يقول " ليوتاكسل": "ولكن النُقَّاد أشاروا بحق إلى أن جبل الكرمل كان يقع في مملكة الصيدونيين والخلط بينهما وبين مملكة إسرائيل مرفوض. والسؤال الآن، هو هل كان بمقدور رعايا المليك الإسرائيلي أخآب أن يجتمعوا في أرض غريبة ليجيبوا على تحدي إيليا؟ ونحن نعتقد أن جبل الكرمل ظهر في هذه الرواية نتيجة لوهن ذاكرة الحمامة المقدَّسة، وضعف معلوماتها في مادة الجغرافيا. ويؤكد الناقدون أيضًا أننا إذا اعتبرنا هذا المقطع صحيحًا وأخذناه كما هو، فأن ذلك يعني أن الشعب كان ذا ضمير حي لأنه قَبِلَ عرض إيليا بالإجماع"(1).
ج: 1- منع الله تقديم الذبائح خارج خيمة الاجتماع قائلًا: "كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ يَذْبَحُ بَقَرًا أَوْ غَنَمًا أَوْ مِعْزًى فِي الْمَحَلَّةِ، أَوْ يَذْبَحُ خَارِجَ الْمَحَلَّةِ، وَإِلَى بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ لاَ يَأْتِي بِهِ لِيُقَرِّبَ قُرْبَانًا لِلرَّبِّ أَمَامَ مَسْكَنِ الرَّبِّ، يُحْسَبُ عَلَى ذلِكَ الإِنْسَانِ دَمٌ. قَدْ سَفَكَ دَمًا. فَيُقْطَعُ ذلِكَ الإِنْسَانُ مِنْ شَعْبِهِ" (لا 17: 3، 4).
"الْمَكَانُ الَّذِي يَخْتَارُهُ الرَّبُّ إِلهُكُمْ مِنْ جَمِيعِ أَسْبَاطِكُمْ لِيَضَعَ اسْمَهُ فِيهِ، سُكْنَاهُ تَطْلُبُونَ وَإِلَى هُنَاكَ تَأْتُونَ، وَتُقَدِّمُونَ إِلَى هُنَاكَ مُحْرَقَاتِكُمْ وَذَبَائِحَكُمْ وَعُشُورَكُمْ.." (تث 12: 5، 6).
"اِحْتَرِزْ مِنْ أَنْ تُصْعِدَ مُحْرَقَاتِكَ فِي كُلِّ مَكَانٍ تَرَاهُ. بَلْ فِي الْمَكَانِ الَّذِي يَخْتَارُهُ الرَّبُّ فِي أَحَدِ أَسْبَاطِكَ. هُنَاكَ تُصْعِدُ مُحْرَقَاتِكَ" (تث 12: 13، 14).
ومع هذه الوصايا الواضحة فأنه كان هناك استثناءات، فأمر الله جدعون أن يهدم مذبح البعل ويبني مذبحًا على رأس الحصن ويصعد عليه ذبيحة في أرض منسى بعيدًا عن خيمة الاجتماع (قض 6: 25 - 27) وقَبِلَ الله ذبيحة جدعون، وعندما حلَّ الوباء بأرض إسرائيل لأن داود أحصى الشعب افتخارًا وكبرياءً وأهلك سبعين ألفًا، وصرخ داود للرب فجاءه جاد النبي وقال له: "أَقِمْ لِلرَّبِّ مَذْبَحًا فِي بَيْدَرِ أَرُونَةَ الْيَبُوسِيِّ" (2صم 24: 18) وأصعد داود ذبيحة للرب بعيدًا عن خيمة الاجتماع، وقبل الله هذه الذبيحة " وَاسْتَجَابَ الرَّبُّ مِنْ أَجْلِ الأَرْضِ، فَكَفَّتِ الضَّرْبَةُ عَنْ إِسْرَائِيلَ" (2صم 24: 25).
