأمر حبًا في سفك الدماء، وإنما ربما أدركت أن العدو لا زال يدبرّ لهم الخطط لإنجاح خطة هامان، فأرادت أن تضع للأمر نهاية، أما صلب بني هامان فليكون ذلك عبرة لمن تسول له نفسه أن يدبرّ شرًا... هذا بالنسبة لشوشن القصر، أما بالنسبة لكل الكور فالتزمت بقرار الملك أن يكون الانتقام في اليوم الثالث عشر وحده ولم يعطَ يومًا آخر"(3).
5- نحن لا نعترف بعصمة أي إنسان مهما كان قدره ومكانته، فإن كان هذا التصرف يعتبره البعض قسوة مفرطة من أستير التي أنقذها الرب هي وشعبها من الهلاك، فإن هذا التصرف ينسحب عليها وعلى زوجها أحشويروش، مع ملاحظة الظروف القاسية التي عاشتها أستير وكل شعب اليهود، وشبح الموت يرقص أمامهم يومًا فيومًا، والأعداء يتربصون لهم منتظرين بشغف زائد يوم الذبح، فلم تشأ أستير تكرار هذه المأساة ثانية. ويقول "القس عيد صلاح": "ليس هناك إشارة من قريب أو من بعيد لمحاولة إلصاق العنف بالله حول الأربع المذابح البشرية الموجودة بالقصة. إن الله بريء من العنف، وليست هناك نصوص دينية تدعو للعنف في قصة أستير، وإن حدثت في العهد القديم بعض حوادث العنف، فهي حوادث فردية، استثنائية تخضع لمقاييس عصرها، لم تُكرَّر بنفس وذات الطريقة، ولم يُؤسّس أو يُدشّن العهد القديم لفلسفة جهادية قتالية، تكون دافعًا للعنف الديني.
ويبقى السؤال من أين أتى العنف في قصة أستير؟ والإجابة من الواقع المر الذي عاشه مردخاي، والخوف الذي حاول هامان زرعه في القلوب، والضغوط النفسية والاجتماعية التي انفجرت عند أقرب فرصة للقدرة على التنفيس والتنفيذ. يبقى الدين رسالة حب وتسامح، والله هو إله الحب، وقد بنى الكون على الحب، وخلق الإنسان من الحب. والعنف إذا ارتبط بالدين، يصبح هذا الارتباط باطلًا، ويصبح الدين مُعطّلًا لمسيرة البشرية، معوقًا للتقدم والتنمية"(4).
6- لمس أحشويروش مدى إخلاص مردخاي له، وعلم أن الذين يعادون اليهود هم من مشايعي هامان الشرير، ولا سيما في شوشن القصر، لذلك سمح أحشويروش لليهود بالدفاع عن أنفسهم، وهذا أمر عادل من جانب، ومن جانب آخر لكيما يقضي على أتباع هامان ومشايعيه، والذين بدأوا بمعاداة اليهود ارتد سيف النقمة عليهم: "يَعْلَمُ الرَّبُّ أن يُنْقِذَ الأَتقِيَاءَ من التَّجْرِبَةِ، ويَحْفَظَ الأثَمَةَ إلى يَوم الدِّين مُعَاقَبينَ"(2بط 2:9). وإن كنا لا نغفل تصرف الملك غير الحكيم، إذ بأمره الأول أمر بإبادة شعب بريء، وبأمره الثاني ساهم في نشوب حرب أهلية في مملكته.
_____
(1) ترجمة القمص مرقس داود - سفر أستير ص 108 - 110.
(2) المرجع السابق ص 112.
(3) تفسير سفر أستير ص 60.
(4) من العبودية إلى القصر ص 239، 240.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1494.html
تقصير الرابط:
tak.la/r3qw4qh