يقول "زينون كوسيدوفسكي": أن عزرا أصدر "مرسومًا يقضي بوجوب إعادة كل المتزوجين من غريبات زوجاتهم إلى أوطانهن خلال ثلاثة أيام من صدور المرسوم، وإلاَّ فأنهم سيُعاقَبون بحجز أموالهم وممتلكاتهم ونزع جنسيتهم عنهم، فزرع ذلك المرسوم، الذي فرَّق الرجل عن زوجته الحبيبة، والأم العطوف عن أطفاله، زرع الألم والشقاء في الكثير من البيوت، وأساء لعلاقات اليهود مع جيرانهم من أبناء الشعوب الأخرى الذين تضايقوا كثيرًا من احتقار اليهود لبناتهم"(1).
ج: 1- لو تتبعنا الموقف بدقة، فإننا سنعرف أنه بمجرد وصول عزرا إلى أورشليم فوجئ بالزيجات المختلطة التي حرمتها الشريعة، وقد سقط فيها الشعب مع الرؤساء واللاويين والكهنة، وبذلك انحدروا إلى هوة عبادة الأوثان الشيطانية، فعزرا بحساسيته المرهفة ومشاعره الرقيقة قد سقطت عليه هذه الأخبار الكئيبة كالعاصفة الهوجاء بل كالصاعقة... الخطايا والخيانات التي عاشها بنو إسرائيل كأمور عادية، ولم يرتعد ولم يهتز بسببها أحد، اهتز لها وارتعد منها عزرا الكاهن، فغاص في بحور الأسى والألم وجاز في المذلة والعار، ومع أنه شخصيًا لم يرتكب هذه الحماقة إلاَّ أن هذا لم يخفف من وطأة مشاعر الأسى التي اجتاحته، حتى أنه مزَّق ثيابه ونتف شعر رأسه وذقنه وجلس متحيرًا ومرتعدًا، لأنه أدرك مدى الغضب الإلهي الذي سيحل بشعبه ثانية، فجثا على ركبتيه وصلّى: "اللّهُمَّ، إنِّي أَخْجَلُ وأَخْزَى من أَنْ أَرْفَعَ يَا إلهي وَجْهِي نَحْوَكَ، لأَنَّ ذُنُوبَنَا قَدْ كَثُرَتْ فَوْقَ رُؤُوسِنَا، وَآثَامَنَا تَعَاظَمَتْ إِلَى السَّمَاءِ" (عز 9: 6) وذكر عزرا وصية الله الحاسمة والصريحة التي حطمها الشعب ورؤساؤه وكهنته فقال: "والآنَ، فَمَاذَا نَقُولُ يا إلهنَا بَعْدَ هذَا؟ لأَنَّنَا قَدْ تَرَكْنَا وصَايَاكَ. الَّتِي أوصَيْتَ بها عَنْ يَدِ عَبِيدِكَ الأَنْبِيَاءِ قَائِلًا: إِنَّ الأَرْضَ الَّتي تَدْخُلُونَ لِتَمْتَلِكُوهَا هي أَرض مُتَنَجِّسَةٌ بِنَجَاسَةِ شُعُوبِ الأَرَاضِي، بِرَجَاسَاتِهِمِ... وَالآنَ فَلاَ تُعْطُوا بَنَاتِكُمْ لِبَنِيهِمْ ولا تَأْخُذُوا بَنَاتِهِمْ لِبَنِيكُمْ" (عز 9: 10 - 12) وعرض عزرا على الله نتيجة هذه الزيجات الشريرة الخطرة بعد أن نجّاهم الله من السبي وأعادهم إلى أورشليم فقال: "أَعْطَيْتَنَا نَجَاةً كَهذِهِ، أَفَنَعُودُ وَنَتَعَدَّى وَصَايَاكَ وَنُصَاهِرُ شُعُوبَ هذِهِ الرَّجَاسَاتِ؟ أَمَا تَسْخَطُ عَلَيْنَا حَتَّى تُفْنِيَنَا فَلاَ تَكُونُ بَقِيَّةٌ وَلاَ نَجَاة؟" (عز 9: 13، 14).