وعندما بُني الهيكل حلَّ محل خيمة الاجتماع، لم يكن مسوحًا لأحد أن يُقدم ذبائح لله في مكان آخر غير الهيكل، ولذلك آخذ الله ملوك يهوذا الذين تركوا المرتفعات التي يقدم عليها ذبائح للرب، أما إيليا النبي فكان في موقف تحدٍ مع العبادة الوثنية، فهل من المعقول أن يدعو إيليا النبي أخآب الملك ومعه كهنة البعل إلى أورشليم لتقديم ذبيحة على مذبح المحرقة في أورشليم..؟! ومن يسمح لكهنة البعل إصعاد ذبيحة للبعل على مذبح الرب بأورشليم؟! وهل يصح أن تسيل دماء أنبياء البعل في المكان المقدَّس فتنجسه..؟! أن الله يتفهم الأمور جيدًا ولديه مرونة في التعامل مع البشر، ولذلك قَبِلَ الله ذبيحة إيليا " فَسَقَطَتْ نَارُ الرَّبِّ وَأَكَلَتِ الْمُحْرَقَةَ وَالْحَطَبَ وَالْحِجَارَةَ وَالتُّرَابَ، وَلَحَسَتِ الْمِيَاهَ الَّتِي فِي الْقَنَاةِ" (1مل 18: 38) وذلك دون أن يتحمل الشعب مشقة السفر إلى أورشليم.
2- أوصى الله في العهد الجديد بمحبة الأعداء: "وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: أَحِبُّوا أَعْدَاءَكُمْ. بَارِكُوا لاَعِنِيكُمْ. أَحْسِنُوا إِلَى مُبْغِضِيكُمْ، وَصَلُّوا لأَجْلِ الَّذِينَ يُسِيئُونَ إِلَيْكُمْ وَيَطْرُدُونَكُمْ" (مت 5: 44).. فلماذا لم يلتزم إيليا بهذه الوصية تجاه كهنة البعل؟:
أ - محبة الأعداء شيء والحكم على الأمور الخاطئة شيء آخر، فالإنسان يجب أن يحب الأعداء ويتسامح معهم في الأمور الحياتية الدنيوية، حتى لو تعرَّض لظلم واضطهاد منهم، إنما يجب أن لا يتخلى عن الحكم العادل على عباداتهم، هكذا كان آلاف الشهداء يحبون جلاديهم، ولكن في نفس الوقت رفضوا بقوة شديدة السجود لآلهتهم، بل استهانوا بها وسخروا منها، وكما أن الإنسان مُطالب بمحبة الجميع فإن هناك شرطًا لهذا، وهو أن محبتهم هذه لا تتعارض مع الحق الإلهي... لقد أحب بطرس الرسول رؤساء الكهنة والكهنة ولكنه واجههم بخطاياهم قائلًا: "إِنْ كَانَ حَقًّا أَمَامَ اللهِ أَنْ نَسْمَعَ لَكُمْ أَكْثَرَ مِنَ اللهِ، فَاحْكُمُوا" (أع 4: 19). " يَنْبَغِي أَنْ يُطَاعَ اللهُ أَكْثَرَ مِنَ النَّاسِ" (أع 5: 29) والله الذي أوصى بمحبة الكل قال: "مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي" (مت 10: 37).
