ج: 1- يذكر التقليد أن أستير كانت يتيمة الوالدين فمات أبوها قبل ولادتها، وماتت أمها أثناء ولادتها، ولم يكن لها إخوة ولا أخوات، فتولى تربيتها ورعايتها ابن عمها مردخاي الذي اعتبرها بمثابة ابنة له، وكان أسمها "هدسة" أي شجرة "الآس" وهى نوع من الشجر القصير، دائم الاخضرار العام كله، وذو رائحة عطرية، ودُعيت بِاسم "أستير" وهو اسم فارسي، ربما أطلقه عليها "هيجاي" المسئول عن بيت النساء، لأنه أُعجب بأدبها وجمال أخلاقها وحسن تصرفها واعتدالها وحشمتها، ولذلك دعاها "أستير" وهى كلمة فارسية مشتقة من الإلهة "أشتار" إلهة البابليين التي ترمز للخصب والشباب والجمال "وكانت أستير تنَالُ نِعْمَةً في عَيْنَيْ كُلِّ مَنْ رَآهَا"(أس 2: 15)، وجاء عنها في "دائرة المعارف الكتابية": "ويمكننا أن نستدل على مقدار ما كانت تتميز به ملكة فارس من جمال من تغيير اسمها من "هدسة" أي شجرة الآس إلى "أستير" الذي معناه "كوكب". ويقدم لنا السفر الملكة أستير كامرأة فاضلة ذات فكر ثاقب تتسم بضبط النفس، وتتحلى بأنبل صور الإيثار وبذل النفس"(1).
ويقول "عيسى دياب": "في التلمود أستير مُشبَّهة بنجمة الصبح، واليهود الإيرانيون يدَّعون بأنهم أبناء أستير، ويوجد في مدينة حمدان في إيران قبر يُقال عنه لأستير ومردخاي"(6)"(2). وكان أجمل ما في أستير، بالرغم من أنها وُلدت في أرض السبي وتربت وترعرعت في بلاد وثنية إلاَّ أن قلبها كان منعطفًا نحو أورشليم، وروحها متعلّقة بإله اسرائيل، فنشأت في أرض فارس ولكن بعقل وقلب يهودي، وقيل عن الإنسان اليهودي التقي أنه "يسعى بقدميه في شوشن وبابل وروما، وأثينا وكورنثوس ومصر، وفي أرجاء الأرض شرقها وغربها وشمالها وجنوبها، ولكن قلبه دائمًا نحو أورشليم، نحو مدينته التي لا ينقطع حنينه لها على مر الأزمنة... كما قال الوحي {إِنْ نَسِيتُكِ يا أُورُشَلِيمُ، تَنسَى يَمِيني... ليَلتَصِقْ لسَانِي بِحَنَكِي إن لم أذكُرك، إن لم أُفَضِّل أُورُشَلِيمَ على أَعظَم فرحي!} (مز 137: 5، 6)... لقد اندمجت كل الحضارات والقوميات أو انتهت وتلاشت في الشعوب التي ذهبت إليها أما هو فلم يندمج أو ينته أو يتلاشى بل انطبقت عليه نبوءة بلعام القائلة: {هُوذا شَعْبٌ يَسْكُنُ وحدَهُ. وبَيْنَ الشُّعُوب لا يُحْسَبُ} (عد 23: 9)"(3).
2- لم يسلم مردخاي أستير للملك الوثني أحشويروش، لكن عندما استبد الحنين بأحشويروش تجاه زوجته المحبوبة وشتي التي عزلها، ولم يستطع التراجع عن رأيه لأن قوانين وأوامر ملوك مادي وفارس لا تُنسخ. لذلك "قال غلْمَان المَلِكِ الذينَ يخْدِمُونَهُ: لِيُطْلَب لِلمَلِكِ فَتَيَاتٌ عَذَارى حَسَنَاتُ المَنْظَر، وليُوَكِّل المَلِكُ وكلاءَ في كُلِّ بِلاَدِ مَمْلَكَتِهِ لِيَجْمَعُوا كُلَّ الفَتَيات العذارى الحَسَنَاتِ المَنْظرِ... فَلَمَّا سُمِعَ كلاَم المَلِكِ وأَمرُهُ، وجُمِعَتْ فَتَيَاتٌ كَثيرَاتٌ إلى شُوشَنَ القصر إلى يَدِ هَيجَاي، أُخذَت أستير إلى بَيْتِ المَلِكِ" (أس 2: 2-8) فواضح جدًا أن وكلاء الملك كان لديهم سلطة لإحضار أي فتاة حسنة المنظر جميلة الصورة إلى قصر الملك، ويقول السفر "أُخِذَت أستير"... فمن الذي أخذها ليحضرها إلى بيت النساء..؟. أنهم وكلاء الملك وليس مردخاي، لأن مردخاي لم يكن من هؤلاء الوكلاء.