وهكذا كانت الصورة واضحة تمامًا أمام عزرا الكاهن. إنها مخالفة واضحة وصريحة للوصية الإلهيَّة ونتيجتها الطبيعية السقوط في العبادات الوثنية النجسة والهلاك الزمني والأبدي، وهذه حقيقة لا مراء فيها، ولهذا أحس الشعب ببشاعة هذه الخطية، فانخرط في البكاء وذرف دموع الندم الغزيرة "فَلَمَّا صَلَّى عَزْرَا وَاعْتَرَفَ وَهُوَ بَاكٍ وَسَاقِطٌ أَمَامَ بَيْتِ اللهِ، اجْتَمَعَ إِلَيْهِ مِنْ إِسْرَائِيلَ جَمَاعَةٌ كَثِيرَةٌ جِدًّا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالأَوْلاَدِ، لأَنَّ الشَّعْبَ بَكَى بُكَاءً عَظِيمًا" (عز 10: 1).. سقط عزرا على وجهه وبكى بكاءً مرًا، وقد مزَّق قلبه قبل أن يُمزّق ثيابه، وغطى الخزي وجهه قبل أن ينتف شعر لحيته ورأسه فتجمع حوله عدد كبير من الرجال والنساء والأولاد. رآه الرجال يبكي خطاياهم ويكتئب وينوح فشعروا أنهم سر تعاسة رجل الله فشاركوه البكاء، ورأته النسوة يبكي فبكين لبكائه ورأينه ينتحب فتحركت عواطفهن سريعًا بالنحيب، أمّا الأولاد الذين أحبوا عزرا وتعلَّقوا به، فهو بطل الإيمان والقدوة الحسنة، عندما رأوه يبكي لم يستطيعوا إمساك دموعهم عن الانهمار، وهكذا انتقلت مشاعر عزرا المرهفة وحسه الروحي للشعب كله، الذي أدرك مدى خطورة خطية الزواج المختلط فهي خطية:
أ - تمرُّد ضد وصايا الله وتحذيراته (تث 7: 1 - 4).
ب - خيانة لوصايا الآباء، ومنهم يشوع الذي حذرهم قبل رحيله من هذا العالم من هذه الخطية التي تؤدي إلى الإبادة (يش 23: 12، 13).
ج - خيانة للعهد الذي ارتبط به الآباء مع الله.
د - خيانة للزوجة العبرانية التي قد تكون تعرّضت للطلاق "امْرَأَةِ شَبَابِكَ الَّتِي أَنْتَ غَدَرْتَ بِهَا، وهى قَرِينَتُكَ وامْرَأَةُ عهْدِكَ" (ملا 2: 14).
2- ما هو الحل لهذه المشكلة؟... لم يأت الحل من قبل عزرا الكاهن، ولو أن هذا الحل كان في عقله وقلبه، إنما جاء عن طريق رجل غيور وهو " شَكَنْيَا بْنُ يَحِيئِيلَ" الذي " قَالَ لِعَزْرَا إِنَّنَا قَدْ خُنَّا إِلهَنَا وَاتَّخَذْنَا نِسَاءً غَرِيبَةً مِنْ شُعُوبِ الأَرْضِ. وَلكِنِ الآنَ يُوجَدُ رَجَاءٌ لإِسْرَائِيلَ فِي هذَا. فَلْنَقْطَعِ الآنَ عَهْدًا مَعَ إِلهِنَا أَنْ نُخْرِجَ كُلَّ النِّسَاءِ وَالَّذِينَ وُلِدُوا مِنْهُنَّ... وَلْيُعْمَلْ حَسَبَ الشَّرِيعَةِ. قُمْ فَإِنَّ عَلَيْكَ الأَمْرَ وَنَحْنُ مَعَكَ. تَشَجَّعْ وَافْعَلْ" (عز 10: 2 - 4).
ويقول "القمص تادرس يعقوب": "انهارت نفس عزرا عندما عرف أن من بين الذين جاءوا من السبي عوض تقديم ذبائح شكر لله القدوس، والالتزام بالحياة المقدَّسة، اختلطوا بشعوب الأرض، وتزوجوا بنساء وثنيات. إنها خيانة عظمى لله! إذ سمع عنها عزرا يقول: "مَزَّقْتُ ثِيَابِي وَرِدَائِي وَنَتَّفْتُ شَعْرَ رَأْسِي وَذَقْنِي وَجَلَسْتُ مُتَحَيِّرًا" (عز 9: 3). قدّم عزرا صلاة بصوت مرتفع لكي يسمعه كل الشعب الذين اجتمعوا لخدمة المساء. منظر هذا الكاهن القائد ساقط أمام بيت الرب يبكي على خطايا شعبه هزَّ قلوب الرجال والنساء، حتى الأطفال، فصار الكل يبكون بكاءً عظيمًا، فالحب الحقيقي النابع من قلب متواضع أكثر قوة وفاعلية من العظات المنمَّقة والتهديدات. لم يحسب عزرا سقوطه وبكاءه يفقدانه مهابته ككاهن قائدٍ، بل هما سمات القائد المحب الحقيقي"(2).