ب- محبة الأعداء لا تعني قبول آرائهم الخاطئة. لقد أضلَّ كهنة البعل الشعب وقادوه لعبادة البعل والسجود له، أما إيليا الذي قال عن نفسه " أنا بقيت نبيًا للرب وحدي وأنبياء البعل أربع مئة وخمسون رجلًا" (1مل 18: 21) فقد دخل معهم بقلب شجاع معركة التحدي، وعندما فشل كل هؤلاء الكهنة أن يجعلوا النار تشتعل في الذبيحة سخر منهم إيليا، أي سخر من عباداتهم الباطلة الشيطانية، وذلك لكيما يهز ثقة الملك والشعب بهذه الآلهة الباطلة، فلو كان هؤلاء آلهة لعاقبوا إيليا أشد عقاب. أما إيليا فقد سخَر من بعل هذا الذي دعوه إلهًا " وَعِنْدَ الظُّهْرِ سَخِرَ بِهِمْ إِيلِيَّا وَقَالَ: ادْعُوا بِصَوْتٍ عَال لأَنَّهُ إِلهٌ لَعَلَّهُ مُسْتَغْرِقٌ أَوْ فِي خَلْوَةٍ أَوْ فِي سَفَرٍ! أَوْ لَعَلَّهُ نَائِمٌ فَيَتَنَبَّهَ" (1مل 18: 27)، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى. وجاء في هامش " الكتاب المقدَّس الدراسي": "لعله مستغرق في التأمل أو في خلوة... أو لعله نائم: يسخر إيليا منهم، إلاَّ أن كلماته كانت تكشف عن معرفته بالأساطير المرتبطة بالبعل والتي كانت تصف الآلهة على أن لهم سمات بشريَّة"(2). وانتهى الأمر بإعلان بطلان هذه العبادة الوثنية وذبح كهنتها، وبحسب نظرة الناقد فأنه يرى أن ذبح هؤلاء الكهنة جريمة لا تتفق مع وصية محبة الأعداء، متغافلًا المسئولية التي تقع على عاتق إيليا النبي، وأنه ليس من حقه تبرئة من أدانتهم السماء. إن تساهل أخآب مع بنهدد ملك آرام استوجب العقوبة الإلهيَّة " قَالَ الرَّبُّ: لأَنَّكَ أَفْلَتَّ مِنْ يَدِكَ رَجُلًا قَدْ حَرَّمْتُهُ، تَكُونُ نَفْسُكَ بَدَلَ نَفْسِهِ، وَشَعْبُكَ بَدَلَ شَعْبِهِ" (1مل 20: 42).
جـ - عاش إيليا في العهد القديم فلم يكن مطالبًا بتنفيذ وصايا العهد الجديد التي لم تكن قد أُعطيت بعد.
3- كانت حدود جبل الكرمل ضمن أرض إسرائيل، وإلى هذا الجزء صعد إيليا وأخآب والشعب، ولم يذهبوا إلى أرض لا تخصهم، والدليل على هذا واضح وصريح، وهو أنه عندما قسم يشوع الأرض على الأسباط في غرب الأردن "خَرَجَتِ الْقُرْعَةُ الْخَامِسَةُ لِسِبْطِ بَنِي أَشِيرَ... وَوَصَلَ إِلَى كَرْمَلَ غَرْبًا وَإِلَى.." (يش 19: 24 - 31) وكان لأليشع سكن في جبل الكرمل (2مل 4: 25) وكان فيه مذبح للرب مُهدَّم، أعاد إيليا ترميمه (1مل 18: 30) باثني عشر حجرًا إشارة للأسباط الاثني عشر، وتبكيتًا لبني إسرائيل الذين انشقوا عن مذبح الرب.
وجاء في " دائرة المعارف الكتابية": "الكرمل: سلسلة جبال من الحجر الجيري تمتد حوالي عشرين ميلًا بمحاذاة ساحل البحر المتوسط تبدأ جنوبي خليج عكا حيث توجد مدينة حيفا وميناؤها الكبير، وتتجه إلى الجنوب الشرقي، جنوبي نهر قيشون، في وادي يزرعيل... وعلى ارتفاع 500 قدم " دير مار إيلياس" (النبي إيليا) ويوجد أسفل الدير على الجانب الغربي للنتوء كهف يُقال أنه المغارة التي اختبأ فيها إيليا (1مل 19: 9 - 14) ولعلها أيضًا المكان الذي حدثت فيه الوقائع المذكورة في (2مل 1: 9 - 14) ويأخذ الجبل بعد ذلك في الارتفاع إلى أن يبلغ أقصى ارتفاعه في "الصفيه" (1732 قدمًا) وتنخفض قمة المحرقة (حي ذبح إيليا أنبياء البعل) عن ذلك بنحو 55 قدمًا. وتوجد الآن على سفح الكرمل عدة مستوطنات إسرائيلية وقريتان كبيرتان من قرى الدروز، ويمتد سهل شارون إلى الجنوب.