3- ربما تمنى مردخاي حفظ أستير بعيدًا عن هذه الأجواء الملكية، وربما كان يحدوه الأمل أن تصير أستير هي الملكة. عمومًا كان هذا اختبارًا قاسيًا لكل فتاة جميلة اُختيرت لهذا الغرض، لأنه بعد تدريبها وإعدادها لمدة عام كامل تدخل إلى الملك "في المَسَاء دخَلَتْ وفي الصَّباحِ رجَعَتْ إلى بَيْتِ النِّسَاءِ... لم تَعُدْ تَدْخُلْ إلى المَلِكِ إلاَّ إذا سُرَّ بها المَلِكُ ودُعِيَتْ باسمِهَا" (أس 2: 14) فهذه الفتاة بعد أن تقضي ليلتها مع الملك تصير بمثابة سرية للملك لا تدخل للملك ثانية إلاَّ إذا طلبها باسمها، فتقضي بقية حياتها وقفًا على الملك لا يمكنها أن تتزوج بمن تحب، بل تعيش في عزلة نزيلة في بيت النساء، وهكذا تتوقف حياتها أمام ليلة واحدة قضتها للترفيه عن الملك، ولا أحد يظن أن مردخاي كان يتمنى لأستير هذا الحظ العَثر والمصير التعس، ولكن سواء اُخذت أستير برضاء مردخاي أو بدون رضائه، فما باليد حيلة، ولا يظن أحد أن مردخاي دفع بأستير بغرض التقرُّب للقصر، لأنه أوصاها أن لا تخبر أحدًا بجنسها اليهودي، وهو لم يعلن قرابته للملكة، ولم يستغل موقعها من أجل أي فائدة شخصية.
4- أمام رغبة الملك لا تملك أي فتاة في فارس من أمرها شيئًا، فمتى أراد ملك فارس أن يتخذ أي فتاة زوجة أو سرية أو أمَة... من يقف ضد إرادته؟! والحقيقة أن الفتيات اللاتي أُخترن لهذا الغرض كن يتنافسن من منهن ستظفر بقلب الملك، أما أستير فلم تكن هكذا، بل تركت أمرها في يد ضابط الكل الذي وهبها نعمة لكل من ينظر إليها، ولو أرادت أستير أن ترفض هذا الزواج فليس من حقها هذا الرفض، والذين يظنون أن أستير قد أخطأت بزواجها من هذا الملك الوثني، فهم بالحقيقة لا يراعون عادات ذلك الزمان، ويقول "القس أنجليوس المقاري": "فواضح هنا أنه كان يتم المرور على البيوت وأخذ من تنطبق عليها المواصفات عنوة، فهل بعد هذا يمكن لأستير التي هي من أحد المسبيين أن ترفض أو تقاوم؟ مع العلم بأن هذا الوضع صعب على كل فتاة، إذ أين الفتاة التي تقبل أن تعيش حياة عنوسة إجبارية، فقد لا تدخل مرة أخرى إلى الملك حالة أنها لم تروق له فتُحرم بهذا من بيت وأسرة وأولاد كان كثيرين من الشبان الأقارب والجيران يسعدهم أن يرتبطوا بهن ويبنوا معهن بيتًا مدى الحياة لا سيما أنهن جميلات؟"(4).
5- بدأ الله خطته في إنقاذ شعبه قبل أن يبدأ هامان الشرير خطته في إبادة هذا الشعب اليهودي، ولهذا سمح الله بأن يكتشف مردخاي المؤامرة التي أُحيقت ضد الملك، وتم تسجيل هذا في سجلات قصر فارس، وأيضًا أعطى نعمة لأستير فأُعجب بها أحشويروش وصارت ملكة تشفع في شعبها، بل تقدم حياتها فداءً عن شعبها.
6- لم تسعى أستير إلى العرش، إنما العرش هو الذي سعى إليها، ولم تبهرها أضواء القصر، ولا التاج، ولا السُّلطة والجاه ولا الدالة التي لها عند الملك، وهذا واضح من صلاتها: "أنت تعلم الضرورة التي تجعلني أتحمل ما أتحمل. وإني أكره علامة الآلهة التي أحملها على رأسي حين أظهر أمام الناس. فأنا أمقتها كثوب نجس ولا أحملها في أيام راحتي" (أس 14: 16 سبعينية). عاشت أستير في تواضع وخضوع لمردخاي الذي قام بتربيتها، رغم أنها كانت قادرة على توديعه عند أبواب القصر بعد أن صار الفارق بينهما متسعًا جدًا، لكنها لم تفعل هذا ولم تتنكر لمردخاي، إنما "كَانَتْ أستير تَعْمَلُ حَسَبَ قَوْل مُردَخَايَ كَما كَانَتْ في تربِيَتِهَا عندهُ"(أس 2: 20).