ويقول "ديريك كيدنر": "لم يندفع عزرا إلى توبيخ الشعب المتراخي بسياطه، ويدفعهم إلى العمل، وإنما اكتفى بأن ينخس ضمائرهم إلى الدرجة التي جعلتهم يستحثونه هو أن يتصرف. لقد استثارتهم حالة اليأس والإحباط التي بدت عليه إلى البحث وبسرعة عن منفذ حتى يوجد رجاء لإسرائيل (عز 10: 2، 3) ومهما يكن الثمن. كما أن استسلامه للحزن والأسى دفعهم إلى أن يسارعوا بالاستجابة بأكثر فاعلية وواقعية... ومن هنا كانت تلك الإجراءات الصارمة التي استحلف كل قطاع من الشعب أن يتقبلها وينفذها (الآية 5) والتي كانت جميعها من صميم اختيارهم. وهذا ما يتعدى التزامهم بتنفيذها. وفي هذا الأمر لم تلعب مشورته سوى دورًا محَّددًا"(3).
وبدأ عزرا يتخذ الخطوات العملية: "واسْتَحْلَفَ رُؤَسَاءَ الْكَهَنَةِ وَاللاَّوِيِّينَ وَكُلَّ إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا حَسَبَ هذَا الأَمْرِ، فَحَلَفُوا" (عز 10: 5). إذًا صاحب الاقتراح كان أحد الشجعان، وهو "شكينا بن يحيئيل" ووافق على هذا الاقتراح كل الشعب وقياداته المدنية والدينية، فصار الجميع ملتزمًا به، وأطلقوا نداءً في يهوذا وأورشليم لكيما يجتمع بنو السبي في أورشليم خلال ثلاثة أيام، وفي الاجتماع تم طرح المشكلة "فَأَجَابَ كُلُّ الجَمَاعَةِ وقَالُوا بِصَوْتٍ عَظِيم كَمَا كَلَّمْتَنَا كَذلِكَ نَعْمَلُ" (عز 10: 12). لقد أعلنوا موافقتهم بصوت عظيم لأنهم أدركوا أن مخالفة الوصية سيقودهم حتمًا للهلاك مع زوجاتهم وأولادهم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. نعم كان من الأفضل كثيرًا أن لا يقع الشعب في هذه الخطية من البداية، عوضًا أن يقع فيها ويُعالج تبعاتها، لأنه لا بد من تصحيح الأوضاع. أما الناقد فيرى أن العودة إلى الالتزام بالوصية جريمة نكراء ارتكبها عزرا في حق من تزوجوا بأجنبيات لأنه فرَّق الرجل عن زوجته الحبيبة، والأم العطوف عن أطفالها، مع أن هذا القرار لم يفرّق بين الأم وأطفالها، لأنها ستأخذ أطفالها معها، فقد قال شكنيا "نُخْرِجَ كُلَّ النِّسَاءِ وَالَّذِينَ وُلِدُوا مِنْهُنَّ"(عز 10: 3). كما أن انفصال الزوج عن الزوجة في مجتمع كثر فيه الطلاق لم يكن بمثاب الشر العظيم والكارثة العظمى في حياة الأسرة، لأن انفصاله عن زوجته وأولاده لا يمنعه من إعالتهم وتوفير احتياجاتهم المادية، وأيضًا الزوجة التي تقبل أن تتهوَّد تظل زوجة ولا يسري عليها قرار الانفصال هذا.