وقد أُشتهر جبل الكرمل بجماله وخصوبته، وتوجد به بعض ينابيع المياه العذبة، ولكن المورد الرئيسي للمياه، هو المياه التي تُجمَع في موسم الأمطار في أحواض كبيرة، وكانت تغطيه غابات البلوط وبساتين الزيتون والكروم. ومن هنا جاء اسمه " الكرمل" (أي المثمر) وفي فصل الربيع يلبس الكرمل حلة جميلة من الأزهار متعددة الألوان (أنظر 2 أي 26: 10).. وكانت حدود أسباط أشير وزبولون ويساكر ومنسى تلتقي عند جبل الكرمل، وكانت هذه المرتفعات موضع نزاع على الدوام... وكان الموقع ملائمًا: لأن جبل الكرمل كان منطقة حدود وموضع نزاع دائم بين الفينيقيين والإسرائيليين، أي بين الإله الفنيقي " بعل " وبين إله بني إسرائيل "يهوه". وعقب انتصار إيليا على أنبياء البعل، صعد إيليا إلى رأس الكرمل، وهناك شاهد علامة الغيمة الصغيرة التي اعتبرها إيليا بشيرًا بانتهاء الجفاف وهطول المطر الغزير (1مل 18: 42 - 45)"(3).
4- يشكك الناقد في هذه القصة، ويقول لو قبلنا بصحتها فمعنى هذا أن شعب بني إسرائيل لهم ضمير حي لأنهم قبلوا عرض إيليا، ودعنا نتساءل: لماذا قَبِلَ الشعب عرض إيليا النبي؟
أ - قَبِلَ الشعب هذا العرض لأن الشعب كان في محنة ومجاعة، فمنذ ثلاث سنوات والمطر قد توقف تمامًا، والملك ظل يفتش عن إيليا في كل ربوع إسرائيل، والذين ينكرون وجوده لديهم كان يستحلفهم على هذا... فلماذا كل هذا العناء..؟ لأن الملك يعلم تمامًا أن إيليا هو الذي أغلق أبواب السماء فلم تمطر، والشعب الذي اقترب من الهلاك يريد الخلاص من هذه الأزمة التي تهدد حياته وحياة مواشيه، ولذلك سرَّ بعرض إيليا ووافق على الفور " فَأَجَابَ جَمِيعُ الشَّعْبِ وَقَالُوا: الْكَلاَمُ حَسَنٌ" (1مل 18: 24).
ب - كان عرض إيليا يتمشى مع العقل والمنطق تمامًا، وهذا الشعب كان معظمه يسقط في حبائل كهنة البعل وقد خُدع بكلامهم، حتى ظن هذا الشعب أن بعل إله حقيقي، وهو المسئول عن خصوبة الأرض وحفظ الماشية، بينما يعتقد إيليا بغير هذا، فهم أرادوا أن يثبتوا لإيليا صحة معتقدهم لذلك قبلوا هذا التحدي، ليخلصوا من إيليا إلى الأبد. وإن كان أنبياء البعل قد خدعوهم فيكتشفون الحقيقة، ويخلصون أيضًا من هؤلاء الكهنة المخادعين.
_____
(1) التوراة كتاب مقدَّس أم جمع من الأساطير ص 417.
(2) الكتاب المقدَّس الدراسي ص 838.
(3) دائرة المعارف الكتابية جـ 6 ص 341، 343.
الكتاب المقدس: بحث، تفاسير | القراءات اليومية | الأجبية | أسئلة | طقس | عقيدة | تاريخ | كتب | شخصيات | كنائس | أديرة | كلمات ترانيم | ميديا | صور | مواقع
https://st-takla.org/books/helmy-elkommos/biblical-criticism/1299.html
تقصير الرابط:
tak.la/fbt87q7