وقد حافظت أستير على إيمانها بإله اسرائيل، لم يسلبها تاج الملكة إيمانها وبساطتها، فانجذب إليها الجميع من جاريات وحراس، و"رغم أن الحياة مع الله ليست بالهينة في القصور الملكية، فكيف بها في قصر ملك وثني شرير، ولكن الله حرس هذه الفتاة وصان إيمانها في أرض الأوحال والأرجاس... اختارت جواريها فأحسنت الاختيار، ولقد عاملت حراسها بكل لطف وعطف فكانت مثالًا حيًّا مجسَّمًا للإنسانية والرفق فأجلَّها الجميع... لم تتلوث بجراثيم الكبرياء بل رأت سعادتها، ليس في لبس التاج، ولكن في تعبُّدها لإلهها وحرصها على تنفيذ شريعته. لم يضفِ عليها المُلك شيئًا من أبهته وأباطيله ولكنها أضفت عليه طباعها وصفاتها فأصبح معنى المُلك جديدًا في نظر تابعيها وتابعاتها، فهربت منه العظمة والكبرياء وحلت البساطة والوداعة، فرَّت القسوة وحلّت الرحمة وشاعت بين جنباته الفضيلة وهكذا تخلَّق كل من حولها بأخلاقها وعاداتها وعفتها، وهكذا الناس على دين ملوكهم وملكاتهم"(5).
7- قالت أستير في صلاتها: "أنك تعلم إني أُبغض مجد الظالمين وأكْرَهُ مضجَعَ القُلفِ وجميع الغرباء" (أس 14: 15) فأستير لم تكن تتمنى أن تتزوج من رجل وثني حتى لو كان ملكًا، بالرغم من أن بعض اليهود في السبي تصاهروا مع الشعوب الأخرى، لكنها تكره مضجعَ القُلفِ أي غير المختونين، وهذا كناية عن الوثنيين، ورغم كراهيتها هذه فقد قبلت وضعها كزوجة لأحشويروش الملك الوثني، وبمجرد أن صارت زوجة له كانت الزوجة الأمينة الوفية المحبة المخلصة، فبمجرد أن علمت بالمؤامرة تُحاق ضده أسرعت وحذرته، وكان تهابه، ففي صلاتها قالت: "ألْقِ في فمي كلامًا مرصَّفًا بحضرة ذاك الأسد" (أس 14: 13) فهي تراه زوجًا حنونًا عليها كما أنها تراه قويًا كالأسد، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وعندما دخلت أستير إلى حضرته وهو في عزلته ولاح من اتقاد عينيه غضب صدره غابت عن وعيها، وهنا حوَّل الله قلب الملك نحوها فأسرع يلاطفها ويقول لها: "ما لكِ يا أستير؟! أنا أخوكِ لا تخافي. إنكِ لا تموتين، إنما الشريعة ليست عليكِ ولكن على العامة... لماذا لا تكلمينني؟ فأجابت وقال: إني رأيتك يا سيدي كأنك ملاك الله فاضطرب قلبي هيبة من مجدك. لأنك عجيب جدًا يا سيدي ووجهك مملوء نعمةً" (أس 15: 12 - 17) فالملك أحشويروش وهو جالس على عرشه والجواهر واللآلئ النفيسة تتلألأ على تاجه وبين طيات ملابسه، كان منظره مهوبًا، فعبّرت أستير عن هذه المهابة بأنها تشبه مهابة ملاك الله، ولذلك قالت: "رأيتك يا سيدي كأنك ملاك الله فاضطرب قبلي هيبة من مجدك" وأيضًا لاحظت أستير فاعلية النعمة الإلهيَّة التي حوَّلت وجه الملك المتجّهم وعينيه المتقدتين نارًا إلى وجه وديع وهذا ما عبرت عنه قائلة: "لأنك عجيب جدًا يا سيدي ووجهك مملوء نعمة".
_____
(1) دائرة المعارف الكتابية جـ 1 ص 210.
(2) أورده القس عيد صلاح - من العبودية إلى القصر ص 122.
(3) الايبذياكون فوزي مسعد - سفر أستير والعناية الإلهيَّة ص 44، 45.
(4) شرح وتفسير سفر أستير ص 45، 46.
(5) الايبذياكون فوزي مسعد - سفر أستير والعناية الإلهيَّة ص 52، 53.
(6) العهد القديم - مدخل ومسح شامل جـ3 - الأسفار الحكمية والأنبياء لفترة ما بعد السبي ص 45.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1485.html
تقصير الرابط:
tak.la/33ax7vt