3- كان الزواج بالوثنيات محرَّمًا، مثله مثل الزواج من المحارم، فلو تزوج رجل من أخته أو امرأة أبيه أو خالته أو عمته وأنجب منها، فهل يقول أحد يجب غض النظر عن هذا الخطأ حفاظًا على سلامة الأسرة..؟! بالقطع لا، ومثلها لو تزوج رجل من أهل الكتاب بفتاة مسلمة وأنجب منها هل يكون زواجه قانونيًا؟ بالقطع لا، وهل سيقر المجتمع مثل هذه الزيجة..؟! بالقطع لا، بل من حق أي إنسان في المجتمع رفع دعوى تفريق بين هذا الزوج وزوجته، والقضاء سيحكم بالتفريق بينهما، ولو أن رجلًا مسلمًا متزوج ويعول، وبعد ذلك خرج بآراء يراها البعض أنها زندقة وكُفر، فيجوز لأي شخص في المجتمع رفع قضية للتفرقة بيت هذا الزنديق وزوجته المسلمة، وقد حدث هذا ورأينا القضاء يفرق بينهما.
4- تظهر خطورة الزواج المختلط في ضياع هوية الشعب (اليهودي) حتى أن الجيل الجديد يخرج للحياة مرتبطًا بديانة أُمهِ الوثنية ولغتها، فيقول نحميا: "فِي تِلْكَ الأَيَّامِ أَيْضًا رَأَيْتُ الْيَهُودَ الَّذِينَ سَاكَنُوا نِسَاءً أَشْدُودِيَّاتٍ وَعَمُّونِيَّاتٍ وَمُوآبِيَّاتٍ. وَنِصْفُ كَلاَمِ بَنِيهِمْ بِاللِّسَانِ الأَشْدُودِيِّ، وَلَمْ يَكُونُوا يُحْسِنُونَ التَّكَلُّمَ بِاللِّسَانِ الْيَهُودِيِّ، بَلْ بِلِسَانِ شَعْبٍ وَشَعْبٍ" (نح 13: 23، 24). ولهذا أكد "إبراهيم" على عبده "لعازر الدمشقي" قائلًا: "أَسْتَحْلِفَكَ بِالرَّبِّ إِله السَّمَاء وإِلهِ الأَرْض أَنْ لا تَأْخُذَ زَوْجَةً لابنِي مِنْ بَنَاتِ الْكَنْعَانِيِّينَ الَّذِينَ أَنَا سَاكِنٌ بَيْنَهُمْ" (تك 24: 3) وقال إسحق لابنه يعقوب: "لا تَأْخُذْ زَوْجَةً مِنْ بَنَاتِ كَنْعَانَ" (تك 28: 1) ورأينا مدى تأثر شمشون بدليلة (قض 16) وكيف أسقطت النساء الأجنبيات أحكم حكماء الأرض في عبادة الأوثان فغضب الرب عليه وشق المملكة عن ابنه وأقام له خصوم (1مل 11).
5- نحن نعلم أن هذا القرار لم يكن سهلًا، فالنساء المنفصلات يحملن أطفالهنَّ ويخرجن باكيات هائمات على وجوههنَّ، بعضهنَّ يلجأن إلى أهاليهن وبعضهنَّ لا يجدن ملجًأ ولا ملاذًا، فهذه هي صورة الخطية وثمارها المرة، والتوبة لا تكفي بدون تصحيح المسار، فهذه زيجات خاطئة باطلة، وما بُني على باطل فهو باطل... كان لا بد من تصحيح الأوضاع بالانفصال عن النساء الغريبات، مهما كانت العلاقة قد توطدت وتوثقت، ومهما كان جمال هذه العشرة، ومهما تعمّقت تلك الخطية وتشعبت وولدت بنين وبنات، وهكذا دائمًا التخلي عن الخطية المحبوبة ليس بالأمر السهل، ولكن البديل هو الهلاك الأبدي، كان على تلك الزوجات اللواتي رفضن التهوُّد وعبادة الإله الحي أن يرجعن إلى ذويهن بأطفالهن، وبذلك نستطيع أن نقول أن القرار إلى حد بعيد كان في يد الزوجة، هل تترك عبادتها النجسة وآلهتها التي هي شياطين أم أنها تضحي بزوجها؟ والزوجة التي رفضت التهوُّد وفضلت عبادتها المرذولة على عبادة الله الحي، لا مكان لها في جماعة الله المقدَّسة.
_____
(1) ترجمة د/ محمد مخلوف - الأسطورة والحقيقة في القصص التوراتية ص 334.
(2) تفسير سفر عزرا ص 160.
(3) التفسير الحديث للكتاب المقدَّس - سفر عزرا ونحميا ص 99.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1462.html
تقصير الرابط:
tak.la/hfyc4jf